1- العودة من لبنان إلى أورفا
ما هي المدّة التي قضاها الأب ليونار في بعبدات؟ ستة أشهر تقريبًا، أي منذ بدء الفرصة الصيفيّة في معهد معمورة العزيز حيث كان، حتّى آخر السنة 1911، وقبل عيد الميلاد حين عاد إلى مركز أورفا، حيث إقامة رئيس الإرساليّة، والأب بونافنتورا البعبداتي، كما يتّضح من الرسالة التالية:
أبتِ الرئيس العامّ الجزيل الاحترام
كنت أرغب في الكتابة لك، في مناسبة العام الجديد، لكنّني لم أتمكّن من ذلك، لأنّ البريد التركيّ لا يتسلّم الرسائل الموجّهة إلى إيطاليا، بسبب الحرب.1 لذا، قرّرت توجيه الرسالة إلى إزمير، راجيًا من أحد آبائنا إيداعها البريد النمساويّ.
…علاوة على ذلك، كما تعلم يا أبتِ الجزيل الاحترام، لقد ذهبتُ إلى لبنان، لدواعٍ صحيّة. إنتظرتُ وصول الإذن لأكتب لك وأشكرك. قال لي الرئيس بأنّ الإذن سيُرسَل مباشرةً إلى لبنان، لكنّه لم يصلني لغاية اليوم.
أبتِ الجزيل الاحترام، إنّي أشكرك، بكلّ حرارة، على الإذن الذي منحتنيه، وأنا ممتنٌّ لك كثيرًا. مضى أكثر من ثلاثة أشهر على عودتي إلى الارساليّة، والحمد لله، تحسّنت حالتي الصحيّة، وما زال يلزمها بعض التحسّن.2
أسعد شربل قرباني
(1896 - 5/9/1995)
يذكر بعض شيوخ بعبدات، ومنهم المرحوم أسعد شربل قرباني، رؤية الأب ليونار يجوب طرقات القرية، والبعبداتيّون يدلّون عليه بالأصبع قائلين: هذا هو المرسَل الكبّوشي الشجاع إلى بلاد ما بين النهرين.
3
إستقرّ إذًا الأب ليونار في مركز أورفا، وسيبقى فيه سنتين ونصف، حتّى آب 1914، حين سيُعاد توزيع الرهبان على المراكز بسبب التحاق الرهبان الفرنسيين بالخدمة العسكريّة المفروضة عليهم مع بداية الحرب العالميّة الأولى، وسيُعيَّن في ماردين.
2- مدينة أورفا
هي مدينة أور القديمة، موطن إبراهيم الخليل، صارت إديسّا السريانيّة العظيمة، وأطلق عليها العرب اسم الرّها، واليوم اسمها أورفا.
هناك رواية قديمة تعود إلى زمن يسوع المسيح، ودخلت التقليد المسيحي، تقول إنّ أبجر ملك إديسّا أرسل أحد أعوانه إلى الربّ يسوع يطلب منه أعجوبة الشفاء من البرص. وبالفعل، شُفي الملك من برصه، بعد أن استلم من الرسول صورة يسوع التي رسمها بيده، ووضعها على منكبيه، فطار صيت الصورة وأُطلق عليها تسمية “الصورة غير المصنوعة بيد إنسان”.
وهناك تقليد آخر يقول إنّ الربّ يسوع بعث برسالة إلى الملك تحمل وعدًا منه بأنّ الأعداء لن يتمكنوا من دخول المدينة.
وبفضل تلك الرواية وتلاوينها المختلفة، ووجود تلك “الذخائر” العائدة إلى الربّ يسوع فيها، اكتسبت المدينة شهرة واسعة، وصارت مقصد الحجّاج الذين توافدوا بكثرة إليها، والطلاب الذين التحقوا بمدرسة اللاهوت الذائعة الصيت فيها، حيث دَرَّس مار افرام وربّولا.
احتلّ المسلمون المدينة في أوائل القرن السابع، وأطلقوا عليها تسمية “الرّها”. وفي أوائل القرن العشرين، بلغ عدد سكان المدينة حوالي 55000 نسمة موزّعة على النحو التالي:
- مسلمون (أتراك وأكراد وغيرهم) = 40833
- مسيحيّون من جميع الطوائف = 13843
- يهود = 324
فرقة من الدراويش الدوّارين في أورفا
(أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة في المطيلب – لبنان)
شهدت أورفا أيّامًا حزينة غداة عيد الميلاد العام 1895، في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر كانون الأوّل، حين هجمت عصابات القتلة التي أرسلها السلطان عبد الحميد على المدينة، وأحرقت الحيّ المسيحي بكامله، وقتلت مَن فيه.
يروي الأب جان باتيست دوكاستروجيوڤاني ما حدث، ويقول:
لم يكن بين أيدي المسيحيين أيّة قطعة سلاح بعد أن تمّ مصادرتها بناءً على أوامر الوالي الذي وعدهم بالحماية. عند الظهر، رُفعت الراية الخضراء على مئذنة الجامع الكبير، وكانت إشارة البدء بالمجزرة. اقتحم الجنود والأتراك والعرب أبواب المنازل، مدججين بالسّلاح، وحوّلوها إلى مستنقعات من الدم. إنّ الدرويش التركي مولاي سيّد أحمد قتل لوحده، في ذلك اليوم، مائة وعشرين مسيحيًّا ذبحهم كالخراف.
امتلأت كنيسة الأرمن بالمؤمنين المذعورين، بخاصّة النساء والفتيات. وما أن انتهى هؤلاء الوحوش من قتل الرجال حتّى اندفعوا إلى الشرفات حيث النساء الخائفات. جرّدوهنّ من كلّ شيء، ثمّ عادوا إلى أسفل يحطمون بالفؤوس الأعمدة الخشبيّة الداعمة للشرفات، وها هي كتلة كبيرة من المخلوقات تسقط على الجثث الموجودة في أرض الكنيسة. ثمّ قاموا بصبّ ثمانين برميلاً من النفط على الضحايا، وأضرموا النار فيها.
وفيما كانت الصرخات الحادّة ترتفع إلى السماوات، كانت النساء والأولاد الأتراك تلفظ صيحات الفرح والانتصار. وفي غضون بضع ساعات، لاقى أربعة آلاف شخص نحبهم في أورفا.4
3- أورفا عند مجيء الأب ليونار إليها
كيف كان الوضع في اورفا عند وصول الأب ليونار إليها؟ هذا ما تقوله إحدى راهبات لونس لوسونييه الفرنسيسكانيّات:
كان للآباء الكبّوشيين مدرسة واحدة في تلك المدينة الأرمنيّة، لكنّهم اضطرّوا إلى فتح مدرستين جديدتين في الحيّ الأرمني لتجنيب البنات والأطفال المرور بالحيّ التركي وهم بطريقهم إلينا، وتلافي شتائم الأتراك بحقّهم. لقيت المدرستان إقبالاً كبيرًا، وهما مدعوّتان، في المستقبل، لمنافسة مدارس البروتستانت والمنشقّين، بشكل واسع.
يتولّى إدارة مدرسة الصبيان معلّمان اثنان، فيما تتولّى الأخت تيودور وثلاث معلّمات من أهل البلد إدارة مدرسة البنات الحديثة التي يؤمّها أكثر من مائتي تلميذ. إنّ الأولاد المساكين الذين كانوا بالكاد يعرفون مبادئ الدين قبل دخولهم مدرستنا، صاروا يتلون الصلوات بطلاقة، ويجيبون على أسئلة التعليم المسيحي بشكل صحيح.
تلامذة مدرسة الكبّوشيين في أورفا
(أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة في المطيلب – لبنان)
وإلى جانب هاتين المؤسّستين، لدينا المدرسة القديمة المفتوحة أمام السريان والكلدان، والواقعة في حرم الدير، يؤمّها حوالي 110 إلى 115 تلميذًا ندرّسهم الفرنسيّة والتركيّة والعربيّة والأرمنيّة. عند وصولنا إليها، ألقى التلاميذ أمامنا بضع كلمات ترحيبيّة بالفرنسيّة. وفي يوم من أيّام الأسبوع، فيما كنتُ أتفقد الصفوف برفقة الأب الرئيس، دُهشتُ من السهولة التي يتكلّم بها هؤلاء الأطفال لغتنا. أمام هذا الاندهاش، علّق الأب الرئيس قائلاً إنّ هؤلاء الأطفال كانوا سابقًا في المأوى الذي تديره الراهبات، فتعلّموا منهنّ اللكنة الفرنسيّة الصافية، وهذا ما لا يستطيع أي غريب القيام به إلاّ بصعوبة.
يُشغل المأوى جزءًا من بيت الراهبات الفرنسيسكانيّات، وجزء آخر تُشغله مدرسة لبنات الحيّ، ومستوصف يجد فيه المرضى الفقراء العلاجات المجانيّة التي تكلّفهم كثيرًا لو اشتروها من مكان آخر.
في أورفا كما في ديار بكر تتنافس الراهبات الغيورات فيما بينهنّ لجعل هؤلاء الفتيات يصبحن مسيحيّات صالحات، وأمّهات ممتازات. وقد عُرضت أمامي المطرّزات والأقمشة التي يصنعها تلامذة المدرسة، وهي ذات جمال ملفت.
منذ الأحداث الأخيرة، قامت الأم سيسيل بفتح مشغل للأرامل الأرمنيّات تعمل فيه ستّون أرملة.5
4- الأب ليونار يتسلّم إدارة مدرسة أورفا
يُطلع الأب ليونار رئيسه العامّ في روما على نشاطاته في أورفا، ويقول:
حضرة الأب العامّ الجزيل الاحترام
مع ٱقتراب حلول السنة الجديدة، أبعث إليكم بهذه الرسالة تتميماً لواجبٍ بنويّ، أي تقديم أمانيّ مع أصدق التهاني. إني أقدّم لكم، إذاً، أيّها الأب الجزيل الاحترام، أخلص التهاني والأماني البنويّة في عيدَي الميلاد ورأس السنة. لتكن سنة النِعَم ١٩١٣ ينبوعًا لكلّ نعمةٍ ولكلّ خير، وليحفظكم الربّ طويلاً ويعضدكم بنعمته القديرة.
أنا في أورفا، منذ سنة، والحمد للّه، أنعم بالسرور، وأهتمّ بخدمة الوعظ المقدّسة وخدمة الاعتراف، بالرغم من أنّني لم أستعد صحّتي كاملةً بعد؛ بالإضافة إلى أنّه عُهدَ إليّ القيام بإلقاء مواعظ الصوم المقبِل. وقد أَوكَلَ إليّ الأب الرئيس، مؤخَّرًا، الاهتمام بالمدرسة، فباشرتُ المهمّة من كلّ قلبي. يبلغ عدد أولادنا الكاثوليك مع السريان والأرمن الهراطقة، وبعض المسلمين، حوالي مئةٍ وثلاثين، ما عدا أطفال الميتم.
إنّ المدرسة في حالٍ جيّدة، بفضل ثلاثة رهبانٍ آخرين يكرّسون نشاطهم من أجل الشبيبة. نجد بعض الصعوبة بسبب تعدّد اللغات التي نعلّمها: الفرنسيّة والعربيّة والتركيّة والأرمنيّة والسريانيّة؛ هذه هي اللغات التي نعلّمها في مدرستنا. نشرح العقيدة المسيحيّة للجميع، بٱنتظام، وبدون تمييز. هذا هو هدفنا الأوّل، من خلال قبولنا هؤلاء الهراطقة المساكين الذين يجهلون أبسط واجباتهم الدينيّة.
في الوقت الحاضر، وضعُنا دقيق، أسوةً بجميع المسيحيّين في هذه البلاد، بسبب الحرب القائمة بين تركيّا والدول البلقانيّة [إشارة إلى حرب البلقان الأولى التي اندلعت في تشرين الأوّل 1912 ودامت حتّى أيار 1913، بين دول اتحاد البلقان (بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود)، والإمبراطورية العثمانيّة]، لأنّ الأتراك يعتبرونها حربًا مسيحيّة ضدّ أتباع الرسول. ومع هذا، لا يسعنا، حتى اليوم، أَنْ نتذمّر، بالرغم من وجود تهديداتٍ عديدة. في كلّ الأحوال، نحن نضع نفوسنا، كلّيًّا، بين يدي الربّ. لتكن مشيئته القدّوسة.
لقد ذهب العديد من العرب والأكراد إلى الحرب، ولا يزالون. مساكين! إنّهم يستدعون شفقتنا، حين نراهم يذهبون كالنعاج إلى المسلخ، محرومين من الضروريّات، ومن دون جهوزيّةٍ كافية، ومع ذلك، يتقدّمون إلى الأمام، بشجاعةٍ مدهشة. وبما أنّه ينقصهم كلّ شيء، بما في ذلك الخبز، فهم ينهبون كلّ شيء، ويزرعون الرعب والبؤس، حيثما حلّوا. لنأمل في أن يضع الربّ حدّاً نهائيًّا سريعًا لجميع هذه المآسي، ويمنح السلام والاستقرار.6
5- الأب بونافنتورا يتسلّم أمانة الصندوق في أورفا
يقول الأب بونافنتورا في رسالته إلى الأب العامّ ما يلي:
بمناسبة مرور سبع سنوات على وجودي في هذا المركز، أُريدُ أن أعبّر لكم عن شكري للربّ الذي وضعني بين أيدي رؤساء محليين ممتازين، والتنويه بالرئيس العتيد الذي غادرنا، وأصبح رئيس أساقفة إزمير، الأب جان انطوان دوميلان القدّيس. إنّ ذكرى حياته المملوءة قداسة، وغيرته الرسوليّة، ما زالت حاضرة فينا، ومطبوعة في جميع القلوب.
باستطاعتنا القول، أيّها الأب الجليل، إنّ الربّ عَوّض علينا هذه الخسارة المؤلمة بوفرة، وأعطانا رئيسًا جديدًا محترمًا، الأب آنج دوكلاميسي الذي كسب القلوب كلّها بواسطة فضائله اللامعة، وحكمته الواسعة. أشهد على هذا الأمر من خلال خبرتي الخاصّة، بعد أن التقيتُ جميع الآباء والإخوة، أثناء الفرصة الصيفيّة الماضية.
إنّه رجل الله الهادئ والمبتسم دائمًا، على الرغم من همومه ومشاغله الكثيرة. وأكثر ما يُشغل باله هي الأوضاع الماليّة، والصندوق الفارغ دائمًا، وخشيته من ترتيب ديون جديدة على الإرساليّة، وهو يتلقّى نداءات مستمرّة من جميع المراكز، في كلّ مرّة يرد البريد إليه، تطالبه بتسديد المصاريف المترتبة، وأجور الأساتذة الذين يطالبون بزودة، مهدّدين بالتوقّف عن التعليم ومغادرة المدرسة في حال لم يتمّ الاستجابة لمطالبهم، ألخ… وعلى الرغم من نيّته الطيّبة لتلبية تلك المطالب، لكنّه يجيب: «لا أستطيع أن أعمل لكم أكثر مما هو متفق عليه ولكن، كي لا تموتوا جوعًا، أستطيع دفع رواتبكم مسبقًا، وهذا الأمر سوف يرتّب علينا ديونًا إضافيّة».
لقد بلغ العجز في مدفوعات السنة الماضية والسنة التي قبلها، في أورفا، مبلغ 1700 فرنك، على الرغم من كلّ التوفيرات في المصروف. لم أكن لأجرؤ على الكلام عن هذه الأمور لو لم يُفرَض عليَّ تولّي أمانة الصندوق في إرساليّة أورفا.7
6- رهبان أورفا يعيشون حياة أخويّة متماسكة
يواصل الأب بونافنتورا رسالته من أورفا، ويقول:
أنا هنا برفقة حضرة الأب الرئيس، والأب ليونار البعبداتي، والأب أتاناس، والأخ الحبيب رافائيل من الموصل، وذلك منذ سنة ونيّف. إنّهم من المرسَلين الشباب الممتازين. وبالفعل، لا يمكن للمرء أن يكون له رفقة أفضل من هذه، لأنّ المحبّة الكاملة تسود فيما بيننا. نتفاهم مع بعضنا البعض بشكل كامل، ويقوم كلّ واحد منّا بواجباته اليوميّة، أكان في الكنيسة، أم مع الأولاد في المآوي، أو في مدرسة الصبيان التي يتولّى إدارتها الأب ليونار، وهو يقوم بواجباته على أكمل ما يُرام.
يتوزّع التلاميذ في المدرسة على عدّة صفوف نُدرّس فيها الدين والتاريخ والجغرافيا والحساب والخطّ والموسيقى واللغات الخمس: الفرنسيّة والعربيّة والتركيّة والأرمنيّة والسريانيّة. وكي لا نزيد عدد الأساتذة فيتوجّب علينا تكاليف إضافيّة، أخذ كلّ واحد منّا على عاتقه إعطاء دروس يوميّة، وقبلنا تلك التضحية من أجل استمراريّة المدارس.8
7- عمل بلا هوادة
يروي الأب آتال دوسانتيتيان الذي رافق رئيس الإرساليّة في زيارته إلى مركز أورفا في العام 1910 ما شاهده هناك، ويقول:
…الاتصالات الأوليّة سمحت لنا بالتعرّف على نشاط المرسلين، ومجالات عملهم الواسعة. يتمركز نشاط الأبوين والأخ في المدرسة والكنيسة. لم يكن عدد الطلاب والمؤمنين كبيرًا، لكنّ تنوّع الأعراق واللغات واختلاف العقليات صعَّب أمر الوصول والتغلغل إلى نفوسهم. يتحدّث السريان والكلدان العربيّة، واليعاقبة التركيّة، والأرمن الأرمنيّة والتركيّة، لذلك دعت الحاجة إلى التعامل مع كلّ فئة منهم بطريقة مختلفة عن الأخرى، نظرًا للاختلاف الثقافي فيما بينهم، وعدم إمكانيّة تطبيق الأسلوب نفسه على الجميع. وكانت الراهبات الفرنسيسكانيّات، كما الآباء، يتعرضن للصعوبات نفسها في تعليم الفتيات، ولو بأشكال مختلفة، ووجب عليهنّ التغلّب عليها. وبالتروي، يتمّ العمل الصالح في نفوس هذا القطيع الكاثوليكي الصغير، وفي نفوس الطلاب، إلى أيّ عرق أو ديانةٍ انتموا…
كلّ صباح، يجتمع الفتيان في النصف الأوّل من الكنيسة، على مقربة من المذبح، فيما تشغل الفتيات النصف الآخر باتجاه المدخل، يتابعون القدّاس، ويتلون صلاة الصبح، ويرتلون الترانيم، وبعضهم يتقدّم إلى المناولة. ومع حلول المساء، تعود الفتيات والفتيان إلى نفس المكان، لتلاوة المسبحة، وصلاة المساء…
كنّا نقضي معظم أوقاتنا في المدرسة. كان من الصعب علينا، لا بل من المستحيل، إيجاد المعلمين من أهل البلد الذين نحتاج إليهم، وكان لا بدّ لنا استقدامهم من الخارج لتعليم اللغات المحليّة، كالعربيّة والأرمنيّة. أمّا بالنسبة إلى الفرنسيّة، الحصّة الكبرى من الدروس، وجب علينا أن نعلّمها بأنفسنا. وجب على المرسِل أن يكون معلّمًا كي يتمكن من الوصول إلى النفوس، وزرع التقوى في الأطفال الكاثوليك، وتأمين التعليم الديني للمسيحيين، وإعطاء الجميع، مسيحيين أو غير مسيحيين، بعض من التربية المدنيّة والتنشئة الأخلاقيّة، فتسير تلك النفوس على طريق الخير نحو معرفة أكبر للحقّ والحقيقة.
لم يكن تنوّع الأعراق والديانات بين الطلاب ليسهّل علينا التعليم، ولا الانضباط في الصفوف. فمن أصل مائة وخمسون تلميذًا، تساوى بينهم عدد الكاثوليك اللاتين مع الكاثوليك السريان والكلدان والأرمن [أرمن كاثوليك] والغريغوريين [أرمن أورثوذكس] واليعاقبة [سريان أورثوذكس] والمسلمين واليهود. للوصول إلى التلاميذ وإلى الأشخاص الكبار، وجب علينا معرفة اللغات المحكيّة الثلاث: العربيّة والتركيّة والأرمنيّة. لذلك، بناءً على طلب قاطع من الأب الرئيس الجليل، تعهدنا بدراسة اللغة العربيّة، أنا وأخي في الرهبنة، وقد استفدنا من وجود أحد الآباء بيننا [الأب بونافنتورا البعبداتي] الذي كان يلمّ بالعربيّة، لغته الأمّ، ويتمتع بمعرفة واسعة فيها، فصار لنا مدرّسًا ممتازًا. لم يغب عن باله ذكر تفاصيل القواعد والنحو وتركيب الجمل، حتّى قام بوضع جدول مختصر لها ووصفها بـ “شجرة القواعد” و “شجرة النحو”، تبدأ من الجذع، وتمتدّ إلى الأغصان والأوراق حيث كُتب عليها، بتسلسل منطقي، قواعد الصرف والنحو.9
8- من احتفال إلى آخر
يُكمل الأب آتال روايته واصفًا طريقة الاحتفال بالأعياد ويقول:
جاءت الأعياد في مواعيدها لتكسر روتين حياتنا. جذب قدّاس نصف الليل، في عيد الميلاد، حشدًا من الناس لم نشهده في الأيّام العاديّة. إنّ قرع الأجراس، وأنغام جوقة التبويق، في منتصف الليل، شكّلا حدثًا استثنائيًّا في المدينة حيث لا يخرق سكون الليل سوى صفارة الحارس الليلي، أو صوت عصاه تقرع على الرصيف.
أوشك الفصل الدراسي الأوّل على الانتهاء، وحلّ شتاءً استثنائيًا تسبّب في وقف الدراسة لأيّامٍ وأسابيع، مع تساقط الثلوج من دون توقف. ساد اللون الأبيض جميع أنحاء المدينة، جنوبًا وشمالاً، وعلى مدى النظر. وتكدست الثلوج المرمية من على السطوح، وبلغت من الارتفاع درجة أن جعلت التنقل في الشوارع مستحيلاً، وحجبت الناس في بيوتهم. أمّا عن هؤلاء الذين يعيشون في الأرياف، مثل بدو الصحراء، والذين لم يكن لديهم ما يتدفأون به، أكانوا في المدن أو في القرى، سرعان ما زحف البرد والثلج إليهم، مما أسفر عن موت كثيرين، وفقدان قطعانهم، والتوقّف عن العمل. كم من حالات بائسة علينا الاهتمام بها في هذا الشتاء، ولمدّةٍ طويلة! وكم من متاعب واجهها المرسَلون، من دون أن يكون أحدًا قادرًا على تقديم الإسعافات لهم، ويا للأسف!…
وأخيرًا، ما أن أطلّ الربيع حتّى بدأت الثلوج تختفي، والحياة تعود إلى المدينة كسابق عهدها. بعد مرور أيّام الصوم الكبير الصعبة، واحتفالات عيد الفصح، قُمنا بتنظيم زياح ملوكي بمناسبة عيد الربّ. اجتاز الموكب حوالي المائة متر، من كنيستنا إلى منزل الراهبات، عبر الطريق العامّ الواسعة. حمل الأب الرئيس القربان المقدّس، وطاف به في موكبٍ مهيب، من كنيستنا حتّى مسكن الراهبات، ثمّ عاد به إلى فناء الإرساليّة، وأودعه في كنيسة الدير. وكانت جوقة التبويق ترافق الأناشيد، على طول الطريق، وغصّت سطوح المنازل بالناس. بالواقع، شارك كثيرون في الزياح، مدفوعون بفضولهم أكثر من تقواهم، ورغم ذلك، يعود هذا النجاح إلى الربّ الحاضر في القربان المقدّس. لقد كان فعل إيمان، وفعل تبشير، في الوقت عينه.
من وقتٍ لآخر، بخاصّة في زمن الأعياد أو أثناء الزيارات التي نقوم نحن بها أو يقوم بها الناس إلينا، كانت علاقاتنا بالناس تتمتّن. فوسط الواجبات والمراسم المعتادة في الشرق، كنّا نُطلق بعض الحقائق المسيحيّة، وبعض النصائح الطيّبة. وغالبًا ما كانت تلك الزيارات مناسبة لتقريب القلوب، فتبدأ بالمجاملات، وتنتهي بالتعاطف المتبادل، فيصبح المرسَل الواسطة التي بها تتوجه النفوس نحو الربّ نفسه.
مع نهاية العام الدراسي، وازدياد العمل الناتج عن إجراء الامتحانات، واحتفالات توزيع الجوائز على التلاميذ، امتلأت قلوبنا فرحًا عند مشاهدتنا مسرحيّة بيبليّة بعنوان “يوسف إبن يعقوب”، قام بتأليفها أحد الآباء المرسلين، وقام تلاميذ مدرستنا بالتمثيل فيها. بدا لنا أنّ المسافات الزمنيّة قد اختفت، حين رأينا هؤلاء الأولاد يرتدون اليوم الملابس نفسها التي كان يرتديها أولاد يعقوب في الماضي، في هذا المكان غير البعيد عن حرّان، حيث عاش يعقوب مدةً طويلة لدى لابان، خاله. ما رواه الكتاب المقدّس عن يوسف، كنّا نراه ونعيشه أمام أعيينا. أمّا الأهالي الحاضرين، فكانت أفكارهم في مكان آخر، إذ كانوا يستمتعون بسماع أبنائهم ينشدون ويتحدثون الفرنسيّة دون عناء، مرتدين تلك الملابس المحليّة المألوفة.10
9- الأب آتال دوسانتيتيان يُلقي عظاته باللغة العربيّة !
يروي الأب آتال كيف يقوم بتحضير عظاته بالعربيّة تحت إشراف الأب بونافنتورا البعبداتي، ويقول:
وجب عليّ، قبل كلّ شيء، أن أتعلّم لغات هذه البلاد، بدءًا بالعربيّة. وبما أنّي تعلّمت القليل منها فيما كنتُ أدرس في لبنان، استطعتُ، منذ الآن، تحضير عظات قصيرة يقوم الأب بونافنتورا البعبداتي بالتصحيحات عليها، وأنا أحفظها غيبًا.11
10- حالة تأهّب
إنّ ذكريات المجازر التي حصلت في العامين 1895 و 1897 تبقى حاضرة في أورفا أكثر من أيّ مكان آخر. لقد ولّدت تلك المجازر فراغًا كبيرًا في العائلات التي قُتل فيها الرجال، وصرنا نشاهد صفوفًا طويلة من النساء المسيحيّات الذاهبات إلى الكنيسة، واختفت البسمات عن وجوه المئات من اليتامى، صبيانًا وبنات. كلّ ذلك ما هو إلاّ تذكير بالماضي، وهواجس مستمرّة من إنذار مفاجئ.
يتطلّب هذا الوضع من المرسَلين التحلّي باللياقة في المخاطبة، وبالحنان تجاه المساكين، ومراقبة المستجدات وأدنى الإشارات لتطمين نفوسهم ونفوس رعيّتهم.
إنّ تنازل السلطان عبد الحميد السفّاح عن العرش، العام 1909، وهو مَن أعطى الأوامر لارتكاب المجازر السابقة، لم يكن ليطمئن أحدًا من الناس. فالسلطان الجديد، محمد رشاد، يواجه نكسات متتالية.
وبالفعل، في العام 1912، أثناء الحرب الناشبة بين إيطاليا وتركيا، استولى الرعب على المرسَلين وعلى جميع المسيحيين. قامت إيطاليا باحتلال ليبيا التي كانت المقاطعة التركيّة الأخيرة في أفريقيا الشماليّة، بعد أن غدت المغرب والجزائر وتونس مستعمرات فرنسيّة، وخضعت مصر لحكم الإنكليز. كما أنّ حرب البلقان أفقدت تركيا مناطق صربيا وبلغاريا وألبانيا وتراقيا، فانهزمت مذلولة ولم يبقَ لها في أوروبا كلّها سوى منطقة أدرنة في تراقيا الشرقيّة.
فقدت الدولة مصداقيتها أمام شعبها، وكذلك الضباط الذين أيّدوا السلطان الجديد ورأوا فيه أملاً كبيرًا، ما سمح للجنة الاتحاد والترقّي استغلال الأمر، ووضع اليد على البلاد، جاعلة من السلطان دمية يتصرّفون بها كما يشاؤون. وكانت اللجنة مؤلّفة من الثلاثي طلعت وأنور وتشاووش، وانضم إليها جمال باشا في وقت لاحق.
يُعبّر الأب ليونار عن قلق المسيحيين ويقول:
إنّ الحرب الدائرة، حاليًّا، تسبّب الكثير من المتاعب للمرسَلين ولجميع المسيحيّين في السلطنة العثمانيّة. الأتراك يرفضون التمييز، ويقولون إنّ الحرب لها طابع دينيّ، طالما الإيطاليّون هم مسيحيّون، لذلك وجبَت محاربة جميع المسيحيّين. وقد ذهبوا إلى القول إنّ البابا نفسه هو الذي يدعو إلى الحرب. هذا هو التحليل الذي يعتمده الشعب التركيّ. نسأل الله أن ينهي هذه الحالة، فتنتهي هذه الحرب، التي سَبَّبت الكثير من الشرور، في أسرع وقتٍ ممكن.12
1 هي الحرب التي أعلنتها إيطاليا على تركيا، في تشرين الثاني 1911، ودارت رحاها على الشواطئ الليبية في محيط طرابلس، وانتهت باحتلال إيطاليا للمنطقة واعتراف تركيا بذلك في تشرين الأوّل 1912.
2 رسالة الأب ليونار إلى الأب العامّ في روما، أورفا، 20 آذار 1912، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
3 شهادة أسعد شربل قرباني في كنيسة القدّيس أنطونيوس البادواني في بعبدات، 10 حزيران 1990.
4 مجلّة أناليكتا، 1897، ص. 215.
5 مجلّة الرسول الصغير الفرنسيسيّة، 1909، ص. 265.
6 رسالة الأب ليونار إلى الأب العامّ، أورفا، 18 كانون الأوّل 1912، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
7 رسالة الأب بونافنتورا إلى الأب العامّ، أورفا، 4 كانون الثاني 1913، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
8 المصدر نفسه.
9 ذكريات الأب آتال دوسانتيتيان، 25 آب 1928، أرشيف الكبّوشيين في المطَيلب، لبنان، ص. 8، 14-15.
10 المرجع نفسه، ص.. 16-17
11 رسالة الأب آتال دوسانتيتيان إلى الأب العامّ، أورفا، 22 كانون الثاني 1910، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
12 رسالة الأب ليونار إلى الأب العامّ، أورفا، 20 آذار 1912، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.