دروس لا بدّ منها عن مذابح 1915 والمآسي الحاليّة! *
بقلم لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل على الكلدان
هذه مقاسمة وجدانيّة من الفكر والقلب، نابعة من رؤيتي الشخصيّة للساحة العراقيّة والمنطقة، على ضوء الصراعات الراهنة وتداعياتها، أُقدّمها للتفكير والدرس.
نعيش في هذه الأيّام الذكرى المئويّة الأولى على مذابح 1915-1917 التي راح ضحيتها نحو المليون ونصف المليون مسيحي أرمني، وما يربو على المائة والستين ألفًا من الكلدان، وأكثر من الأشوريين والسريان واليونان، وما صاحب ذلك من تهجير متواصل لمن تبقّى من تلك المكونات.
بوحي من هذه الذكرى النكبويّة، وعلى ضوء ما تعرّض له مسيحيّو الموصل، وبلدات سهل نينوى، من اقتلاع قسريّ، وفي أعقاب زيارتي قبل أيّام، لجنوب تركيا (دياربكر وماردين و مديات ودير الزعفران وطورعبدين ودارا ونصيبين)، هذه المنطقة العزيزة التي كانت مسيحيّة مزدهرة بامتياز، وغدت اليوم أقرب إلى الأطلال، والوجود المسيحي فيها إلى الزوال؟ إنّها ذكرى مأساويّة حزينة ومؤلمة.
أشير ابتداءًا إلى أنّه في الأمس أعلنت الكنيسة الأرمنيّة ضحايا 1915-1917 شهداء قدّيسين، وهو مثال أتمنّى أن تحذو حذوه الكنائس الأخرى، لأنّ الشهادة هي التعبير الأسمى عن الإيمان!
إنّ كلّ صوت منّا له قيمة مضاعفة إذا انضمّ إلى أصوات وأصوات، لتشكّل صرخة مدويّة في وجه عالم يغلب عليه اللامبالاة. صرخة تجمع على القول: لماذا العالم لم يتعامل بما حدث قبل مائة سنة بشكل مناسب، واليوم، بعد مئة عام، وبرغم تطور وسائل الإعلام، لماذا لا يتعامل العامل نفسه بشكل جديّ مع اقتلاع 120000 مسيحي عراقي من بلداتهم وبيوتهم، ولا مع مآسي السوريين، ولا مع أعمال اقترفت على الهواء، ضدّ الأقباط والإثيوبيين الذين قُتلوا كالنعاج في ليبيا، بالرغم من أنّ كذا أفعال تنحدر إلى مستوى جرائم ضدّ البشريّة؟
وكما أنّ الأصوات قليلة التأثير إذا كانت منعزلة، هكذا نحن اليوم كنائس صغيرة تفتقر إلى الرؤية الجماعيّة المتجانسة والتخطيط، وعلى الصعيد السياسي نفتقر إلى مرجعيّة سياسيّة قويّة لاتخاذ خطوات عمليّة للخروج من التحديات الكبيرة التي تهدّد وجودنا، فلا نزال، ونحن في القرن الواحد والعشرين، نعيش قيودًا صارمة، وقواعد اجتماعيّة قاسية (مثال صارخ على ذلك: قانون الأحوال الشخصي)، والهجرة تنخر وجودنا وتقتلعنا من جذورنا.
إزاء هذا، كلّنا معنيٌّ بألاّ تتكرّر هذه الأفعال البربريّة في المستقبل، ويبدو أنّ الصراعات ستستمرّ، مما يدعونا بقوّة إلى أن نتّحد كفريق واحد، للعمل من أجل تثبيت وجودنا، وحماية شعبنا وحقوقنا، على أسس متينة، لذا أودّ أن أقترح النقاط الآتية للتفكير والتدارس:
1- المطالبة بشرعيّة دستوريّة، تنسجم مع ثوابت في شرعة حقوق الإنسان، لتكون في ظلِّ دولة مدنيّة مرجعًا سياديًّا يطبّق القانون على الجميع، على حدٍّ سواء. وهنا أرى أنّ نظام الحكم المدني لدى تركيا المجاورة، والذي نأمل أن تسير فيه بنحو معاصر، هذا الحكم الذي يفصل الدين عن السياسة واعتماد الهوية الوطنيّة، أراه مثالاّ يمكن الاحتذاء به على وفق قول يسوع المسيح: «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، والمسلمون يكرّرون: «الدين لله والوطن للجميع»، وذلك باحترام الدين كشأن لكلّ فرد وجماعة، وعلى أن يكون الوطن خيمة للجميع. أليس الدين علاقة شخصيّة مع الله، يقوم على الثوابت، بينما السياسة متحرّكة وفقًا للمصالح؟ لا بدّ أن تُترك للناس حريّة اختيار الدين الذي يرونه مناسبًا لهم، فلا إكراه في الدين! الدين لا يُفرض بالقوّة، إنّما بالرسالة المشرقة والشهادة المقنعة. حبذا أن تقتدي الدول العربيّة بما فعلته تونس والسلطة الفلسطينية برفع خانة (الدين) من الوثائق الرسميّة!
2- منطقة آمنة. لنا أن نُنعش بمختلف السبل، ما استجدّ من وعيٌّ لطروحات تُراعي التنوّع، ومن بواعث الأمل أن تضمّن دستورًا للحكومة المركزيّة وإقليم كردستان الحاليان على مواد تحفظ حقوق كافة المكوّنات في ممارسة خصوصيّاتها عبر تقسيمات إداريّة، مما يوفّر للمسيحيين فرصة جيّدة لإرساء وجودهم على أسس قانونيّة للدفاع عن أنفسهم، وحماية تاريخهم وتراثهم وهويتهم، وإيجاد سبل ثابتة للعيش المشترك مع إخوانهم المواطنين، على مختلف مذاهبهم وأديانهم، أغالبية كانوا أم أقلّيّة، بحرّيّة ومساواة وكرامة. وقد أثبتت الأيّام كم أنّ المسيحيّين حريصون على وحدة وطنهم، ومتمسّكون بالعيش بسلام مع مواطنيهم، مما يشجع العراقيين المغتربين على القيام بمشاريع استثماريّة!
3- السعي الحثيث والمشترك نحو تأمين عودة المهجّرين المسيحيّين ومن الاقلّيّات الأخرى، بعد تحرير قُراهم وأراضيهم، وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، وحماية وجودهم عبر تخصيص منطقة بحدود واضحة في سهل نينوى، يقومون بإدارتها مع اليزيدين والشبك وسواهم، ويؤمّنون حمايتها بقوى ذاتيّة، وبضمانات حكومتي المركز والإقليم وبغطاء دولي، عبر بروتوكول يوضع لهذه الغاية.
4- إنّ واقع هؤلاء المهجرين يستصرخ ضمير العالم، فهذه الأرض أرضهم، وهي هبة من الله ثمينة، وهم متجذرون فيها. فلا ينبغي أن ينظروا إلى ما وراء الحدود، فالهجرة إلى بقاع العالم، والتكيّف مع المجتمعات الجديدة يضعف تدريجيًّا حيويّة وجودهم، ويفقدهم جذورهم وتاريخهم وروابطهم اللغويّة والكنسيّة والاجتماعيّة!
____________________
* http://saint-adday.com/permalink/7361.html