المئوية
  |  
الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة
Cross

رسالة عامّة للبطريرك اغناطيوس افرام الثاني، 11.12.2014


الرسالة العامّة التي وجهها البطريرك اغناطيوس أفرام الثاني بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لمجازر «سَيفو» *

نهدي البركة الرسوليّة والأدعية الخيريّة إلى إخوتنا الأجلاء: صاحب الغبطة مار باسيليوس توماس الأوّل مفريان الهند، وأصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نوّاب الأبرشيّات والخوارنة والقسوس والرهبان والراهبات والشمامسة الموقرين والشمّاسات الفاضلات، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرّمين، شملتهم العناية الربّانية بشفاعة السيّدة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الشهداء والقدّيسين، آمين.

«فمَن سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم ّ ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟» (رو 8: 35)

إنّها الذكرى المئوية الأولى لإبادة شعبنا السرياني «سيفو» التي تعرّض لها آباؤنا في مطلع القرن العشرين في السلطنة العثمانيّة إذ طالهم السيف فيما كانوا آمنين عُزَّل، ونال من أكثر من نصف مليون من السريان، إلى جانب الأرمن والمسيحيّين الآخرين. مَن نجا منهم، طُرِد من بيته وأرضه، وصودرتْ ممتلكاته، وأُهينتْ كرامته، بل في معظم الحالات أُجبروا على ترك دينهم إيمانهم. حُوِّلَتْ الكنائس إلى حظائر للحيوانات، أو مطاعم أو معامل، والهدف هو محو معالم الوجود المسيحي في المنطقة، ووضع اليد على ممتلكات المسيحيّين وأوقافهم. فصرنا بحقّ أبناء الشهادة في هذا المشرق الذي بذلنا نحن السريان الكثير في سبيل نشر الحضارة فيه والثقافة والإيمان لأنّنا شعب تميّز بالعلم والرقيّ وصلابة العزيمة على الرغم من مآسيه الكثيرة.

فعصفت أعاصير الاضطهادات التي جاءت من الدولة العثمانيّة ومن الشعب، فشكّلت صفحات مؤلمة ومؤسفة من تاريخ الشعوب والمنطقة. وهنا الطامة الكبرى: فكان الجار يسوق جاره المسيحي للموت، ويجعله عرضة للقتل والاضطهاد، دون عذر أو سبب. فغدا السريان شعبًا يُعرَف بالمآسي التي عاشها، كما أصبح عرضة للتآمر والتواطؤ والاستغلال في عملية اضطهاد منظّمة ترمي إلى قمعه، لا بل إبادته.

قرنٌ كاملٌ يمرّ على مجازر سيفو، وما زالت الجراح تنزف. و الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة أمام شهدائها تلتزم بمسؤوليّة الوقوف وقفة تاريخيّة لإيقاظ الضمير الإنساني القابع في سُبات عميق، غير مُدرِك أنّ الساكت عن الحقّ مشارك بالجريمة. فالكنيسة أخذت على عاتقها واجب تذكير الإنسان بما هو وصمة عار بل أقبح جريمة في القرن العشرين. ولن تتلاشى هذه الإبادة من ذاكرة الإنسان ما دام هناك مَن يسلّط عليها الضوء ليفتح عيون عمياء، وآذان صمّاء اضطررنا أن نوقظها من حالة التناسي التي أغرقها بها المجتمع الدولي.

وهل نتجاهل إبادة كانت سبب اقتلاعنا من أرضنا وتهجيرنا وتدمير كنائسنا واستباحة أعراضنا وكراماتنا؟

بعد مائة عام، يستمرّ القتل والدمار: يُستَهدَف المسيحيّون من جديد، ولا مواثيق دوليّة أو تشريعات تحمي حقوق الإنسان، بل ولا فؤادٌ يدمع، أو قلبٌ يخشع. جرائمٌ تضاهي الوحدة الأخرى بفظاعتها.

وما أشبه اليوم بالأمس: فأهل الموصل هُجِّروا من مدينتهم، وسكّان قرى سهل نينوى اقتُلِعوا من أرض الآباء والأجداد. وشعبنا السرياني يهيم مرّة جديدة تحت السماء باحثًا عن مكان يستقرّ فيه، ويعيش بأمان وطمأنينة. وها هم أهلنا في سوريا يعانون آلام الحرب، والهجرة تُفرِغ الكنائس من أبنائها حتّى خلَتْ قرى بأكملها من سكّانها المسيحيين.

أمام كلّ هذا، نقف يحدونا الأمل بغدٍ مشرق فيه ينتصر الحقّ ويزهق الباطل، ونعود لتمجيد الربّ في أرضنا التي فيها زرعنا للإنسان مبادئ القيم والتعليم والرقي والحضارة. لا نتخلّى عن الإيمان الذي تسلّمناه طالما نؤمن بكلام ربّنا يسوع المسيح الذي قال: «ثقوا إنّي غلبْتُ العالم» (يو 16: 33). فكّل هذه الاضطهادات لن تثنينا عن التمسك بإيماننا بالربّ يسوع، والتعلّق بكنيستنا وتعاليمها، على غرار الشهداء الذين استرخصوا حياتهم في سبيل نشر الإيمان على حدّ قول الآباء السريان: «حيث قُتل الشهداء،وقُطِّعَتْ أعضاؤهم، هناك حلّ الروح القدس، وجعل في البريّة أمانًا.» 

ولئن اضطررنا قسرًا أن نغادر أرضنا مُرغَمين إلى حين، إلّا أنّنا سنبقى مرتبطين بها، نَحُنّ إلى تراث الآباء، ونستمرّ أمناء لرسالتنا المسيحيّة، ننقلها للأجيال اللاحقة، واضعين نُصب أعيننا قول الربّ: «الذي يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص» (متى 10: 22).

لهذا رأينا في مجمعنا السرياني الأنطاكي المقدّس الذي عُقد برئاستنا بتاريخ 30 أيّار 2014، أن نحيي خلال عام 2015 ذكرى مئوية هذه الإبادة «سيفو» والمجازر التي ارتُكبت بحقّ شعبنا السرياني. لذلك، شكّلنا بدايةً لجنة بطريركيّة تقوم بالتحضير لهذه المناسبة، والتنسيق مع الجهات المختصّة لإقامة الندوات والمحاضرات والمعارض الفنّيّة والأمسيات المرتّلة. فتقرّر أن نفتتح سنة المئوية بقدّاس احتفالي في مقرّ الكرسي الرسولي البطريركي في دمشق، بتاريخ 11 كانون الثاني 2015، ثمّ في لبنان في 18 كانون الثاني، بالإضافة إلى نشاطات أخرى تتزامن مع افتتاح السنة المئويّة. كما ترعى البطريركيّة نشاطات واحتفالات في السويد وأميركا والهند وروما.

تحمل كلّ هذه الاحتفالات رسالة إلى كلّ مَن اعتبر: الشعب السرياني لم يَمُتْ، ولم يُهزَم، ويأبى أن يستسلم للعار والذلّ والقتل، بل يريد الحياة ويحيا. والهدف منها ليس التعبير عن أي حقد أو كراهية، بل إظهار إخلاصنا لذكرى شهدائنا الأبرار، وتذكير أنفسنا والأجيال القادمة بفظاعة ما حصل لئلاّ يتعرّض شعبنا أو أيّ شعب آخر لأمر مماثل.

وفيما نستعدّ لإحياء هذه المناسبة، نأمر بتكريس القدّاس الإلهي الذي يُحتفَل به في كلّ كنائسنا السريانيّة في العالم في واحد من هذين الأحدين كافتتاح لهذه المئوية. كما نحثّ أبناءنا الروحيّين في جميع أبرشيّاتنا على رفع الصلوات، وتقديم القرابين من أجل راحة أنفس جميع شهداء مجازر الإبادة السريانيّة. وندعو إخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الأجلاء إلى وضع برنامج لإقامة الاحتفالات والأنشطة اللائقة بهذه المناسبة خلال سنة 2015. سائلين لله أن يرحم أنفس الشهداء كافّة، والشهداء السريان خاصّة، متضرّعين إلى الربّ الإله، الذي من أجله بذل هؤلاء الشهداء حياتهم، أن يبعد هذه الكأس المرّة عن كلّ المؤمنين باسمه، واللائذين به، وينشر أمنه وسلامه، خاصّة في شرقنا العزيز المتألّم، بشفاعة والدة الإله مريم والشهداء القدّيسين أجمعين، آمين.

صدر عن قلايتنا البطريركية بدمشق – سوريا
في الحادي عشر من شهر كانون الأوّل لعام ألفين وأربعة عشر
وهي السنة الأولى لبطريركيتنا

_______________

* المجلة البطريركية للسريان الأرثوذكس، العدد ٣٢٩، العام ٢٠١٥، ص. ٧-٩

 

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

بيان البطريركيّة، 27.6.2014

بيان البطريركيّة، 27.6.2014

Previous Chapter
الفصل التالي

عظة البطريرك اغناطيوس افرام...

عظة البطريرك اغناطيوس افرام الثاني في دمشق، 11.1.2015

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013