كيف كانت الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في تلك الأيّام التي شهدت على نشأة يوسف في قرية بعبدات؟6
كانت حياة الناس ترتكز على الزراعة وتربية الماشية، وهي لم تكن تكفي للعيش، فضلاً عن ضيق مجال العمل، وانتشار البطالة، وفقر التربة وصخريّتها، وتزايد عدد السكّان في متصرفيّة جبل لبنان التي أُنشئت العام ١٨٦١، ما دفع بقسم من أَهل القرية إلى الهجرة.
الأب بونافنتورا فاضل البعبداتي الكبّوشي أمام عين ماء بعبدات (1916 أو 1927)
لا وجود للصناعة إلاّ الخفيفة التحويليّة منها، واقتصرت التجارة على حدِّها الأدنى من البيع والشراء.
غابت مياه الشفّة عن المنازل، واكتفى الناس بتعبئة الجرار من الينابيع الصالحة للشرب، قرب المنازل، وتخزين المياه في برك أو آبار؛ وافتقرت البيوت إلى الشبكات الصحيّة، والمطابخ، والمنتفعات.
لا اتصال بالعالم الخارجي إلاّ نادرًا، واقتصر السفر على البحار وحسب، فلا هاتف، ولا بريد، ولا طرقات، وبالتالي لا عربات إلاّ ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر. أمّا الاتصال والتواصل على صعيد الداخل، فكانا يتمّان بواسطة حيوانات الجرّ والتحميل والركوب، شأن الحمير والبغال.
لا وجود للكهرباء في المنازل في تلك الحقبة من التاريخ.
أمّا مياه الشفّة ومياه الريّ فكانت ضروريّة ولا غنى عنها. وكانت النساء والفتيات يتوجّهن كلّ يوم، في الصباح الباكر وفي المساء، إلى عين الماء القريبة لملء الجرّة التي كنّ يحملنها بكلّ فخر واعتزاز، منتصبة على رؤوسهنّ. وعند العين كانت تجري المحادثات وتبادل الأخبار التي لم تكن تخلو من الثرثرة. وفي حال تخطّت إحداهنّ دورها في تعبئة الجرّة أو تفوّهت بكلام أزعج غيرها، تحوّلت العين إلى ساحة صراخ وشدّ الشعر.
8- يوسف وعائلته
كان يوسف السابع من عائلة مكوّنة من أحد عشر طفلاً، ستة صبيان وخمس بنات، هم: داود، عويس، كَليم، كَليمه، مريم، منصوره، يوسف (ليونار)، يوسفية، خليل، فارس، زَينه.7
سكن أهله دارًا فيها أقسام يسمّونها أسواقًا، منها ما هو للمؤونة، وأخرى للبهائم، وغيرها للدجاج، تقع في حيّ كنيسة سيّدة النجاة، وقد نشأ يوسف في هذا الحيّ الذي شكّل مدىً لناظريه وسَيره وركضه، وهو حيّ يمتاز بتباعد منازله، وبميل أروقتها، ومعظمها من القناطر، لناحية الجنوب.ورأى يوسف أمام ناظريه معمل حرير آل لحود الذي كان في عزّ ازدهاره، وكيف كانت النسوة يعملن على الحلاّلات، وكيف كان الرجال يعملون نظّارًا ووقّادين للنار. وكان المعمل مكان الملعب الرياضي الذي شغله نادي الرابطة الرياضيّة في بعبدات، والطريق التي تعلوه لناحية الشرق، حيث أُشيدت اليوم كنيسة بعبدات الجديدة. كما شاهد بركة مياه لآل لحود كانت تعلو معمل حريرهم، وتزوّده بالمياه الضروريّة، والصّهريج العام الذي يزوّد القرية بمياه العرعار.
كان بيته مسقوفًا بجذوع الصنوبر والزلزلخت، تعلوها أخشاب صغيرة، تُرصف الواحدة قرب الثانية، ويوضع فوقها التراب ثمّ البحص، ويحدلونها، في أيّام الشتاء، بحجر أسطواني مثقوب من الجهتين، يُقبض عليه بوساطة قوس حديديّة، توضع طرفاها في الثقبين، ويُسمّى الحجر “محدلة”، ويُصنع لدلك السطوح. وفي العام 1923، أُضيف طابق جديد استُعمل فيه الباطون للمرّة الأولى في بعبدات. وفي العام 2010، هُدم الطابقان وبُني مكانهما بناية كبيرة احتُفظ فيها بغرفة صغيرة حملت اسم “غرفة الأب ليونار” حيث بإمكان الزائر الاطلاع على سيرة حياة الراهب ليونار الكبّوشي وفضائله واستشهاده مكتوبة باللغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، صُمّمت بحيث تكون مكانًا للتأمّل والصلاة على نيّة تطويبه.
عاش يوسف عيشة عاديّة، وسط كفاح أهله الذين لم يُحصوا في عداد الميسورين الكبار في بعبدات، شأن بعض العائلات التي امتلكت أراضٍ واسعة ومعامل حرير. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ والده لم يكن ملاّكًا، يشهد على ذلك ما كان لديه من أراضٍ، كغيره من عائلة الملكي، في منطقة حقلة عويس (الملكي) الواقعة شمال بعبدات، بجانب الضهر الفاصل بين بعبدات وبكفيا، والمواجِهة لدير مار موسى الحبشي، ويكسو هذه المنطقة البلّوط والسنديان والصنوبر وكروم العنب.
بلّوطة بيت الملكي المعمّرة بعد عمليّة الترميم
وكان أهله، كسائر الملاّكين في هذه المنطقة، يؤمّونها في أواسط شهر نيسان حتّى أواخر شهر تشرين الأوّل، ليزرعوها الخضار الصيفيّة المتنوّعة، ويرووها من ثلاثة ينابيع تعلوها، ويملكها أفراد من عائلة الملكي.
واستدعت الإقامة الصيفيّة، في هذه المنطقة، أن يبني الملاّكون بيوتًا صغيرة بلغ عددها خمسة عشر منزلاً، منها للسكن ومنها للمواشي، تَهدَّمت كلّها باستثناء ثلاثة منازل قام أصحابها بترميمها، أو يُقيمون خِيَمًا أو عرازيل للسكن، ولمتابعة أعمالهم في فلاحة الأرض، وقطع الحطب، وتشذيب (تشحيل) الصنوبر، وصنع الدبس في معاصر ما زالت قائمة حتّى اليوم تحت البلّوطة الكبرى وفي جوارها. وكانوا يزرعون القمح ويحصدونه في مطلع الصيف، ويدرسونه على البيادر، ويطحنونه في طاحونتي القرية الواقعتين بين بعبدات وبحنّس، ويؤمّنون الحطب للتدفئة في فصل الشتاء.
شاهدة تذكاريّة باسم الأب ليونار ملكي في ساحة البلّوطة
أمّا في فصل الشتاء فكان يوسف يعيش مع أهله حول الموقد المصنوع من حوّارة في غرفة من المنزل، يشعلون فيها حطب السنديان والصنوبر والكنافش والقْراعة وكلّ ما يصلح للحرق، ويطبخون عليه الأطعمة، ويَقلون الحلوى، ويستنيرون باللقش أو السراج أو الشموع أو الصفيدات، وهي أسرجة فخّار يملأونها بزيت الزيتون، ويضعون فيها ذيالة من قماش مفتول يشعلونها بنار الموقدة أو بعود ثقاب، تطوّرت وأصبحت ما يُعرف بقنديل الكاز.
وكان في بيته “يُوك” (لفظة تركيّة)، كما في سائر بيوت البعبداتيّين، وهو عبارة عن خزانة خشبيّة كبيرة مستقلّة أو ضمن حائط توضع فيها حوائج النوم من فرش وملاحف ومخدّات، وتُفرَش ليلاً حِصر أو بْلاس يوضع على أرض الغرفة أو العلّيّة لينام بجانب إخوته وأخواته، كما كانت العادة، إذ لم يكن لكلِّ فردٍ من أفراد العائلة سرير أو غرفة مستقلّة؛ وصندوق “أواعي” توضع فيه الملابس وبعض الأشياء الثمينة.
يا لها من طريقة حياة لم يعد يقبل بها في أيّامنا الحاضرة حتّى الفقراء من القوم، لكنّها حياة فيها سلام وقناعة، عاشها يوسف مع أهله وإخوته وأخواته.8
____________________
1 تنقسم عائلة ملكي في بعبدات إلى فرعين: عْوَيس وسلامة. وفي تلك الأيّام، كان الشخص يُدعى باسمه الأوّل يتبعه اسم والده أو اسم “الجبّ” أي فرع العائلة، لذلك سُمّي ليونار بيوسف عويس. وبعد حوالي مئة سنة، قامت سلالة يوسف بتقديم طلب إلى محكمة الدرجة الأولى في المتن (لبنان) تطلب فيه استبدال اسم الفرع “عويس” باسم العائلة “ملكي”. تمّ قبول الطلب وأصدر القاضي الحكم في 15/5/1974. وهكذا أصبح يوسف حبيب عويس الذي أُعطي اسم ليونار عند دخوله الرهبنة الكبّوشيّة، الأب ليونار ملكي. واسم عويس هو من أصل عربي ويعني الجَمَل كما جاء في البيت المشهور: كالعَيس في البيداء يقتلها الظمأ... والماء فوق ظهورها محمول !
2 د. جوزف لبكي: يوسف حبيب عويس الملكي، حياته في بعبدات بين العام 1881 والعام 1897. محاضرة أُلقيت في كنيسة السيّدة بمناسبة الاحتفال بمرور تسعين سنة على استشهاد الأب ليونار، بعبدات، 12 آب 2005.
3 يقول الأب سليم رزق الله الكبّوشي، طالب دعوى تقديس ليونار، بأنّ ليونار وُلد في 4 تشرين الأوّل الموافق عيد ميلاد القدّيس فرنسيس الأسيزي. نتحفّظ على هذا التاريخ غير المثبّت بالوثائق.
4 تاريخ بعبدات وأُسرها، تأليف الخوري نعمة الله الملكي، زاد عليه وأعاد طبعه منير حنا الخوري الملكي، 1995، ص. 254.
5 عمره 11 سنة في سجلّ التثبيت! معلومة غير دقيقة.
6 د. جوزف لبكي: المرجع السابق.
7 تحقيق قام به صاحب هذا الموقع.
8 د. جوزف لبكي: المرجع السابق.