مئة سنة على مذابح السفر برلك ولا يزال الجرح ينزف دمًا
الشمّاس: نوري إيشوع مندو
المقدّمــة
مئة سنة مضت على مأساة سفك دماء مسيحيي السلطنة العثمانية، هذه السلطنة الظالمة التي قرّرت، منذ أمد بعيد، تصفية العنصر المسيحي، واقتلاع جذوره من أرض آبائه وأجداده.
لقد وضع العثمانيون خطّة لإبادة وتهجير هذا الشعب، فراحوا يلصقون التهم بالأرمن أولاً، بأنّهم على اتصال وتنسيق مع الروس والفرنسيين من أجل التحرّر من سلطتهم والانفصال عن السلطنة.
ومع بداية تفكّك السلطنة العثمانية، وفي عهد السلطان الطاغية عبد الحميد الثاني، ارتُكبت المجازر بحقّ الأرمن، وذلك في الأوّل من تشرين الثاني سنة 1895، وبلغ عدد الضحايا ما يقارب ثلاثمائة ألف شهيد، ناهيك عما سُلب من ممتلكاتهم في المدن والأرياف. وعُرفت هذه المجازر بالمجازر الحميدية، وبرّر يومها بنو عثمان فعلتهم الشنيعة، بأنّها ليست إلاّ ضربة تأديبية بحقّ الأرمن، وليست إبادة جماعية كما يزعم البعض.
وكان حلم إقامة الدولة الطورانية لا يزال يراود هؤلاء الطغاة، وينتظرون المناخ المناسب لتنفيذه. وهذا الحلم كان من أمنيات السلطان سليم الأول، الذي كان يتجلّى في توحيد كل الأقوام والأعراق الخاضعة لسلطة السلطان العثماني، بغية خلق وطن عظيم وأبدي وبلغة وديانة واحدة تسمى «طوران». هذا هو السبب الرئيسي لما جرى بحق مسيحيي السل طنة العثمانية.
وفي هذه العجالة، نستعرض ما جرى بالأمس، وما يجري اليوم، وماذا يخبئ لنا الغد، وما تبقى من كنيستنا الكلدانية في سلطنة الظلام.
1- الأمس
سنة 1909 أُجبر السلطان عبد الحميد على ترك كرسي السلطنة، وأُسندت السلطنة للسلطان رشاد. أمّا جمعية الاتحاد والترقي التي نشأت في تسالونيكي، وكان أغلب المنتمين إليها هم من يهود الدونمة، فكانت هي الحاكم الفعلي والعقل المدبّر لسياسة السلطنة في ذلك العهد. وكانت تضمّ في صفوفها: جمال باشا و أنور باشا وطلعت باشا، وكان شعارهم: «أقتل، أحرق، دمّر».
ومع بداية الحرب الكونية الأولى في شهر تموز سنة 1914، دخلت السلطنة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا، التي وعدتها بأن تعيد لها المناطق التي خسرتها في السنوات الأخيرة. وبإشارة خفية من ألمانيا، قرّر الطغاة البدء في تنفيذ مخططاتهم لإبادة الشعب الأرمني، ومعه باقي الطوائف المسيحية التي تعيش في السلطنة.
ولم يكتفِ مخططهم البغيض بتصفية مسيحيي السلطنة فقط، بل تجاوز حدودها ليشمل مسيحيي جبل لبنان. حيث أمر جمال باشا السفاح بقطع الطرق عن جبل لبنان، حتّى لا تصل المواد الأساسيّة للعيش، فكانت حرب إبادة صامتة بالمجاعة، ذهب ضحيتها حوالي مائتي ألف شهيد من موارنة لبنان، أي 40 % من سكان الجبل.
وفي 15 شباط 1915 صدرت أوامر من الباب العالي في الآستانة، وفيه تمّ تسريح جميع المسيحيين العاملين في السلطنة من وظائفهم. وطلبوا من المسيحيين تسليم ما يملكون من السلاح خلال مدّة أقصاها ثلاثة أيام. وما أن تمّت الأيام الثلاثة حتى بدأ الجنود يدخلون بيوت المسيحيين بحثًا عن السلاح. فكانوا يضربون النساء وينكلون بهنّ، ويفزعون الأطفال بأسلوبهم المتوحش، ويحفرون داخل غرف البيوت وساحاتها. ولما لم يجدوا ما كانوا يبحثون عنه، استباحوا حرمة الكنائس والأديار واعتدوا على الكهنة والرهبان، ونقبوا زوايا الكنائس والمذابح، ونبشوا قبور الراقدين من رجال الدين والرهبان، كلّ ذلك قاموا به بأسلوب همجي ووحشي يندى له الجبين.
وفي 24 نيسان 1915 صدر المرسوم السلطاني والمعروف باسم السفر برلك، والذي يدعو حكام الولايات والمدن بترحيل الأرمن إلى خارج حدود السلطنة، هذا المرسوم المشؤوم كان إشارةً لبدء عمليات التصفية. فبدأت الذئاب المتعطشة إلى دماء خراف المسيح الوديعة، تطحنها بأنيابها الوحشية، من خلال ارتكاب أفظع المجازر وأبشعها بحقّ الشيوخ والنساء والشبان والأطفال والرضع، حتّى أنّها فاقت بشراستها ما اقترفه المغول والتتر.
فباسم الترحيل سيقت قوافل المسيحيين إلى البراري والوديان وقمم الجبال والأنهار، وذُبحت بأبشع وأقسى الآلات الحادة. وقد تفننوا في اختراع الطرق الشيطانية للتنكيل بهم، ولم يستثنوا من جرائمهم لا كبيرًا ولا صغيرًا، فأمعنوا بضحاياهم بحقد دفين. فبقروا بطون الحوامل ليقتلوا الجنين قبل أمّه، ورجموا الأطفال بالحجارة حتّى الموت أمام أعين ذويهم، ورموا الكثيرين في الأنهار والآبار وهم أحياء، وأحرقوا مجموعات كثيرة بالنار وهم على قيد الحياة، وأجبروا الكثيرين أن يرقدوا تحت عربات القطار ليمرّ من فوقهم ويهرسهم، وأوثقوا رجالاً بأخشاب ضخمة ونشروهم من الرأس إلى القدم، وأثاروا الكلاب الشاردة على الفتيان فنهشتهم وأكلتهم، ورموا الفتيات في حفر ورجموهنّ بالحجارة حتّى فاضت أرواحهن، وأزلفوا الشيوخ في الصحارى فظلّوا يعانون الجوع والعطش حتّى فارقوا الحياة، واستأجروا قصابين خصيصًا ليذبحوا المسيحيين كالخراف، وانتهكوا أعراض العفيفات واغتصبوهن بالتهديد والوعيد، وخطفوا السبايا من النساء والعذارى ما حلى لهم وطاب، ونهبوا ممتلكاتهم ومقتنياتهم قبل أن يفتكوا بهم. ويعجز اللسان عن وصف الطرق البشعة والمروعة التي استعملوها في قتل الشهداء.
ناهيك عمّا تَحَمَّل الشهداء من عذابات مضنية قبل استشهادهم، فقد زُجّوا في غياهب السجون دون رحمة ولا شفقة، وحُرموا من المأكل والمشرب، وتحمّلوا أقسى العذابات من ضرب مبرح، وقلع أظافر، ونتف شعر، وصبّ النفط والرصاص المنصهر في الأفواه، وكوي الأجسام بالحديد المجمر، وبتر الأقدام والأطراف، وثقب العيون بمسامير جافية، وقطع الآذان والأنوف، وجلد عنيف بالسياط، والصلب تهكمًا بسيدهم يسوع، والكثير من وسائل التنكيل والتعذيب، والتي يعجز عن اقترافها حتى وحوش الغابة المفترسة.
هذا غيض من فيض مما تَحَمَّله شهداؤنا الأبرار من زمرة الأشرار. ومما يثير الدهشة أنّ ما جرى وحصل كان تحت سمع العالم وبصره، ممثلاً بالسفراء والقناصل المعتمدين لدى سلطنة الظلم، والذين اقتصر دورهم على تدوين ما جرى بحقّ المسيحيين، وإرسال التقارير إلى حكوماتهم الكريمة التي، ومع الأسف الشديد، وقفت متفرجة ولم تحرّك ساكنًا لوقف نزيف الدم البريء، فاستحقوا أن ينالوا لقب شهود زور بجدارة، وسُطّرت مواقفهم الجبانة والخسيسة في سفر التاريخ الأسود، وسيبقى سكوتهم وصمة عار على جبينهم مدى الدهر.
هذا ما جرى بالأمس بحقّ مسيحيي السلطنة العثمانية. فقد قُتل مليون ونصف أرمني، وإلى جانبهم نصف مليون من باقي الطوائف المسيحية، من كلدان وآشوريين وسريان وروم وبروتستانت. وسُلبت أموالهم وممتلكاتهم التي لا تُقدَّر بثمن، ورُحِّل المتبقون حفاة عراة إلى خارج السلطنة.
فمن المعلوم أنّ المسيحيين في المدن كانوا أصحاب التجارة والصناعة وجميع أنواع الحرف اليدوية، ومنهم الكثير من المثقفين يشغلون أرفع المناصب بالجيش والدولة. أمّا في الأرياف، فكانوا يملكون القرى التي حَوّلوها بكدّهم وجدهم إلى جنّات عدن.
مئة سنة مرّت على اقتراف بني عثمان مجازر إبادة جماعيّة ضدّ مسيحيي السلطنة، ولا زالوا يتنكرون لما اقترفته أيديهم الأثيمة من أبشع الجرائم ضدّ الأبرياء. مئة سنة مرّت ولا زال المجتمع الدولي ساكت غير مكترث لما جرى، وكأن شيئًا لم يجرِ بحقّ شعب أُبيد، واقتُلعت جذوره من أرضه التاريخية. يبدو أنّ الدول الكبرى، من خلال مواقفها الخجولة، تكيل بمكيالين، وبحسب مصالحها ليس إلاّ.
2- الـيـوم
ما أشبه اليوم بالأمس، فالتاريخ يكرّر نفسه من جديد. وتعود زمر الجهل والغباوة، لتسفك دماء المسيحيين الأبرياء بالمشرق، وكأنّهم لم يرتووا بعد من هذا الدم الثمين، بالرغم من أنّ جراح المنكوبين من أحداث السفر برلك لم تلتئم بعد. وكأنّ هناك مخططًا لتفريغ بلاد المشرق من سكانه الأصليين، ليُطمس بذلك تاريخ شعوبٍ عريقة هي أصل الحضارات العالمية، حيث قدّمت للعالم أجمع العلوم والشرائع والمعارف، وطوّرت حياة الإنسان، لينعم بالهناء والرخاء.
فنكبة فلسطين أفرغت الأراضي المقدّسة من سكانها المسيحيين، حتّى أضحى الحضور المسيحي جدًّا شحيح، فإذا استمرّت المضايقات والتجاوزات على هذه الوتيرة، ربّما نصل إلى اليوم الذي يكون مهد المسيح والمسيحية خالٍ من المسيحيين.
والحرب الطائفية في لبنان أضعفت الحضور المسيحي هناك، مما حذا بالعقول والكفاءات للهجرة إلى بلدان الاغتراب للبحث عن حياة كريمة بعيدًا عن الصراعات التي لا زالت تجري على أرضه.
أمّا في مصر، فما يجري بحقّ المسيحيين من اضطهاد غير معلن، من حرق كنائس، وخطف الشابات، والتعدّي على الأملاك، فقد أثر سلبًا على الحضور المسيحي هناك. وما جرى للعمال الأقباط في ليبيا مؤخرًا، والذين ذُبحوا كالخراف في وضح النهار، يؤكّد بما لا شكّ فيه ما يضمره زمر التكفير من شرّ دفين تجاه مسيحيي مصر.
وما جرى في العراق من حروب وأحداث أنهكت مسيحيي بلاد ما بين النهرين. فبعد سقوط النظام في العراق على أيدي مَن كانوا ينادون بالديمقراطية والحرية لشعبه، بدأت معاناة المسيحيين من خلال ما تعرضوا له من قتل وخطف وتهجير، وتفجير الكنائس وسلب الممتلكات، حتّى لم يسلم من شرّهم رجال الدين، فقتلوا الشهيد بولس فرج رحو، مطران الموصل على الكلدان، بالإضافة إلى العديد من الكهنة والشمامسة، كلّ ذلك للضغط على المسيحيين لترك بلاد الآباء والأجداد.
وكانت الطامة الكبرى أخيرًا، التهجير القسري لمسيحيي الموصل وقرى سهل نينوى، الذين خرجوا من بيوتهم تاركين كلّ شيء. فعبث الرعاع بممتلكاتهم على أنّها غنائم حرب، واستباحوا حرمة الكنائس والأديار، فنهبوا النفائس من المخطوطات وأتلفوها وأحرقوها بدون خجل ولا حياء، ودمّروا ما شاءوا من الأديار والكنائس والأملاك الخاصّة، حتى أنّهم جرفوا المقابر وانتهكوا حرمة الموتى. وأخيرًا جرفوا ودمّروا معالم نينوى التاريخية، فحطموا كلّ ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة، لينفذوا بذلك ما خطط لهم بطمس آثار تاريخ عريق مجيد، حتى لا يبقى له أثر يذكر.
أمّا في سوريا، ومع بداية ما يُسمّى بالربيع العربي، بدأت زمر البغض والضغينة، ترمي سهام حقدها الدفين صوب مسيحيي البلاد، فدمّروا بلدة معلولا، حاضرة الآرامية في بلاد الشام، والتي لا زال سكانها من مسلمين ومسيحيين ينطقون بلغة المسيح بكل فخر واعتزاز، ودمّروا معالمها التاريخية والدينية، ونهبوا الثمين من محتويات الكنائس والأديار، وهجّروا سكانها، وخطفوا راهباتها.
وحاولوا استباحة بلدة صيدنايا بعدّة محاولات يائسة، لكنّهم لم يفلحوا بدخولها بسبب مقاومة سكانها الأبطال. واستمرّوا بقصفها بعنف كلّما سنحت لهم الفرصة، لكي يدمّروا معالمها من كنائس وأديرة، ويزرعوا الخوف والذعر في قلوب سكانها فيتركون بلدتهم.
ولا زالت الأحياء المسيحية في العاصمة دمشق، تتعرّض لقذائف الحقد والغدر، لتدمّر الكنائس والمدارس والبيوت، وتحصد حياة الناس الأبرياء دون رحمة. ناهيك عمّا تعرضت له العديد من بلدات ريف دمشق من تعديات على سكانها المسيحيين.
ولم يسلم مسيحيي مدينة درعا وريفها من موجة العنف البغيضة، والتي طالت العديد من القرى المسيحية هناك.
وهكذا فعلوا بمدينة حمص، حيث عاثوا فسادًا في الأحياء المسيحية، فهُجّر أهلها قسرًا من بيوتهم، ونُهبت ممتلكاتهم، وأُحرقت كنائسهم، ولا سيما كنيسة العذراء أمّ الزنار، والتي تعدّ من أقدم كنائس المدينة. ولم تسلم القرى المسيحية المحيطة بالمدينة من كيدهم وحقدهم، ففعلوا فيها أقبح الأفعال.
أمّا مدينة حلب الجريحة، فقد عانى سكانها الأمرّين بسبب الحصار، وأُمطرت الأحياء المسيحية بالقذائف العشوائية ولا زال، والتي دمّرت الكثير من البيوت والكنائس، واستُشهد العديد من الأبرياء. ومنذ أكثر من سنتين، خطفوا المطرانين يوحنا إبراهيم، وبولس اليازجي، وكاهنين، وبالرغم من الجهود التي بُذلت على كافة الأصعدة، لا زالوا في الأسر، ولا أحد يعرف حقيقة إن كانوا قد قُتلوا، أو أنّهم أحياء.
ونال مسيحيي مدينة حماة وريفها نصيبهم من أيدي الأشرار، فحاصروا بلدة محردة لمدّة طويلة، واستمرّوا بقصفها بشدّة، وحاولوا مرّات عديدة اقتحامها، لكنّ شجاعة سكّانها ردّتهم على أعقابهم.
وفي مدينتي الرقة ودير الزور، دُمّرت جميع الكنائس، وهُجّرت كلّ الجماعات المسيحية منهما إلى المدن الأخرى، ومَن تَبَقّى منهم فُرض عليه دفع الجزية كأهل ذمّة.
وأخيرًا انقلبوا على قرى الآشوريين على ضفاف الخابور، وهجّروا سكان 35 قرية من سكانها، ونهبوا محتويات الكنائس والبيوت، وأحرقوا العديد منها، وخطفوا أكثر من ثلاثمئة شخص من شيوخ ونساء وشباب وأطفال، ولا يزال مصيرهم مجهول حتى الآن.
كل هذا انعكس سلبًا على الحضور المسيحي في سوريا، مما جعل نزيف الهجرة على قدم وساق، هربًا من بطش الوحوش البشريّة المتعطشة لدماء الأبرياء. هذا ما يحدث اليوم لمسيحيي المشرق، مع الأسف الشديد.
ومما يحزّ بالنفس أنّ فئة كانت تدّعي أنّها الطبقة المثقفة لشعبنا، وأعطت لنفسها دون وجه حقّ، التعبير عن أماني وتطلعات المسيحيين، متجاوزة المرجعيات الكنسيّة والفعاليات المدنيّة، استغلّت الفرص للمتاجرة بمآسي شعبنا لغاية في نفس يعقوب. ولمّا استنفذت الشعارات في ظل تفاقم الأوضاع الأمنية والمعيشية، تركت ما تبقّى من هذا الشعب رهينة مصيره، وغادرت إلى بلاد الاغتراب للتنعّم والاستجمام. ومن برجها العاجي هناك، لا زالت تعتبر نفسها أنّها تناضل لتحقيق الأهداف التي كرّست حياتها من أجل تحقيقها.
فليعي هؤلاء أنّ من يحبّ وطنه وشعبه، عليه أن يكون إلى جانبه في السرّاء والضرّاء. وليس له الحقّ مطلقًا أن يمثل شعبًا يعيش في ظل القتل والتشريد والأنين والآلام، بينما هو يتجول في العواصم العالمية متبجحًا بحجّة أنّه يتابع القضيّة، متناسيًا أنّ قادة الشعوب العظام، عبر التاريخ، كانوا إلى جانبهم يبذلون الغالي والنفيس من أجل تحقيق ما يصبون إليه. فأرض الوطن هي الساحة الحقيقية لمن يريد أن يدافع عن حقوق شعبه.
3- الــغــد
ففي ظلّ ما جرى بالأمس، وما يجري اليوم، سؤال يطرح نفسه عند الصغير والكبير، ماذا يخبئ لنا الغد نحن مسيحيي المشرق؟ أعتقد أنّنا لا نستطيع أن نعطي هذا السؤال الجريء الجواب الشافي، في ظلّ ظروف ضبابية تخيّم على أجواء المشرق. فالغرب المتمدن شكلاً يبحث عن مصالحه الاقتصادية فقط لا غير، وهو في صراع مستميت ليثبت أقدامه في الدول الغنية بالثروات. ولا يجازف بالتخلي عن الذين يصونون مصالحه وينفذون مخططاته من أجل حفنة من المسيحيين. وإلاّ ما سبب السكوت على كل ما يجري من جرائم وفظائع، علمًا أنّهم يتباهون بأنّهم دعاة الحرية والديمقراطية للشعوب، والعيش الكريم للمظلومين. يبدو أنّها شعارات ليس إلاّ.
ويبقى السؤال: ماذا نفعل نحن مسيحيي الشرق؟ أنبقى متمسكين بأرض الآباء والأجداد، بالرغم مما نعاني من صعوبات وضيقات. أم نهجر إلى بلاد الغربة لنذوب في مجتمعات تفقدنا أصالتنا، وكلّ ما نملك من تراث ورثناه عبر الأجيال؟ ربّما يبقى السؤال كما كان يردّده شهيدنا المطران رحو: «ويبقى دائمًا السؤال لماذا نُخطف… لماذا نُقتل… لماذا نُهجَّر… لماذا تُفجَّر كنائسنا…» فهل هناك من جواب مقنع يشفي غليلنا؟
4- ما تَبَقّى من كنيستنا الكلدانيّة بعد مئة سنة
هلمَّ بنا يا أبناء كنيستنا الكلدانيّة، نبحث معًا عما تبقّى من آثار آبائنا وأجدادنا في سلطنة الظلم والظلام. فلنبدأ بمدينة المعارف وأمّ العلوم نصيبين، والتي كانت من أعرق وأقدم أبرشيات كنيستنا المشرقية، لم يبقَ من كاتدرائيتها الفخيمة التي شيّدها المطران مار يعقوب النصيبيني، سوى جزء صغير، لا حركة فيه ولا أصوات ترانيم تصدح، لأنّ المدينة أصبحت خالية خاوية من مسيحييها، وآخر كهنتها، الأب حنا شوحا، سيق إلى ديار بكر وقُتل هناك. عرّجنا إلى دير الشهيدة فبرونيا النصيبينية لنجد بأنّه تَحوَّل إلى جامع زين العابدين، ولا زال قبرها في داخله يشهد ما كان يومًا هذا المكان.
أمّا مدرستها الشهيرة، فأضحت أثرًا بعد عين، بحثنا عن ملفانها مار أفرام النصيبيني لنسأله عن قصّة أوّل جامعة لاهوتيّة في العالم، فقالوا لقد رحل إلى الرها، وهناك رقد بالربّ، ودُفن في مقبرة الغرباء. فتّشنا عن قبر الملفان نرساي النوهدري في نصيبين ليدلّنا عن مكان مدرسته الزاهرة، فقالوا أنّ قبره قد أُزيل، ولم يبقَ له أيّ أثر يُذكر.
توجهنا إلى جبل إيزلا الأشمّ لنبحث عن دير مار أوجين، مؤسّس الرهبنة بالمشرق، فوجدناه أطلال لا حياة فيه. ومنه انتقلنا إلى دير مار إبراهيم الكشكري، مجدّد الحياة الرهبانيّة بالمشرق، وسألنا عن جموع الرهبان الذين كانوا ينطلقون يومًا منه ليؤسّسوا الأديار في طول البلاد وعرضها، حتّى وصلوا ببشارتهم إلى بلاد الهند والصين، فقالوا إنّ الدير أضحى خرائب، وهو في سبات لا حركة فيه ولا نشاط.
توجهنا إلى بازبدي الجزيرة العمرية، نبحث عن كاتدرائية مار كيوركيس الأثرية، فوجدنا أنّها سويت مع الأرض. ذهبنا إلى دار المطرانية لنلقي التحية على المطران مار يعقوب أوراهام، فقالوا إنّ الطغاة قتلوه وسحلوا جثته في شوارع المدينة، ثم ألقوها في نهر دجلة، هكذا يموت الشهداء الأبطال.
أردنا أن نتجوّل في القرى التابعة للأبرشية والمنتشرة في جبال البوتان المجاورة للمدينة، لنتبارك من أديرتها التي كانت يومًا زاهرة وعامرة بالرهبان، مثل دير الأخوين مار أحا ومار يوحنا، ودير قيبوثا، ودير مار سبريشوع وغيرهم، فقالوا لا تتكلفوا مشقة البحث والعناء، لأنّ القرى والأديار أضحت من نسج الخيال.
ذهبنا إلى سعرت ودخلنا حيّ الكلدان المعروف بعين صليب، فوجدنا العين لا زالت قائمة، لكن من كانوا يستقون منها ذهبوا من دون رجعة، علمًا أنّ بعضًا من قصورهم لا زالت قائمة، تشهد ما كان لهم من مكانة مرموقة في ذاك الزمان. بحثنا عن كاتدرائية العائلة المقدّسة، ففوجئنا أنّهم حَوَّلوها إلى الجامع الخليلي، فَتَّشنا عن دار المطرانية، فقالوا إنّها صارت مدرسة رسميّة. سألنا عن المطران مار أدي شير لنسأله عن أوضاع أبرشيته، فقالوا إنّه قُتل في جبال البوتان. استفسرنا عن مكان قبره لنزوره ونضع عليه إكليلاً من ورود النرجس المشهورة في تلك البلاد، فقالوا إنّ لا قبر له لأنّ جثته تُركت في العراء، وأصبحت طعامًا لوحوش الأرض ونسور السماء.
استيقظ يا مار أدي شير الشهيد، وانظر ما فعتله الأيادي الأثيمة بأبرشيتك العريقة، لم يبقَ من القرى الستّون التابعة لأبرشيتك والمنتشرة في جبال البوتان الشامخة وسهول أرزن الخصيبة أثر يذكر. سكانها أبادتهم الوحوش البشرية، وبيوتهم دُمّرت وسويت بالأرض، وكنائسهم وأديرتهم استُبيحت من قبل الأشرار، وأراضيهم وبساتينهم الغناء أصبحت ملكًا للغرباء. اسمع أيّها الشهيد العظيم ما فعلوا بدير مار يعقوب الحبيس القابع بجوار سعرت، حرقوا مكتبته الشهيرة وجعلوا من تلك الأسفار الثمينة طعامًا للنار، دمّروا قبور البطاركة والمطارنة والرهبان، وهدموا كنيسته الفخيمة وقلالي الرهبان، وجرفوا بساتينه البديعة التي تحدث عنها المؤرخون والرحالة لشدّة إعجابهم بجمالها الفتان. وهكذا فعلوا أيضًا بدير مار يوحنا نحلايا، قرب قرية بيكند. وأسفاه، كلّ هذه الأمجاد أضحت في مهب الريح.
توجهنا إلى مدينة وان لنزور المطران مار يعقوب أوجين منا، لنطمئن عن أبرشيته الممتدة على جبال هكاري الأشمّ، فعلمنا أنّه، بعد أن تَحَمَّل الكثير من الصعوبات والمضايقات، ترك مقرّه وغادر إلى مقرّ البطريركية بالموصل، لأنّ كلّ القرى التابعة لأبرشيته قد دُمّرت، وقُتل أغلب سكانها وإلى جانبهم كهنتهم الأبرار.
من هناك أردنا أن نعرج نحو أبرشيتي أورمية وسلامس، فقالوا لا حاجة لكم بذلك، لأنّكم لن تجدوا شيئًا يُذكر. فأبرشية أورمية استُشهد مطرانها مار توما أودو على أيدي الأوغاد، وقُتل أغلب كهنتها ومؤمنيها في المدينة والقرى التابعة لها، وهُجِّر من تَبَقّى إلى بلاد الله الواسعة.
أمّا أبرشية سلامس، فقد اعتُقل مطرانها مار بطرس عزيز، وأودع السجن ليذوق أقسى العذابات، ومن ثمّ سيق مخفورًا إلى ديار بكر، حتّى أُطلق سراحه، فوصل إلى الدار البطريركية بالموصل منهمك القوى من شدّة الصعوبات. أمّا مؤمني أبرشيته فقد عمل بهم سيف الحقد أفظع أنواع التنكيل والقتل، ودُمّرت قراهم وسُلبت ممتلكاتهم، وهرب من تبقى إلى دول الجوار.
أمّا آمد ديار بكر مدينة العزّ والفخر، ومقرّ أوّل بطريرك كلداني، فقد أصابها ما أصاب الأبرشيات الأخرى. دخلنا إلى كاتدرائية مار بثيون الواسعة الأرجاء، فلم نجد فيها سوى قبر مطرانها الشهير مار سليمان صباغ، يرقد وحيدًا في كاتدرائية كانت تعجّ يومًا بالمؤمنين، ولم يبقَ منهم أحد ليفتح بابها للصلاة. استيقظ أيها المطران المعترف من غفوتك الأبديّة، وانظر إلى ذاك الميتم الذي شيدته لتضم فيه يتامى المسيحيين ومن كلّ الطوائف، فقد آل بناؤه إلى السقوط، لا صوت أطفال تُسمع بل سكون وسكوت. أمّا دار المطرانية البديع فقد أصبح عشًّا لطيور السماء.
نحن نعلم كم تحمَّلت من صعوبات عندما كنت ترى أبناءك يساقون إلى الموت، وكم بذلت من جهود مضنية لتحريرهم من أيدي الطغاة، وكم أنفقت من ذهب لإعتاقهم من سجون البغاة، وكم جاهدت بعد المذابح لجمع خرافك التي تشتتت في السهول والجبال. وكم تألمت عندما دُمّرت كنيسة مار يوسف البديعة البنيان، في مدينة ميافرقين، المعروفة في تاريخنا بمدينة الشهداء، وتحسّرت على ما جرى لكلدان الرها، المدينة المقدّسة، من قتل وخطف وتهجير. وبقيت مأساة تدمير القرى التابعة لأبرشيتك غصةً في قلبك لما نال سكانها من ويلات الطغاة. واحسرتاه، أبهذا الشكل المروع يسدل الستار عن تاريخ هذه الأبرشية العريقة.
وختمنا جولتنا بماردين المنكوبة والجريحة لهول ما عانى مسيحيوها من المظالم. وتبقى كاتدرائية الربان هرمزد شاهدة على عراقة الكلدان فيها. وقفنا أمام قبر المطران المعترف مار إسرائيل أودو، وطلبنا منه أن يردّد على مسامعنا قصيدة الرثاء التي خطّها بيمينه عن الشهداء، لنسمع ما جرى بحق مسيحيي المدينة وهو الشاهد العيان. فسمعناه يردّد بعضًا مما كتبه في تلك المرثاة:
الشهيد العظيم الذي بذبحه انتصر على الطغاة…
اسمح لي أن أتحدّث عن قصة آلام بحر الدماء…
النسور الخبيثة احتاطوا الحمامة من كلّ جانب
فمزقوا أجنحتها وكسروا ريشها وقتلوها بالسلاح
أغلقوا الكنائس وحتّى المذابح حسب الأوامر
وكسروا الصلبان، ووطئوا المذابح والقرابين
والثياب المقدّسة قد باعوها في الأسواق
أمّا الصور المقدّسة فأصبحت للضحك والسخرية
والمباخر والشموع فقد أطفأوها بالبصق عليها…
أخرجوا قوافل الشهداء وبأيديهم الأغلال الثقيلة إلى البراري
بينهم كهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وأطفال
طلبوا منهم أن ينكروا إيمانهم ليفوزوا بحبل النجاة
فصرخوا جميعاً لا نترك إيماننا لأن الرب رجاءنا ومعيننا
فالآب خلقنا والأبن خلصنا والروح قدسنا
إله واحد له نسجد وبه نعترف
وهناك عروهم من ثيابهم كما عرى الجند يسوع على الجلجثة
فاستلوا السكاكين والخناجر، وألمعوا السيوف على الرقاب…
لم ينكروا دم المخلص الذي على الجلجلة
سالت دمائهم وذُرفت الدموع مثل الجواهر فارتوت الأرض
هذه غذاء للطيور والحيوانات…
نعم أيّها المطران المعترف مار إسرائيل أودو، لقد بلغ مسامعنا ما عانيت من مظالم وصعوبات، وأنت ترى من نافذة قلايتك الأسقفية قوافل الشهداء، تُساق كالغنم للذبح، تتحسر وتتألّم وليس باليد حيلة. وكم مرّة افتروا عليك ليوقعوك بالشراك، لكن الربّ نجاك لتبقى آخر مطران كلداني شاهد عيان على ما جرى في سلطنة الظلام. وكم بذلت من الذهب وأنت تشتري السبايا من النساء والفتيات اللواتي عُرضن للبيع في الأسواق. لم يبق عندك لا كاهن ولا شماس ولا مؤمنين ليحضروا القداس، قضيت ما تبقى لك من العمر وحيدًا، تقضي الأيام والليالي بحزن وحسرة، لكن بقيت متسلحًا بالإيمان والرجاء، تتعزى بترتيل صلاة السهرانة التي ألفتها، وطلبت من المؤمنين أن يتلوها في زمن الشدائد والمحن.
الخــــاتمة
هذا ما تبقى من كنيستنا بعد مئة سنة على المذابح. فهلمّ يا أبناء الكنيسة نذرف الدموع معًا على الأطلال، ربما البكاء يخفف شيئًا من حرقة قلوبنا لما جرى بحقّ الآباء والأجداد، وما آلت إليه الصروح الشامخة من خراب ودمار. أراد الطغاة أن يزيلوا وجودنا من تلك الديار، فقتلوا من قتلوا، وشرّدوا من تبقى خارج الأوطان.
فإلى متى سوف نبكي ونذرف الدموع على الأطلال، هل تناسينا أنّنا أبناء الإيمان والرجاء، أبناء الفداء والقيامة. أليس الأجدر بنا أن نقف بشموخ وافتخار، لنردّد أمام العالم أجمع بأنّنا أبناء المعترفين والشهداء الذين تخلّوا عن كلّ غالٍ ونفيس، ليحافظوا على وديعة الإيمان الثمينة.
وعلينا ألاّ ننسى أنّ كنيستنا تُعرف باسم كنيسة الشهداء، لما قدمته من أعداد كبيرة من الشهداء في سبيل الإيمان عبر الأجيال. وخلال أحداث السفر برلك أنضم إلى مواكب الشهداء أكثر من عشرين ألف كلداني، بينهم ثلاثة مطارنة هم: أدي شير، ويعقوب أوراهام، وتوما أودو. ناهيك عن خمسين كاهنًا قُتلوا وهم إلى جانب أبناء رعيتهم يثبتوهم على الإيمان. وقد فقدت كنيستنا أعرق وأقدم الأبرشيات هي: آمد/ديار بكر، وسعرت، وبازبدي/جزيرة ابن عمر، وماردين، والنيابة البطريركية في وان. ودُمّرت أكثر من مئة قرية كلدانية كانت تتبع تلك الأبرشيات، وهُدمت عشرات الكنائس والأديار، ناهيك عما جرى لأبرشيتي أورمية وسلامس من قتل ودمار في بلاد فارس.
ختامًا يحدونا الأمل الوطيد بأنّ رئاسة كنيستنا الموقرة سوف تعمل بجدية وهمة قعساء، لرفع هؤلاء الشهداء إلى مصاف القدّيسين على مذابح الكنيسة الجامعة. فالربّ كلّلهم بإكليل المجد بالسماء، فما بالنا نغض الطرف عن إكرامهم على الأرض. أفلا يستحقون أن يكونوا لنا شفعاء؟