المئوية
  |  
الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة
Cross

عظة البطريرك اغناطيوس افرام الثاني في دمشق، 11.1.2015

كلمة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني في القداس الاحتفالي لافتتاح الذكرى المئويّة لمجازر الإبادة السريانيّة ( سَيفو )

في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة في دمشق في 11/1/2015 *

أصحاب النيافة السيادة والمعالي والفضيلة، أيّها المؤمنون الكرام


«من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟» (رومية 8: 35)

أصحاب النيافة السيادة والمعالي والفضيلة، أيّها المؤمنون الكرام،

بهذه الكلمات النابعة عن قلب مؤمن وملتزم بمبادئ روحيّة خالدة، يخاطب رسول الأمم القديس بولس المؤمنين في عاصمة الإمبراطورية روما، التي تفنَّنت بالفتك بمن اتبع طريق المسيح، فصلبت البعض، وألقت البعض أمام وحوش كاسرة جائعة، وحزّت بالسيف رقاب البعض، لكي يخاف الباقون من نفس المصير، فيعودوا عن إيمانهم الى ضلالة عبودية الأصنام والمخلوقات بدل الخالق.

وبدل أن يقضي الطغاة على أتباع السيد المسيح، نرى القافلة تلو القافلة تعتنق تلك المبادئ السامية التي دعا إليها السيد المسيح، وذلك بعمل الروح القدس القادر على تغيير قلوب الناس، وبتأثير تلك السحابة من الشهود الشهداء الذين دوّخوا العالم بتلهفهم لنيل الشهادة من أجل إيمانهم. حتى أنّ الوثنيين كانوا يندهشون من مواقف المسيحيين وهم مساقين إلى الذبح فكانوا يتساءلون: «ما بال هؤلاء المسيحيين مقبلين على الموت بفرح وابتهاج؟». ذلك أنّ هؤلاء الوثنيين لم يروا ما كان يراه الشهداء بعين الروح من أكاليل مجد تنتظرهم في السماء.

وهكذا قدّمت الكنيسة وما زالت تقدّم قوافل الشهداء في كل عصر ومكان. اذ أصبح دم الشهيد يروي وينمّي بذرة الإيمان التي يزرعها الله في قلوب الناس.

وفكرة الشهادة هذه، ترسّخت في عقول الناس منذ أقدم العصور، وأضحت طريقًا يسلكه الناس للدفاع عن عقيدتهم ومبادئهم، ولكنّ الشهادة لا تكون لمرضاة الله، وكأنّ الله لا يرضى إلا بالدم والعنف والقتل، فيبادر المجرمون وسفّاكو الدماء إلى الفتك بالعباد وتخريب البلاد، مدّعين أنهم يرضون الله بأعمالهم هذه.

أيّ إله هذا الذي يرضى بقتل الناس وسفك الدماء وهتك الأعراض، لمجرّد أنّ هؤلاء يختلفون بعقيدتهم وطريقة عبادتهم لله الواحد؟ هل يعي هؤلاء أنّهم يسيئون إلى إلههم فيجعلون منه إلها قاسيًا متعطشًا إلى دماء الناس، وكأنّه محتاجٌ إلى ذبائح بشرية ليتمكّن من الديمومة والاستمراريّة، بينما يعلمّنا الله تعالى أنّه يريد «رحمة لا ذبيحة».

أمّا الشهادة الحقيقيّة فهي التي تأتي نتيجة الدفاع عن المعتقد والمبدأ. هي تلك التي يقبلها الإنسان عندما يخيّر بين الموت ونبذ الإيمان، أو بين الاستسلام والذود عن حياض الوطن، فيقدّم الجندي حياته رخيصةً في سبيل فداء أرضه وعرضه. وهذا ما رأيناه من جنودنا البواسل ومِن كلّ مَن وقف في صفّهم للدفاع عن هذا الوطن العزيز سوريا، وخاصّة في هذه الأيّام التي استهدفتها أمم وشعوب كثيرة، أرسلت ما لديها من مجرمين وقطّاع طرق وإرهابيين لمحاربة أبناء سوريا، فتصدّى لهم السوريّون الشرفاء من عسكريين ومدنيين، مسترخصين حياتهم في سبيل فداء وطنهم، فاستحقوا أن يكرّموا، وأن يدعوا على لسان الرئيس الراحل حافظ الأسد بأنّهم: «أكرم مَن في الدنيا وأنبلُ بني البشر».

أيّها الأحباء:

نجتمع اليوم لنطلق سنة اليوبيل المئوي أي استذكار مرور مائة سنة على بدء الإبادة الجماعيّة للسريان، مذابح «سيفو» التي ارتُكبت بحق الشعب السرياني السوري الأعزل، الذي لم يرتكب ذنبًا سوى أنّه اختلف مع منفّذي هذه الجرائم بالمبدأ الديني والعقيدة، اذ اختار أن يظلَّ مخلصًا لإيمان الآباء والأجداد، على تغيير دينه أو طريقته في عبادة ربّه.

ففي مدةٍ قصيرة قامت أجناد الشرّ من بني عثمان، ومَن جاراهم من الشعوب الأخرى، بإعلان حرب إبادة ضروس على الشعب الأرمني في البداية، بحجّة التآمر والخيانة، ما لبثت أن انقلبت إلى حرب إبادة ضدَّ كل شعوب المنطقة غير المسلمة، من أرمن وسريان ويونان وغيرهم. وكانت نتيجتها أن سقط من شعبنا السرياني بكل طوائفه ما يزيد على الخمسمائة ألف شهيد، وذلك في منطقة جغرافية تمتدّ من حدود إيران شرقًا وحتّى شواطئ البحر الأبيض المتوسط غربًا، وتشمل داخلها مدنًا وأقاليم تاريخية كانت مراكزَ هامّة للمسيحيّة السريانيّة وللعلم والمعرفة والثقافة والحضارة الإنسانّية، مثل: دياربكر وماردين وطورعبدين ونصيبين والرها وأنطاكية وغيرها، وكلّها بلاد سورية التي كانت محتلّة من قبل الدولة العثمانية.

وهكذا انطلقت تلك الحملة لترسّخ أمرين:

- أولاً، لتطّهر تلك البلاد من الشعب المسيحي الذي اعتنق المسيحية منذ بدايتها في النصف الأول من المائة الأولى للمسيحيّة، والرسائل المتبادلة بين أبجر الخامس ملك الرها والسيد المسيح تشهد على ذلك، فتشبع هذه الإبادة الدينيّة رغبة أولئك الذين لم يحتملوا وجود مَن يخالفهم الدين والعبادة وذلك بسبب ضيق أفقهم، وعدم ثقتهم بالله، وكأن الله قد خصّهم وحدهم بالحقيقة، وهو غير قادر عن الدفاع عن نفسه أمام ما رأوه تهديدًا لإيمانهم ومعتقدهم.

- ثانيًا، جاءت هذه الإبادة الجماعيّة لشعب طالما اعتبر غريبًا عن الهويّة العثمانيّة ولغتها التركيّة. فالشعب السريانيّ لم يعرف غير اللغتين السريانيّة والعربيّة، ولم يشعر يومًا بأيّ انتماء للقوميّة العثمانيّة. وبالتالي كان يمثل حجر عثرة أمام سياسة التتريك التي كانت ناشطة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد رأينا نتيجة تلك المجازر حيث أبيد معظم شعب تلك المنطقة السرياني السوري مما سهَّل ضمّ تلك البلاد إلى الدولة التركيّة، التي نشأت بعد تفكّك السلطنة العثمانيّة. وفي سبيل تحقيق تلك المآرب عمد العثمانيون إلى استغلال الدين، فذبحوا ونكّلوا باسم الدين، كما قاموا باستعمال الشعب الكردي الجار للسريان، فحضّوهم على الاشتراك بتلك الجرائم بحجّة إفساح المجال لهم لتأسيس وطن قومي للأكراد في تلك المناطق.

وإذا ما أردنا العودة إلى تلك الأيّام القاسية لنرسم صورة ما حدث فما أظنّ أنّ أيّ مؤرّخ أو باحث يستطيع أن يرسم صورة حقيقية لتك الفظائع التي يندى لها جبين الإنسانيّة. إنّنا ندعو تلك الحقبة السوداء من تاريخ الإنسانية باللغة السريانية بالـ “سَيفو” أي السيف، تعبيرًا منّا عن حجم الآلام والمعاناة التي عاناها آباؤنا وأجدادنا. فبعد أن جُمعت قطع السلاح القليلة التي كانت بحوزة بعض الأفراد بحجّة تسليمها لصالح الجيش على جبهات القتال، بدأت عمليات سَوق الرجال من المدن والقرى السريانيّة ليتمّ ذبحهم أو إطلاق الرصاص عليهم على بعد مسافات قليلة من قراهم. ثمّ عاد المجرمون لينهبوا البيوت ويستولوا على ممتلكات، وينكلوا بالنساء والأطفال.

لقد حاولتُ، وبدون جدوى، أن أنسى قصّة تلك الأمّ التي بتر المجرمون ساقيها وذراعيها، فأخذت تلتقط رضيعها بأسنانها لتقرّبه وتطعمه من ثديها، وقس على ذلك آلاف القصص التي سمعناها من الذين نجوا من تلك المذابح. ولا أخال أيّة عائلة سريانيّة تخلو من ذكرى جدّ أو جدّة أو عمّ أو خال نجا بتدبير إلهي من تلك المذابح، فأصبح شاهد عيان يحكي قصّة شعب قاسى المآسي حفاظًا على إيمانه ومبادئه. فأصبح الشعب السرياني بأكمله شهيدًا وشاهدًا على ما يستطيع الإنسان من ارتكابه من فظائع ومآس. ولم تنته المأساة بالقتل والدمار بل استمرّت لعدّة سنوات حيث انتشر الفقر والمرض بين الناجين وخاصّةً الذين اضطروا لترك بيوتهم وأراضيهم، فانتقلوا إلى مدن وقرى أخرى، فَتشتَّتت العائلات بين ما بات يدعى بشمال الخطّ وجنوب الخطّ، وهو خطّ الحدود الاصطناعي الذي رسمته اتفاقيّة سايكس بيكو، فانفصل الأخ عن أخيه، والأم عن ابنتها.

لكنّ الباقية المتبقّية من هذا الشعب الحيّ المؤمن لم تستسلم لليأس والقنوط، بل انتفضت من الموت والقتل والدمار، وإن كانت الجراح لم تندمل بعد، فأظهر السريان بأنّهم شعب أقوى من الموت والسيف والاضطهاد. إنّه شعب مؤمن بالحياة والرجاء، فلملم أشلاءه، ووقف على رجليه متحديًا قاتليه ومضطهديه، فبنى من جديد الكنائس والمدارس، وأسّس الجمعيّات الثقافيّة والمؤسّسات الخيريّة والرياضيّة والاجتماعيّة في كلّ مكان انتقل إليه.

وما أشبه اليوم بالأمس أيّها الأحبّاء، فبعد مرور مائة عام على السَيفو، نرى أنفسنا أمام إبادة جماعيّة جديدة. فجلاّد جديد، من نفس الروح، يعود إلى الساحة مجدّدًا، ليسلّط سيفه على رقاب كلّ من يقول لا للظلم ولا للعدوان، ولكلّ مَن رفض تغيير معتقده ودينه. وكأنّي به يريد أن يكمّل ما لم يستطع انجازه قبل مائة عام. وربّما تكون أدواته تغيّرت وأساليبه تبدّلت ولكن الهدف واحد، وهو إبادة شعب لا يرضى بالخنوع وسلب الإرادة.

إنّ ما يتعرّض له اليوم أبناء سورية الأحباء وأبناء العراق الأعزاء، من تهجير وتقتيل من قبل أعداء الخير والإنسانيّة، لهو جريمة إبادة حقيقيّة، إبادة للأنفس البشريّة وللحضارات الإنسانيّة التي قامت على هذه المناطق.

أشهر كثيرة مرّت على اختطاف أخوينا الجليلين المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي، وكما عوَّدتنا، ستبقى المنظمات الدوليّة وهيئة حقوق الإنسان تراقبُ عن كثبٍ هذه الجرائم، دون أن تحرّك ساكنًا. ولكنّنا لن نهدأ حتّى يعودا إلينا بأسرع ما يكون، ومن هنا نخاطب كلّ مَن يملك القرار بالإفراج الفوري عنهما وعن جميع المخطوفين.

إنّ رسالتنا اليوم واضحة ونطلقها من هنا، من دمشق عاصمة التاريخ، وليسمع العالم بأسره: هذه أرضنا ولن نتركها مهما فعلتم بنا، ومع القدّيس بولس الرسول نصرخ ملء الحناجر: من سيفصلنا عن محبة المسيح والوطن؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟

رحم الله شهداء سورية، رحم الله شهداء مذابح سَيفو، وشهداء السريان في العراق ولبنان وفي صدد وحلب والجزيرة وفي كل شبر من تراب هذا الوطن الغالي.

_______________

* المجلة البطريركية للسريان الأرثوذكس، العدد ٣٢٩، العام ٢٠١٥، ص. ٢٠.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

رسالة عامّة للبطريرك...

رسالة عامّة للبطريرك اغناطيوس افرام الثاني، 11.12.2014

Previous Chapter
الفصل التالي

عظة البطريرك اغناطيوس افرام...

عظة البطريرك اغناطيوس افرام الثاني في بيروت، 18.1.2015

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013