كلمة الرئيس أمين الجميّل في الاحتفال الذي أقامته بطريركيّة الأرمن الكاثوليك في جامعة سيّدة اللويزة، في 9 آذار 2015،
إحياءً للذكرى المئوية للإبادة الأرمنيّة
أيّها الأحبّـاء،
تحيّة من القلب إلى أهلنا الأرمن في لبنان، وفي كلّ العالم بمناسبة الذكرى المئويّة للمأساة الكبرى في تاريخ الانسانيّة.
تحيّة وجع ذاقها لبنان واللبنانيون،
تحيّة إلى الطائفة الارمنيّة الكريمة، المجبولة بالقيم اللبنانيّة والمسيحيّة والانسانيّة،
تحيّة إلى الشعب الارمني الذي عانى دون أن يتوانى، وقاسى دون أن يتناسى، وثار دون أن يثأر، فانتصر واستعاد حقّه المسلوب، ووطنه المصلوب.
استعاد أرمينيا سيّدة حرّة كريمة مستقلّة، دولة أخذت مكانها بين الدول، وموقعها على خارطة الامم.
الأرمن شعب مؤمن، والطائفة الارمنيّة مكوّن عريق بمسيحيته، وأرمينيا كانت بين الدول الأولى التي اعتنقت المسيحية رسميًّا في العام ٣٠١، ولعلّ الراهب القدّيس مسروب Mesrop قد اخترع خصّيصًا الأبجديّة الأرمنيّة لترجمة الإنجيل المقدّس إلى لغته الام.
والحضور الارمني شراكة في تاريخ لبنان وتراثه، شراكة مع موارنة لبنان الذين قدّموا كنائسهم ليمارس أهلنا الارمن طقوسهم الإيمانية.
ففي العام ١٧٤٩، وهب آل الخازن وآل قبلان تلّة بزمار للأرمن، ويحوي دير سيّدة بزمار على ذخائر من الأرض المقدّسة الأرمنيّة.
ودير خشباو، بيت التضرّع والصلاة الذي شيّد من قبل الرهبان الأرمن في العام ١٧٥٠، جعل من أديرة لبنان مقرًّا للبطاركة الأرمن، وأيضًا مدافن لهم.
والوجود الأرمني في لبنان متجذّر منذ قرون من الزمن، وطريق الحجّ إلى القدس كانت تمرّ حكمًا في لبنان.
ولا مكان لمن لا يحترم شعبًا عاش في خيم غمرتها المياه والمستنقعات في الكرنتينا والمدوَّر، فعملوا على تجفيفها، وحوّلوها إلى دور سكن لائقة، ومنطقة تجاريّة مزدهرة أنعشت اقتصاد الوطن.
لا مكان لمن لا يحترم شعبًا بنى كنائسه قبل منازله، شعب عمد إلى محاكاة الجماعة قبل الفرد، إلى التحدث بلغة النحن لا الأنا، ونحن أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى هذه الثقافة، إلى هذا الفكر الجامع، إلى الاجتماع، إلى الاتحاد، إلى الإنقاذ.
نحن شعب واحد، نحن معاناة واحدة، ومصير واحد. ولبنان لن يبقى لبنان الذي عرفناه، يصبح غريبًا عن ذاته، فاقدًا معناه الإنساني ودوره العالمي إذا فقد هذه الشراكة الخلاقة بين مكوناته.
ولا ننسى وجه الشبه الحقيقي بين اللبنانيين والأرمن، يكفي أن نعرف أنّ عدد سكان أرمينيا هو بحدود الثلاثة ملايين نسمة، مع وجود تسعة ملايين ارمني في الانتشار. قصّة لبنانية باللغة الارمنيّة.
أيّها الكرام،
تعددتُ الالفاظُ توصيفًا لواقع مأساة الارمن إبّان الحرب العالميّة الأولى وقبلها، وتعدّدت مفرداتها: القتل الممنهج، الترحيل القسري، الترانسفير! إلاّ أنّ النتيجة واحدة: مأساة لاقاها الشعب الأرمني بإيمان وعزيمة وصمود وتشبث بالقيم والتراث، مقابل بيئة دوليّة متواطئة حينًا، ومنكفئة أحيانًا، ولاهية في كل حين، استفادت منها السلطنة العثمانية لتحقيق أهدافها وأغراضها.
إنّ تهجيرَكُم كُتب بالدم، متزامنًا مع تهجير طوائف مسيحيّة أخرى. عشنا معًا المآسي، ومشانق ساحة الشهداء في بيروت في السادس من أيار من العام ١٩١٦ أبلغ إنباء من الكتب، وأصدق من كلّ الروايات. وهنا يصحّ القول إنّ دماء الارمن امتزجت بدماء المسيحيين المشرقيين الآخرين، من السريان والكلدان والأشوريين، وسواهم من الجماعات المسيحيّة التي عانت القتل والترحيل قبل وخلال وبعد الحرب العالميّة الأولى.
ولا فرق إن قضى الانسان قتلاً كما حصل مع الشخصيّات الأرمنيّة في اسطنبول في ٢٤ نيسان عام ١٩١٥، أو تشريدًا وتجويعًا في البوادي، بعد إجبار النساء والاطفال والشيوخ على الرحيل ضمن ما عرف بمسيرة الموت باتجاه الصحراء السوريّة.
يا أهلنا وأحباءنا،
وقد يصحّ الحديث عن أرمن الشتات إلاّ عن المواطنين الأرمن في لبنان،
قد يصحّ الحديث عن الرعايا الارمن في العالم إلاّ في لبنان،
فهم على رغم حداثة وجودهم: هم جذور لا مجرد أغصان، أصلٌ لا فرع، شركاءٌ ثابتون، دائمون، لا مؤقتون، ولا عابرون، ولا راحلون، بل مكوّنٌ مهمّ في الوطن، وعامل توحيدي في الوطن، وركن ميثاقي في الدولة اللبنانيّة التي تقوم على الشراكة الكاملة. لا بدّ هنا من التذكير أنّ هذه الشراكة في هذا الظرف تمرّ بمنعطف خطير مع استمرار الشغور الرئاسي الذي سيبلغ بعد فترة وجيزة عامه الأوّل. هذه مسؤوليّة وطنيّة مشتركة، ولن نتخلّى عن حقّنا وواجبنا في إنجاز هذا الاستحقاق، لما لموقع الرئاسة من رمزيّة في جمع اللبنانيين في الداخل، وفي الدفاع عن لبنان في الخارج. حقُّنا أن يبقى مُصانًا المنصب الأوّل في الدولة المعقود للمسيحيين بشراكة كاملة من إخواننا في الوطن، والوحيد في العالم العربي.
إنّ في واقع رئيس الجمهوريّة المغيّب تغييبًا لموقع ميثاقي ودستوري في هرميّة الدولة اللبنانيّة، وتغييبًا لرسالة وطنيّة داخليّة تجسّد وحدة اللبنانيين، وتغييبًا لدور تفاعلي مع العالم دفاعًا عن لبنان، وطن الحرّية والإنسان.
وواجبنا التزام أدبيّات الديمقراطية في انبثاق السلطة وقواعد الدستور والانصراف إلى انتخاب الرئيس من دون انتظار بيئات خارجيّة صديقة، أو معادلات جديدة في المنطقة وفي العالم. إنّ مسؤوليتنا في لبننة الاستحقاق هي مسؤولية وطنيّة، والتاريخ لن يرحم. هو واجب وطني ودستوري ووجودي أن ننتخب رئيسًا للجمهورية صُنع في لبنان، دون كلمات سرّ، دون انصياع إلاّ لأوامر الدستور، ولن يكون بمقدور أي نظام قديم أو جديد، قائم أو مفترض، أن يطيح برئاسة الجمهوريّة تحت أيّ مسمّى، لا في الجغرافيا ولا في الديموغرافيا، لانعقاد هذا المنصب ميثاقيًّا، وانبثاقه عن إرادة المكوّنات الوطنية الواجبة الوجود، لا سيما في السلطات الدستوريّة الثلاث. هذه هي أبجديّة لبنان، وإلا نكون من حيث ندري أو لا ندري، قد قضينا على لبنان الرسالة، وهو أجمل تعبير عن لبنان أطلقه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني.
أيّها السادة،
لماذا نسترجع معًا اليوم وبعد مئة عام، هذه الحقبة الأليمة من التاريخ؟
بالتأكيد لسنا ولستم من هواة نبش الماضي، ولا من محترفي نكئ الجروح، وصبّ الزيت على النار.
بل نراجع لأنّنا لم نتعلّم من تجارب التاريخ.
لأنّنا لم نعتبر من الماضي وأحداثه.
لأنّ المآسي مستمرّة وباتت نمطًا وسلوكًا ومنهجيّة معادية للإنسانيّة، ومتنقلة في الزمان والمكان وحيث تدعو الحاجة والمصلحة.
لأنّ العالم بعد مئة سنة لا يزال يشبه ذاته، قتلاً، وذبحًا، وخطفًا، وتهجيرًا، وتعذيبًا، واقتلاع شعب من جذوره، دون أن يتحرّك ضمير أو تنهض همم لوقف هذه المشاهد الحاقدة، القاتلة، المجرمة.
لأنّ العالم بعد مئة سنة لم يتغيّر، حرب مباشرة بين الكبار، وحروب الصغار بالواسطة نيابة عن الكبار، وحرب باردة في أحسن الاحوال، واصطفافات داخليّة وإقليميّة تحشد الدعم لهذا أو ذاك من المحاور.
نراجع الزمن وأحداثه دون أن نتراجع، لأنّ الأحداث لا تنتهي بإدارة ظهر المرتكب، وغسل يديه، ومكابرته، ورفضه الاعتراف بهول ما جنت يداه.
نسترجع الماضي لأنّ المأساة تركت بصماتها العميقة على مدى أجيال، وبقي وجعها بالدم الذي سال، وبأنين الاطفال والنساء والشباب والشيوخ، محفورًا في الذاكرة الفرديّة والجماعيّة للشعوب، وتنقيتها تحتاج إلى وقفة شجاعة، إلى فعل إرادة حرّة، إلى وقف مسلسل الغرق في المآسي وتحويلها قارب نجاة وسترة واقية من مظالم الحياة.
نراجع ونسترجع الماضي لنكون قادرين على كتابة الحاضر ومواجهة المستقبل.
السيّدات والسادة،
في التاريخ القديم والحديث، يجب أن يعتبر عالمنا من كلّ الحروب. فحرب الإبادة في رواندا بين الأقلّيّة التوتسية الحاكمة، وبين أكثريّة الهوتو المحكومة، قضت على أجيال وأجيال. ولم ينفع العيش المشترك والمصاهرة بين القبيلتين.
وفي كمبوديا، يتحمل بول بوت أو الأخ رقم واحد كما كان يطلق عليه، وجماعته من الخْمير الحمر مصائب شعب فقد ربع عدده بسبب الإعدامات والجوع، فهلك أكثر من مليوني نسمة من أصل ثمانية ملايين كمبودي.
كلّ هذا، ولم تتّعظ الشعوب ولم يتحرّك الضمير العالمي.
ولماذا نذهب بعيدًا في التاريخ والجغرافيا، بل آن لنا أن نعتبر من مآسي الحرب اللبنانيّة وما رافقها من خطف وقتل على الهوية، هوية الجغرافيا بين شرقيّة وغربيّة، وهوية الطائفة بين مسلم ومسيحي. هذه الحرب التي فُرضت على اللبنانيين وكانوا وقودها، تشهد على المصير المشترك بين كلّ اللبنانيين.
كلّ هذا ولم يتحرّك الضمير العالمي، ولكن عسانا نكون قد اتعظنا كشعب واحد في وطن واحد من خطر واحد.
عسانا نعي المخاطر فنتوحد لبنانيين بوجه مخاطر المنطقة وحرائقها التي تدور بين حروب المحاور والمذاهب، وبين الأصوليّة الزاحفة والتكفير المتنقل في الزمان والمكان. وما يحصل للمسيحيين في العراق وللجماعات اليزيدية والصائبة والشبك، وما حصل للأقباط في ليبيا، وللأشوريين في الحسكة ونينوى، يشي بمواسم خصبة لانتهاكات حقوق الإنسان، قمعًا وقتلاً وذبحًا وحرقًا وتهجيرًا.
كلّ هذا ولم يتحرّك الضمير العالمي!
وما يحصل في فلسطين ما هو إلاّ حرب إبادة بالتقسيط، ومآسي شعب تهدف الى إلغائه بدلاً من إيجاد دولة.
ولو تحرّك الضمير الدولي منذ مئة عام، لما توالت المآسي، ولما بلغنا اليوم عصر الداعشية وأخواتها. فسياسة المحاور الدوليّة في التاريخ ولّدت المآسي والحروب، الساخنة منها والباردة، وسياسة المحاور الحاليّة تولّد الانقسامات الداخليّة، والاصطفافات في محاور إقليميّة، وولدّت أيضًا الأصوليّة الزاحفة حربًا وخطفًا وقتلاً وشنقًا وحرقًا ورميًا بالرصاص، في العالم العربي، وفي الغرب أيضًا. وإنّه لم يتّعظ.
وظيفة، لا بل واجب المجتمع الدولي وقف الجرائم الكبرى، ومعاقبة المجرمين، أدول كانوا أم جماعات أو أفراد. وإذا بقي ساكنًا جامدًا لاهيًا متفرّجًا منسحبًا منكفئًا أمام هذه المخاطر، تستمر المآسي، ولن توفّر لا دول، ولا جماعات ولا أفراد.
وكم يحتاج العالم إلى منظومة علاقات تلغي الفوارق وتحتكم إلى الديمقراطيّة وانبثاق السلطة وتداولها، وبهذه الطريقة، نجنّب دولنا فوارق الاقلّيّة والأكثريّة، ونجنّبها التفتت والتقسيم وخطر الخرائط الجديدة التي تُرسم للمنطقة وتُنقّح وتُعدّل تباعًا لزوم المصالح السياسيّة للدول الكبرى.
كلّ هذا، ولم تتّعظ الشعوب، ولم يتحرّك الضمير العالمي.
أيّها الكرام،
إنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاقرار واجب، والاعتذار وملحقاته ليس عيبًا بل كبرًا، وعندها يصبح طيّ الصفحة الأليمة والظالمة ممكنًا، وتصبح المصالحة مقبولة، لأنّ الإنسان أقوى من التجارب على قساوتها ومرارتها. فلننظر إلى ألمانيا التي اعتذرت عن المحرقة ووقّعت اتفاقية لوكسومبورغ في العام ١٩٥٢ وتحمّلت مسؤوليّة تاريخيّة عن الرايخ وارتكاباته. فلنسترجع ما قاله أوّل رئيس لألمانيا الموحدة Richard von Weizsäcker قال: «إنّ على الألمان أن يواجهوا مسؤولياتهم عن التاريخ بموقف رسمي وعلني، ولا تكفي المواقف الملتوية او الغامضة.»
هكذا تكون الدول، إقرارًا واستمراريّة ومسؤوليّة، لا طمسًا وإنكارًا ومكابرة.
أمّا الاتحاد السوفياتي السابق فاستمرّ ينكر مسؤوليّة ستالين عن مجزرة KATYN التي أتت على النخب العسكريّة في بولونيا، بغرض كسر العمود الفقري للجيش، ومنعه من النهوض، مما يسهّل إخضاع شعب بكامله، إلى أن أقرّ الدوما في العام ٢٠١٠ بالمسؤوليّة التاريخيّة. فكانت المصالحة بين الشعبين.
إنّ خطأً بسيطًا في المخاطبة أو في السلوك يحتاج الى الاعتراف والاعتذار، فكيف بمأساة انسانيّة بحجم هذه المأساة الأرمنيّة التركيّة.
والاعتذار يأتي تراتبيًا بعد الاعتراف والاقرار، وقبل التعويض، وعندها يمكن الحديث عن صفحة جديدة في العلاقات، وعن صفح وغفران.
أقول بكل صدق، أنّ الوقت حان لطيّ هذه الصفحة الأليمة والظالمة من تاريخ العلاقة بين تركيا والشعب الأرمني. فالإنكار لم يعد ينفع، وكذلك المكابرة، بل أنّ أهل البيت سبق واستعاذوا بما ارتكبه الباشوات العثمانيين الثلاثة.
تذكروا ما قاله ولي العهد الامير عبد المجيد الذي ندّد بالمجازر وقال عنها: «إنها الوصمة الكبرى التي تخذي أمتنا وعرقنا».
وقال عاكف باشا: «أنا أخجل كمسلم وأخجل كرجل دولة عثماني. يا لها من لطخة في سمعة الإمبراطورية العثمانيّة».
وكتب جمال حسن جمال، وهو حفيد جمال باشا: «لا يمكن بلوغ السلام والراحة إلاّ بتصالحنا مع التاريخ الحقيقي».
أعتقد أنّ من مصلحة تركيا الحديثة، وقد حقّقت إنجازات ضخمة على كلّ الصعد، احترام قواعد القانون الدولي، والقرارات الامميّة، وعدم الرهان على مرور الزمن. فالقانون الدولي لا يعترف بمرور الزمن المئوي المسقط للتبعات القانونية للجرائم الكبرى.
ويحضرني هنا ما قاله الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن مآسي الأرمن، قال: «إنّ على كلّ دولة واجب مراجعة الماضي بالتطلع وجهًا لوجه إلى الجرائم المرتكبة».
نعم الاعتراف والاعتذار، يبقى واجبًا أدبيًّا وإنسانيًّا وضميريًّا وقانونيًّا، وبعدها لن تجد أرمينيا الدولة، ولا الشعب الأرمني المسيحي غضاضة في الصفح والغفران، لأنّ مصالحة الشعوب هدف أسمى.
نعم حان الوقت لإلغاء الفقرة ٣٠١ من القانون التركي الذي يجرّم الاعتراف بالارتكابات في تركيا، واتخاذ موقف تاريخي، خاصّة وإنّه سبق للرئيس رجب طيب أردوغان وقدّم، وفي سابقة، تعازيه في ذكرى المأساة العام الماضي، وكان رئيسًا للوزراء في حينه، وتحدّث عن وجع مشترك. وفي العام ٢٠٠٩، قال أردوغان إنّ أصحاب الهويات الاثنيّة المختلفة تعرّضوا للطرد من تركيا وكان ذلك نتيجة مقاربة فاشيّة. وبعد أن تولّى الرئاسة، أكّد استعداد بلاده لتحمّل تبعات مجزرة العام ١٩١٥، إذا ما أثبت مؤرخون مستقلّون ارتكاب المجازر.
ودعا رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو إلى ما أسماه «بداية جديدة» في العلاقات بين أرمينيا وتركيا، وذلك خلال مشاركته في الذكرى الثامنة لاغتيال الصحافي التركي الأرمني هرانت دينك ، الذي كان يعمل على المصالحة بين الدولتين الجارتين.
أيّها الكرام،
يبقى الاعتذار، وهو الاساس، وللاعتذار قواعد وأصول، لا أن يكون استعراضيًّا، أو احتفاليًّا، أو فوقيًّا، أو ضبابيًّا.
الاعتذار وجع عن الغير ومع الغير،
الاعتذار تفاعل إيجابي بين المرتكب والضحية،
الاعتذار فعل ندامة عن الماضي وثقة بالحاضر وإيمان بالمستقبل،
الاعتذار ليس فعل منابر بل ضمائر،
ليس افتراضًا بل لحظة توبة حقيقيّة،
ليس الاعتذار لفتة اعتراضية في سياق موقف سياسي، ولا استطرادًا عن الاساس، ولا خروجًا عن الأصل بفتح مزدوجين لقول كلمتين عابرتين،
الاعتذار تعبير صادق عن حالة جديدة ترجم الماضي وتدفنه إلى غير رجعة،
الاعتذار يمرّ بالضحايا، يتوجّه إليهم، بل هو فعل إيمان وصرخة وجدان يصدر من العقل والقلب لا من أطراف الحنجرة واللسان.
هكذا اعتذار جدير بالاهتمام، وقادر على طيّ صفحة أليمة في تاريخ الشعوب، وبلسمة مآسيها، والانطلاق نحو مستقبل مشرق للعلاقات.
ولبنان اختبر المعاناة، واختبر ايضًا المناجاة، منذ ١٨٦٠ وما قبلها وما بعدها، والحرب اللبنانية تروي حكايات من دم ودمع، وهي لم تمنع من دفن الماضي الأليم وفتح آفاق الغد. سنة 2008 كان مؤتمر للمصارحة والمصالحة بين المسيحيين والفلسطينيين والحركة الوطنية، وبيت الكتائب شاهد حيّ على التواصل في أصعب اللحظات. ومآسي الشوف لم تحل دون المصالحة التاريخيّة التي رعاها البطريرك الماروني السابق الكاردينال مار نصر الله صفير مع النائب وليد جنبلاط، وسبقتها وثيقة المختارة بيني وبين وليد بك جنبلاط، بتاريخ 20 آب 2000. ولو بقي اللبنانيون أسرى ساعات الألم والغضب، لما قامت للبنان قيامة، ولبقيت مربعات طائفية، ولبقي مشروع الفرز على الهوية يقظًا وجاهزًا للحظة المناسبة.
هذا هو الاعتذار الكبير، فعل إيمان حقيقي، كما فعل البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني بالصفح عن مطلق النار عليه، وهو المواطن التركي محمد علي آغا، بل باعتذاره العلني وغير المسبوق عن كل أخطاء الكنيسة الكاثوليكيّة، طالبًا الصفح من الله عما أسماه خطايا جميع المؤمنين، وندّد باستخدام الإكراه والعنف خدمة للحقيقة. عندها لا يبقى أمام الآخر سوى التجاوب، فيتعالى عن الوجع ويغلب الألم، وعندها تكون المصالحة الحقيقية بين الشعوب.
أيّها السادة،
لا بدّ من وقفة تأمّل وأمل،
تأمّل في الماضي وأهواله،
تأمّل في الحاضر ومخاطره الزاحفة أصوليات وارتكابات، واعتقال حريات، وخنق هويات، وتطهير عرقيات،
وأمل في نهضة ضمير للإنسان والمجتمع، تعيد الحق إلى اصحابه، والقانون إلى نصابه، والشعب إلى صوابه.
نحن اللبنانيين مدعوون إلى كتابة خلاصنا بيدنا، بتجاوز الأنانيات والعصبيات والمذهبيات، وبل بتجاوز الذات لنبني معًا وطن الإنسان، وطن الرسالة الذي يشكل مانعًا صلبًا لكلّ أنواع الحروب والمآسي.
أيّها الأحبّاء،
أنتم أهل حقّ، ومأساتُكم مأساتُنا، وجعكم وجعنا، نحن واحد في بلد واحد،
وستبقى الشعلة الأبديّة مضاءة في يريفان تخليدًا لذكرى الشهداء الأرمن.
وسيبقى النصب التذكاري في بكفيا شعلةً مضاءة في سماء لبنان.
وعاش لبنان.