كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في الاحتفال الذي أقامته بطريركيّة الأرمن الكاثوليك في جامعة سيّدة اللويزة، في 9 آذار 2015، إحياءً للذكرى المئوية للإبادة الأرمنيّة
1. يُسعدُني أن أشاركَ في الاحتفال بإحياءِ الذكرى المئويّة للإبادةِ الأرمنيّة التي تدعو إليه بطريركيّةُ الأرمن الكاثوليك، وتستضيفُه، مشكورةً، جامعةُ سيّدة اللويزه – زوق مصبح هذه. فيطيبُ لي أن أُحيّي أخي الجليل صاحبَ الغبطة البطريرك نرسيس
بدروس التاسع عشر الكلِّي الطوبى على الدعوة، وكلَّ الذين شاركوا في إعدادِ هذا الاحتفال. كما أحيّي المتكلّمين قبلي من أصحابِ الفخامة والدولة والمقامات الروحيّة والإعلاميّة والأدبيّة، مع التقدير للّذين أحيوا الرقصة والوقفة الموسيقية.
ويطيبُ لي أن أقولَ كلمةً في المناسبة باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان الذي يوضعُ هذا الاحتفالُ تحت رعايتِه.
2. مئةُ سنةٍ مرّت على الإبادة الأرمنيّة في تركيا. فما بين سنة 1915 و1918 حلّت المأساةُ الكبرى: في جميعِ قرى أرمينيا التركيّة وسائرِ مناطق السلطنة، قُتلَ رجالٌ بالسواطير والرصاص، ورُحِّل الأطفالُ والنساءُ إلى صحراءِ بلادِ الشام (دير الزّور)، سيرًا على الأقدام، فمات كثيرون منهم تعبًا وجوعًا وعطشًا. وشُحِنَ أرمن طرابزون في السفن، ورُموا في البحرِ الأسود. وهكذا هلكَ من أرمن تركيا حوالي مليون ونصف المليون نسمة، ولم يصلْ إلى مواطنِ الجلاء سوى مئتَي ألف شخص.
واستمرّت الإبادةُ حتّى سنة 1922. فحصلت مجازر في إزمير وجوارها، غربي تركيا الحالية، ضدَّ الأرمن واليونانيّين، قضى في إثرها نحو عشرين ألف نسمة، ومجازر أخرى متزامنة في مدن كيليكيا وقراها راح ضحيّتَها أيضًا نحو عشرين ألف نسمة، وأخرى في شمالي غربي أرمينيا الحالية وقضى فيها نحو ثلاثين ألف أرمني. فيكون المجموعُ سبعين ألف نسمة.
وفي أعقابِ تسليمِ الفرنسيّين لواءَ الاسكندرون إلى الأتراك في العامَّين 1938-1939 توالت عملياتُ تهجيرٍ أصابت مَن بقِيَ من الأرمن هناك وسواهم من المسيحيّين والعلويّين. فغادر الأرمنُ في حينِه وبمعظمهم إلى لبنان.
ولكن قبل سنة 1915، ولأسبابٍ سياسيّةٍ تتّصلُ بتنظيم أرمن تركيا للتحرّرِ من السلطنة العثمانيّة، وتوسّعِ روسيا على حسابِ «الرجل المريض»، وموقفِ الدول الأوروبية ضدَّ هذا التوسّع، كانت المجازرُ بين أيلول 1894 وصيف 1896، فذُبحَ نحو ثلاثماية ألف أرمني، تحتَ نظرِ المراقبين الدوليّين. وفي ليلة 28 و29 كانون الثاني 1895 أُحرِقَ ثلاثةُ آلاف أرمني أحياء، وكانوا قد لجأوا إلى الكاتدرائيّة في الرُّها، ثمّ كانت مجازرُ 1909، بعد إعلانِ حركة «تركيا الفتاة» في تموز 1908. فقُتِلَ من الأرمن نحو ثلاثين ألف نسمة في كيليكية والقرى الأرمنية غربي ولاية حلب.
3. في هذه الذكرى المئويّة لشهداءِ الإبادة الأرمنيّة، والشهداءِ الذين قضوا قبلها بإحدى وعشرين سنة، والذين ذُبحوا بعدَها بأربع سنوات، ثمّ بعدها بعشرين سنة، نحن اليوم ننحني أمام ذكراهم، آسفين ومندِّدين بهذه «الجريمة ضدَّ الإنسانيّة»، التي لا يجرؤ مقترفوها الاعترافَ بها وتحمّلَ مسؤوليّتِها رغمَ شهاداتِ الشهودِ العيان المنشورةِ في العديدِ من الكتبِ العربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة. ولا المجتمعُ الدولي يتجرّأُ على قولِ الحقيقة أمامَ التاريخِ الملطّخِ بدماءِ هؤلاء الشهداء، في أواخرِ القرن التاسع عشر وأوائلِ القرن العشرين.
4. ولا نستطيعُ في المناسبة إلّا أن نذكرَ أيضًا الإبادةَ التي طالت سنة 1915 المسيحيّين الأشوريّين والكلدانَ والسريان، فأُبيد منهم أكثرُ من مئتَي وخمسين ألفًا على يدِ الأتراك والأكراد وآخرين استُخدموا لهذه الغاية. وتمّ ذلك في مئاتٍ من البلداتِ والقرى، حيث خلّفَ هذا القتلُ عددًا كبيرًا من اليتامى والأشخاص المتروكين من دون مُعيل، وفتياتٍ ونساءَ مخطوفات، وأراملَ، ولاجئين ومنفيّين، وبعضَ الذين اعتنقوا الإسلامَ عنوةً.
هذه الإبادةُ الجسديّة رافقتها إبادةٌ ثقافيّةٌ ودينيّة وجغرافيّة – سياسيّة. وقد اتّسعت لتشملَ الأناضول الشرقيّة وإيران ومقاطعةَ الموصل. والهدفُ إلغاءُ التعدديّة في السلطنة، واقتلاعُ كلِّ فئةٍ مغايرةٍ إتنيًّا ودينيًّا.
فكان اغتصابُ الأراضي وسلبُ الممتلكات. وكانت تعدّياتٌ على الإرثِ الثقافي: مبانٍ تاريخيّةٌ ومدارسُ هُدّمت، كنائسُ دُنِّست، مكتباتٌ ومخطوطاتٌ وكتبُ قديمة أُتلفت، كانت محفوظةً في الكراسي البطريركيّة والأسقفيّة وفي دير طور عبدين. أكثرُ من 250 كنيسة وديرًا أشوريّة وكلدانيّة وسريانيّة هُدِمت.
5. ما أشبهَ اليومَ بالأمس، في ما يجري في سوريا والعراق من النّوعِ نفسِه، وكأنَّه مخطّطٌ استراتيجيٌّ متواصل؛ أعني المجازرَ البشريّة والثقافيّة والأثريّة والدينيّة التي نراها بأمِّ العين، وتنقلُها وسائلُ الإعلام وتقنيّاتُها الحديثة. وكأنّ حضارةَ العالم تسيرُ إلى الوراء، بالرغمِ من التقدّمِ الثقافي والتطوّرِ التقني والاكتشافاتِ العلميّة. السببُ واحدٌ ومعروفٌ وهو أنّ الإيمانَ الحقيقي كاتّحادٍ بالله والتزامٍ برسومه ووصاياه لم يواكبْ هذا التقدّمَ وهذه الاكتشافات. والأدهى أنّ الدِّين استُخدم وسيلةً للتعصب الديني، فبات الإرهابُ والعنف يمارَسان باسم الدين. وهذه إساءةٌ كبيرةٌ لله نفسِه، لا يمكنُ أن يقبلَ بها أيُّ إنسانٍ مؤمنٍ حقًّا بالله، تجبُ إدانتُها والعملُ الجدّي على وضعِ حدٍّ لها.
6. وتزامنت هذه الإبادةُ، التي طاولت أبناءَ كنائسنا في هذه المنطقة من العالم، مع المجاعة في لبنان التي أرادتها السلطنةُ العثمانيّة سنة 1914، على يد جمال باشا، المعروفِ «بالسفّاح»، قائدِ اللواءِ الرابع في الجيش العثماني. فراح ضحيةَ هذه المجاعة مئتا ألف لبناني أي نصفُ سكانِ لبنان آنذاك، ومعظمُهم من المسيحيّين بأكثريةٍّ مارونيّة ولاسيّما في دير القمر والمتن وكسروان والبترون.
فانتقامًا لهزيمتِه المذلّة على قناة السويس، أراد تعويضَها من سكانِ لبنان. فكانت أوّلًا أوامرُ، فضلًا عن التوقيفات وأحكام الإعدام، بتعليقِ عشرات المشانق وكان أهمُّها في 6 أيار 1915، الذي أصبح عيدًا وطنيًّا للشهداء، ثمّ قرارٌ بتجويعِ السكّان. فأقام حصارًا بحريًّا على جميعِ المؤن، والجبلُ القاحل لا يستطيعُ إطعامَ الشعب، والسهولُ الخصبةُ كانت قد سُلِخت عنه إلى أن استعادَها البطريرك الياس الحويك في مؤتمر ڤرساي Versailles للسّلام سنة 1919. فضربت المجاعةُ سكانَ البلاد، بالإضافة إلى جحافلِ الجرادِ التي التهمَت كلَّ غصنٍ أخضر، وسقوطِ قيمة العملة. فكان اللبنانيّون يموتون من الجوع بالعشراتِ والمئاتِ يوميًّا في الشوارع وعلى الطرقات، والعرباتُ تلملمُ جثثَهم وترميها في المقابر. إنّ وصفَ هذه المآسي في العديدِ من الكتب وبالصور تُدمي القلوبَ من جهة، وتبيّنُ وحشيّةَ الحكّامِ من جهةٍ أخرى.
7. إنّنا نتساءل، أمام هذه الإبادات وهذه المجازر، وهي ظاهرةٌ تتفشّى أكثرَ فأكثر في غالبيّةِ الدّول الإسلاميّة والعربيّة في زمنِ العولمة والتّعدّدية: لماذا هذا العداءُ للمسيحيّة المشرقيّة وللمواطنين المسيحيّين؟ وهم أصيلون وأصليّون في صلبِ تكوينِ هذه البلدان، وصنعوا مع المواطنين المسلمين تاريخَها وتراثَها وحضارتَها وعيشَها معًا. وكان جميلُها أكثرَ بكثير من قبحها. وباتَ السؤالُ العالمي يُطرَح شرقًا وغربًا: كيف يُمكنُ للمسلمين أن يعيشوا مع غيرِ المسلمين؟ وكيف يُمكن لغيرِ المسلمين أن يعيشوا مع الإسلامِ والمسلمين، إذا استمرَّ تقبيحُهم بهذه الظاهرات من التعصّب والعنف والإرهاب؟
إنّ هذه المسألةَ مطروحةٌ على المُسلمين أنفسِهم، فيما ظاهرةُ الإرهاب والتّعصّب في صفوفهم تطعنُ جوهرَ الإسلام. إنّها حركاتٌ وتنظيماتٌ سياسيّة تستغلُّ الدّينَ الإسلامي وتستخدمُ اسمَ الله، لكي تقتلَ وتدمّرَ وتهجّرَ وتكفّرَ وتستبيحَ كلَّ الحُرُمات. وفوق ذلك فإنّها تحملُ أبناءَ الديانات الأخرى التي تكفرُ بالدين، وتعملُ على إخراجِه بكلِّ قيمه، وإخراجِ الله من الحياة العائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة.
8. أمّا نحنُ في لبنان فمتمسّكون بميثاقِ العيشِ معًا، مسيحيّين ومسلمين، في دولةٍ تفصل بين الدِّين والدولة، مع احترامِ كلِّ دينٍ وتعليمه؛ ولا تعطي امتيازًا لأيِّ دولةٍ شرقيّة أو غربيّة؛ دولةٍ تنتمي إلى الأسرة العربيّة وتحفظُ التوازنَ بين جميعِ الدول، ولا تميلُ مع أيِّ فريق. ونحنُ متمسّكون بصيغةِ المشاركة في الحكم والإدارة بالمناصفة والإنصاف، وبديمقراطيةِ التنوّعِ القائمةِ على قبولِ الآخرِ المختلف، على أساسٍ من الحرّيّاتِ العامّة وحقوقِ الإنسان الأساسيّة، وفقًا للدستور. فلبنانُ يقدّم تجربةً خاصّةً في حوارِ الحياة والثقافة والمصير. وكان للمسيحيّين فيه دورٌ مثمرٌ في تعزيزِ التعدُّديّة الثقافيّة والدينيّة.
9. ونحن كمسيحيِّين مشرقيِّين نعتبرُ أنّ وجودَنا في بلدان هذا المشرق حاجةٌ حيويةٌ ماسّة لها. يعودُ هذا الوجودُ المسيحي في إسهاماته الفكريّة واللاهوتيّة والحضاريّة إلى ما قبلِ الإسلام، وتواصل معه ومع الشرق العربي، فأغنى الإنسانيّةَ بإنجازاتٍ ثقافيّةٍ وعلميّة وعربيّة معروفة؛ وأقام مع الغرب جسرًا ثقافيًّا وعلميًّا أطلقَ قيمَ الحداثة ومناخاتِ التفاعلِ والتحاورِ والتعاون بين هذين العالمين.
نحن نعتبرُ بالمقابل أنّ الإسلام، بقيَمِه الغنيّةِ والمتنوّعة، حاجةٌ أيضًا لعالمِنا العربي، شرطَ عدمِ اعتبارِه عالمًا إسلاميًّا وحسب. ونعتبرُ أنَّ المسلمين المعتدلين حاجةٌ لوضعِ حدٍّ للتنظيمات الإرهابيّة والتكفيريّة، ولاستخدامِ العنف باسم الله والإسلام.
إنّنا والمسلمين مدعوّون للمحافظة على وجه الشَّرق العربي الجميل، ولحمايتِه من الجنوحِ به إلى رفضِ التنوّع دينيًّا كان أم مذهبيًّا، إتنيًّا أم لغويًّا. واسمحوا لي أن أوطّدَ هذا التأكيدَ على خبرتِنا نحن الموارنة، وقد عايشنا العهودَ الإسلاميّة المتعاقبة، من الخلفاءِ الأمويّين إلى العباسيين، ومن المماليك إلى العثمانيّين. تعايشنا بالرغم من كلِّ المصاعب والاضطهادات والتنكيل، وكان لنا شهداءٌ عديدون، من بينهم ثلاثةُ بطاركةٍ في عهد المماليك وهم: دانيال الحدشيتي، ولوقا البنهراني، وجبرايل حجولا، وذلك حفاظًا منّا على ثلاثةٍ كانت الأغلى وهي: الإيمانُ الكاثوليكي، والوحدةُ الداخليّة، والاستقلاليّةُ الذاتيّة. واستطعْنا بالصبرِ والتفاهم، وإيمانًا منّا بالتعدّديّة الثقافيّة والدينيّة العبورَ إلى لبنانَ الكبيرِ المستقلّ الذي أُعلِن في أوّل أيلول 1920، وتفصلُنا عن الاحتفال بمئويته الأولى خمسُ سنوات.
فيما نحن أمامَ شهدائنا الذين نحيي ذكرى استشهادِهم المئويّة وسائرِ شهداءِ كنائسِنا المشرقيّة، نسألُ اللهَ أن يقبلَهم قرابينَ روحيةً مع قربانِ ابنِه الوحيد لحياةِ هذا الشَّرقِ وشعوبِه.
عُشتُم! مع الشكرِ لإصغائكم!