الأب الشهيد حنّا شوحا، بكر شهداء الإكليروس (1915-1883)
الشمّاس: نوري إيشوع مندو
المقدّمة
عائلة شوحا هي من العائلات الكلدانية العريقة في ماردين. كان لرجالها مكانة فريدة على الصعيد الاجتماعي في مدينتي ماردين ونصيبين، من خلال ممارستهم الأعمال التجاريّة والزراعيّة في المدينتين، فنالوا احترام الناس وثقتهم، بسبب صدق معاملتهم ونظافة كفهم.
أمّا على صعيد السلطات المدنيّة، فكان لهم مكانة خاصّة، فوالد الأب شوحا كان قنصل إسبانيا الفخري في ماردين، أمّا أخ الأب شوحا، المدعو عبد الكريم، فكان مختار نصيبين، وله دوره الفعّال أمام السلطات.
وعلى الصعيد الكنسي، فشهادة أساقفة الكلدان في ماردين تذكر عمق إيمانهم بالكنيسة، من خلال ممارساتهم الدائمة لواجباتهم الدينية، وغيرتهم ومحبتهم واهتمامهم الدائم بالفقراء والمعوزين.
قدّمت عائلة شوحا على مذبح الشهادة، خلال مذابح السفر برلك، أكثر من خمسين شهيدًا، وسلب الطغاة أموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، وهرب المتبقين منهم إلى سوريا والعراق ولبنان ومصر. وسنتحدّث في مقالنا هذا عن الأب الشهيد حنا شوحا، من خلال ثلاث شهادات هي لكلّ من: المطران إسرائيل أودو، مطران ماردين على الكلدان، والأب ياسنت سيمون الدومينيكي، والأب إسحق أرملة السرياني.
1- شهادة المطران إسرائيل أودو
يقول المطران إسرائيل أودو عن الأب شوحا ما يلي:
وُلد هذا الكاهن الوقور في ماردين، يوم 2 كانون الأول سنة 1883، دعاه والده في المعمودية حنّا، والدته تُدعى مريم، وكان والده معروف بمخافة الله. وما أن شدّ عوده، أُرسل إلى الموصل للدارسة في معهد يوحنا الحبيب للآباء الدومينيكان، وبعد أن نال قسطًا وافرًا من العلم، رسمه القاصد الرسولي مار اسطفانوس كوبري كاهنًا، وذلك في 15 أيار 1909، وتمّت الرسامة في كاتدرائية الشهيدة مسكنتا بالموصل. وبعد السيامة عاد إلى ماردين، وبدأ خدمته في كاتدرائية الربّان هرمزد، وإلى جانب رعايته النفوس عينتُه مديرًا لمدرسة الطائفة، فكان يعلّم فيها التلاميذ اللغتين العربيّة والفرنسيّة.
في سنة 1913 أرسلتُه إلى نصيبين، بناء على طلبه، وما أن حلّ هناك حتى بدأ يعلّم ويخدم ويبشر بكل جدّ ونشاط حتّى بداية شهر أيار سنة 1915 حيث أُلقي القبض عليه، واتُّهم بالتحدّث عن المذابح التي بدأت بحقّ المسيحيين، سكان السلطنة العثمانية، خلال إعطاءه الدروس لتلاميذ مدرسة الطائفة.
أمّا حقيقة الأمر، فهي مخالفة لهذه التهمة، وكلّ ما في الأمر أنّ شابًّا كلدانيًّا من بلدة تلكيف حَضَرَ، في بداية أيار، إلى نصيبين، قادمًا من مدينة أضنة، ولمّا لم يجد من يرافقه بالسفر إلى بلدته تلكيف، ذهب إلى كنيسة الكلدان شارحًا وضعه للأب حنا شوحا، وطلب منه إن كان هناك مجال للنوم في باحة الكنيسة حتى يجد من يسافر معه، فوافق الأب المذكور على طلبه.
وصباح أحد الأيام خرج إلى السوق علّه يجد من يسافر معه، وكان قد تعرّف على صاحب حانوت يُدعى بهنان، ابن فرنسيس برغوث، من طائفة الأرمن الكاثوليك. وبينما كان جالسًا أمام الحانوت، مرّ من هناك البوليس، وما أن شاهدوه حتى ألقوا القبض عليه وساقوه إلى المخفر. وهناك سألوه من أين هو، ومن أين أتى، وأين ذهب وأكل ونام. وما أن انتهى التحقيق معه حتّى احضروا الأب شوحا، والحانوتي بهنان، ورموهم جميعًا في السجن.
ووُجهت للشاب تهمة الهروب من العدالة، وللحانوتي تهمة المهرّب، وللكاهن تهمة إخفاء المجرم. وبقوا مدة أسبوع في السجن يعانون أشدّ العذابات وأقساها. وفي 9 أيار سيقوا إلى ماردين، ورموا بهم في السجن، وما أن علمتُ بذلك حتى أرسلتُ الكاهنين بولس بيكو ويوسف تفنكجي إلى متصرّف ماردين، حلمي بك، للاستفسار عن وضعهم. ولمّا علمنا أنّهم سيساقون إلى آمد، طلبنا من المتصرّف أن يسلّمنا الأب شوحا ورفاقه، ونحن بدورنا سوف نرسله إلى آمد على كفالتنا وضمانتنا، لكنّه لم يستجب لطلبنا.
وبعد يومين، أُخرجوا من السجن، وسُلّموا إلى الجنود ليسوقوهم إلى آمد، وكان هذا اليوم يوم أحد، وأخذ الجنود يطوفون بهم وهم مكبلين بالحبال في أسواق المدينة وساحاتها، وكان الأهالي يلقون عليهم طوفان من الشتائم، خاصّة أولئك الفتيان الأشرار الذين تبعوا موكبهم حتى خارج المدينة.
وكان آل شوحا، من رجال ونساء، خارج المدينة، ينتظرون مرور الأب حنا ورفيقيه، حتى يشاهدوه ويطلبوا من الجنود أن يسلّموه لهم، حتّى ينقلوه إلى آمد بطريقة مقبولة. لكنّ الجنود رفضوا طلبهم، بحجّة الحفاظ على حياته، وحمايته من المسيئين. وعندها قرّر زوج أخت الأب شوحا، المدعو يوسف مغزل، مرافقتهم إلى آمد، وهكذا عاد آل شوحا إلى ماردين خائبين وخائفين على مصير ابنهم.
أمّا الجنود، فأكملوا المسير نحو آمد، وفي الطريق عرّوا الكاهن من ثيابه، وعندما اقتربوا من المدينة صبغوا وجه الكاهن بالفحم من باب السخرية، وعلّقوا في رقبته جرسًا مثل الأجراس التي تُعلّق في رقاب البغال والأغنام، وفي هذه الحالة المشينة أدخلوه هو ورفيقيه إلى المدينة في وضح النهار، وأخذوا يطوفون بهم في الأسواق. وما أن شاهد سكان المدينة هذا المشهد، حتّى أخذوا يكيلون لهم أبشع الشتائم والكلمات النابية، بينما كان أولاد الشوارع غير المؤدبين يرمونهم بالأتربة والأوحال القذرة، وعلى هذا الشكل استمرّت جلجلتهم حتّى وصلوا بهم إلى السجن، وهناك زجّوهم في غياهب السجن المملوء بالمئات من المسيحيين.
أمّا يوسف مغزل، فبقي في آمد على أمل أن يجد مخرج لهذه المعضلة، ولمدّة يومين كان ينقل الطعام إلى السجن، صباحًا ومساءً، للأب شوحا ورفيقيه. وفي اليوم الثالث، ذهب كعادته إلى السجن ومعه الطعام، فأُلقي القبض عليه، وضمّوه إلى المساجين. وانقطعت الأخبار عنهم، ولم نعرف حتّى اليوم كيف قتلوا الأب شوحا ورفيقيه وزوج أخته. ونعتقد أنّهم سيقوا مع المسيحيين الذين قُتلوا خارج المدينة.
وكانت والدة الأب شوحا، المدعوة مريم، تسكن آنذاك في نصيبين مع أبنيها عبد الكريم وسليم. وكانت زوجة عبد الكريم تُدعى شموني، علمًا أنّ عبد الكريم كان مختارًا لنصيبين. وكانوا جميعًا ينتظرون بفارغ الصبر أخبار الأب حنا، لكنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة تُذكر، فكانوا يعانون من جراء ذلك حزن وأسى شديدين.
وفي إحدى الليالي، جاءهم أحد أصدقائهم من العشائر العربيّة، وأيقظ عبد الكريم من النوم بهدوء، وقال له:
- قم وأسرع حتى أخذك أنت وجميع أفراد عائلتك إلى بيتي في البرية، وقد جلبتُ معي بعض الجمال لتحميل أمتعتكم، لأنّي سمعت أنّ السلطات مزمعة أن تسوقكم إلى الموت.
فردّ عليه عبد الكريم بالقول:
- أنا مختار السلطان في نصيبين، ولديّ أملاك وأراضٍ وأرزاق، فإذا هربتُ كيف سأنجو من شرّ السلطان.
فردّ عليه العربي:
- أُترك كلّ شيء وخلّص نفسك ونفوس عائلتك، لأنّه ليس لنا متسع من الوقت، وعلينا الهروب قبل بزوغ الفجر.
لكن عبد الكريم رفض طلب صديقه العربي، فما كان منه إلاّ أن غادره متألمًا لعدم قبوله مشورته.
وفي صباح 15 حزيران تحقّق ظن الإعرابي، إذ ألقت السلطات على عبد الكريم وأخيه سليم، وضمّوهما إلى رجال نصيبين الكاثوليك، وسيقوا جميعًا إلى قرية خراب كورث، القريبة من نصيبين، وهناك ذُبحوا جميعًا. ومن أصل ثلاثين عائلة كلدانيّة كانت تسكن في نصيبين، لم تنجو إلاّ عائلة واحدة استطاعت الهروب. ونجا من الأرمن الكاثوليك عائلتين فقط. أمّا رجال السريان الأرثوذكس فقد أُعفي عنهم.
أمّا مريم والدة الأب شوحا، وشموني زوجة أخيه عبد الكريم والتي أصلها من آمد، فقد سيقتا إلى ماردين، وفي الطريق قتل الجنود مريم أولاً، ثمّ طلبوا من شموني أن تجحد دينها ليحافظوا على حياتها. لكنّ الشابة شموني تشجعت وامتلأت من الروح القدس وردّت عليهم بالقول:
- أفضّل الموت مع حماتي، ولا أنكر ديني وإيماني حتّى أعيش معكم أيّها المتوحشون سفاكي دماء الأبرياء.
وما أن سمعوها حتّى هجموا عليها بالسيوف والسكاكين، وقطعوا جسدها الطاهر أربًا أربًا، وبعد أن عرّوها من ثيابها، سحبوا جثتها مع جثة حماتها مريم إلى قارعة الطريق. وكان ضمن هذه القافلة فتاة صغيرة، أخذها الطغاة وأتوا بها إلى ماردين. وبعد مدّة قصيرة استطاعت والدتها، وتدعى ملكة، وهي أخت الأب شوحا، أن تحرّرها من أيدي الأشرار. وقد جاءت ملكة ومعها ابنتها إلى دار المطرانيّة، وقد سمعتُ من فم الفتاة قصّة قتل مريم وشموني.
وبعد فترة جاء القتلة إلى ماردين، ومعهم حصان عبد الكريم، وبعض الثياب والبسط، وسلّموها لأخته ملكة، وقالوا لها إنّ صاحبها سوف يأتي بعد قليل ليستلمها منك. ولم نعرف سبب هذه المكيدة، وما هي الغاية منها؟ لأنّ المجرمين سرقوا كلّ ممتلكات آل شوحا، وتقاسموها فيما بينهم، إلاّ هذه الأشياء البسيطة التي سلّموها لأختهم.
وبعد أن سيق العديد من رجال آل شوحا إلى الموت، دعا متصرّف ماردين ممدوح كلّ من جرجس شوحا، وابن عمه الياس، اللذان نجا من المذابح، وأودعهما في السجن، وطلب من جرجس أن يسلّمه زوجة أخيه كبرئيل الذي قُتل في القافلة الأولى حتّى يُرسلها له، ولمّا علم جرجس بمكيدة ممدوح أعطاه مئة دينار فأخلى سبيله. وطلب من الياس أن يسلّمه زوجتي أخويه عبد الأحد وفريد اللذان قُتلا في القافلة الأولى مع أولادهم حتّى يرسلهم إليهما، فأعطاه مائتي دينار فأخلى سبيله أيضًا. علمًا أنّ مسيحيي ماردين كانوا يعلمون أنّ الرجال الذين سيقوا في قوافل قد قُتلوا جميعًا. أمّا السلطات الحكومية فكانت تروج بأنّهم أحياء، وتمّ نفيهم إلى ولايات بعيدة. وبعد أيّام، علم المتصرّف ممدوح أنّ آل شوحا لديهم الكثير من المال، وقد استلم القليل من المال منهما مقابل أخلاء سبيلهما، فدعاهما مجددًا حتّى يضغط عليهما مجددًا، ويستنزفهما ممتصًّا دمهما، فما كان منهما إلاّ أن تركا بيتيهما، وهربا إلى جبل سنجار، وهكذا خسرت الأبرشيّة كريمين من شعبنا. 1
2- شهادة الأب ياسنت سيمون
يكتب الأب ياسنت سيمون الدومينيكي، الهارب من الموصل، واللاجئ إلى مطرانية السريان الكاثوليك في ماردين، والشاهد على المجازر المرتكبة في تلك المدينة ومحيطها، ويقول:
ينتمي ڤكتور، المولود في السادس من كانون الأوّل 1883، والذي غدا اسمه حنا يوم سيامته كاهنًا عام 1909، إلى الأسرة الكاثوليكية الأقدم والأنبل في ماردين. وهو حافظ، منذ دخوله الإكليريكية عام 1898، على شيء ما يعود إلى جذوره ويميّزه، وعلى بساطة شبه ساذجة تعود إلى فضيلته.
نسي عظمة عائلته، وهو ابن قنصل إسبانيا الفخري في ماردين، وارتضى، في تواضع، ممارسة جميع فروض الإكليريكية.
أراد، وكان أحد أوائل صفه، المحافظة على مرتبته الأولى، في ورع. وهنا يكمن سرّ تأثيره الرسولي، في ماردين أولّاً، ثمّ في نصيبين، حيث أوفد عام 1911. علّم ولفت الأنظار، أمّا عظاته، المغذاة دائمًا بالعقيدة، والمستوحاة من احترام الأمور السماويّة، والمعطاة بحرارة المقتنع، فقد ثَـبَّـتت لدى البعض الإيمان الديني، ولدى البعض الآخر العودة إلى الكثلكة.
عنيدٌ بعض الشيء، لكنّه ثابت في مبادئه، متزمت في أخلاقه، لدرجة أن يمنع عن نفسه أي زيارة لياقة، نظاميّ بحيث يضحي بنومه لإنهاء قراءة روحيّة، حيّ الضمير لدرجة التردّد، وكان فخر رعيته ومثال زملائه.
كان أوّل كاهن يطاله الاضطهاد في شباط 1915 في نصيبين نفسها. وفي ظلّ ظروف جدّ مؤلمة. سُجن في ماردين لمدّة أسبوع، ثمّ اقتيد في الحادي والعشرين من آذار 2 إلى ديار بكر، وكانت رحلته بمثابة جلجلة. وإنّ ماردين التي كانت ما تزال تردّد اسم شوحا الأب القنصل، رأت شوحا الابن الكاهن مقيّدًا بالسلاسل بين كرديين، يُضرب بالسوط وبكعب البندقية، يملأه الوحل محقَّــرًا. دخل ديار بكر بوجه مسودّ بالوحل وفي عنقه جُرَيس، ووصل السجن نصف ميت.
وما زلنا إلى الآن نجهل أي تفصيل آخر، وجُلّ ما نعرفه أنّ الكاهن أُخذ خلال شهر أيار، إلى طريق خربوط، مع مسيحيين آخرين، واختفى كما يختفي المخفورون.
لن تُخبرنا مياه النهر، أو أكراد الجبل، على أي ضفّة، أو في أي عقيق [واد] ترقد جثّة راحلنا. وستبقى ذكرى الأب حنّا شوحا بركة، فموته كان صدى حياته، وقد عاش لله ومع الله، ومات في الله وله. 3
3- شهادة الأب إسحق أرملة
يقول الأب اسحق أرمله ، الغني عن التعريف، ما يلي:
في التاسع من أيار سنة 1915 أحضر شرذمة من الجنود القسّ حنّا شوحا الكلداني من نصيبين [إلى ماردين] مدّعين أنّه أخفى عنده بعض الفارّين. وعند الظهيرة ألقوا طوقًا حديديًّا برقبته، واستاقوه في الجادة العموميّة في هرج ومرج، إذ كان الأعلاج يتبعونه ويقذفونه بالحجارة، ويذرّون التراب على هامته. وأفضت بهم اللآمة إلى أن ألقوا على قذاله [مؤخَّر الرأس] لفائف الدخان وهي مشتعلة ليزيدوه أذى وعذابًا. وما برحوا يجرعونه أكواب الشتم والسب والهزء، حتّى وصلوا به إلى باب البلد الغربي. فعاد الأعلاج الأوغاد إلى بيوتهم.
وسار الأب المظلوم في جماعة من الجند إلى ديار بكر ليحاكمه رشيد، الوالي الزنديق، بما يستحقّ. وصرف السيّد إسرائيل أودو، مطرانه الجليل، العناية في تخلية سبيله، فلم يفلح، فكتب إلى المطران سليمان [صباغ] بدياربكر ليسعى في تخلية سبيله.
غير أنّ الأب حنّا المشار إليه ما أن وضع قدمه بمدينة دياربكر، جرثومة الشرور، حتّى لقيه الأنذال السفلة في الأسواق، واشرحفّوا [تهيأوا لمحاربته] لتصويب نبال سخطهم عليه، وإنزال العقوبة به، وألقوا جلجلاً [جرسًا صغيرًا] في رقبته، تأسّيًا بالحاكم ابن العزيز العلوي، صاحب مصر في أواخر القرن العاشر، فإنّه على ما أورد ابن العبري في تاريخه المدني: “أمر المنادين أن ينادوا أن من لم يدن بالإسلامية يرذل ويحتقر ويعلّق في عنقه خشبة كالصليب وزنها أربعة أرطال بغدادية، وإذا دخل الحمام وجب أن يعلقوا في عنقه جلاجل ليتميز من المسلمين.”
غير أنّ أوباش دياربكر سوّدت وجوههم ما اكتفوا بذلك كلّه، بل لطّخوا لحية الأب المومأ إليه بالأقذار، وقذفوا عليه الأوساخ، حتّى بلغوا به إلى أعماق السجن، وهناك أفحشوا في ضربه وتعذيبه حتّى فاضت روحه بيد خالقها. 4
الخاتمة
في المسيحية ليس بالفاتح والبطل من شَهَرَ سيفًا، وسفك دمًا، وفتح فتوحًا، وانتصر في معركة. بل البطولة في المسيحية هي لمن بذل دمه شهادة لإيمانه. وهكذا نال الأب حنّا شوحا إكليل الشهادة، باذلاً دمه حتى آخر قطرة حفاظًا على إيمانه. لقد كان الأب الشهيد حنّا شوحا على رأس سلسلة طويلة من الشهداء من الأساقفة والكهنة والمؤمنين سُفكت دماؤهم في سبيل الإيمان.
وهنا أتسآءل: أين الكنيسة الكلدانيّة من ذكرى هؤلاء الأبطال؟ أليس من واجبها أن تسعى بجدية لرفعهم على مذابح الكنيسة الجامعة كقدّيسين مكرمين جزاء إرهاق دمهم الطاهر في سبيل المسيح؟ علمًا أنّ بين هؤلاء الشهداء أربعة أساقفة عظام هم: مار أدي شير، مطران سْعرت، ومار يعقوب أوراهام، مطران الجزيرة العمرية، ومار توما أودو، مطران أورمية، ومار توما رشو، مطران أثيل، بالإضافة إلى عشرات الكهنة، وخمسين ألف مؤمن. ناهيك عن المعترفين الذين نالوا أشدّ العذابات، وعاشوا أقسى الصعوبات، نذكر منهم: مار إسرائيل أودو، مطران ماردين، ومار سليمان صباغ، مطران آمد، ومار بطرس عزيز، مطران سلامس، ومار أوجين منا، مطران وان، بالإضافة إلى العديد من الكهنة، والآلاف من المؤمنين الذين تركوا كلّ شيء في سبيل الحفاظ على وديعة الإيمان الثمينة.
وقد عَـبّـر عن هذه الأمنية مار إسرائيل أودو في مذكراته بالقول:
«نستطيع أن نجزم بأنّ الذين قُتلوا من الكلدان في آمد وسْعرت وماردين وبازبدي ونصيبين وجوارهم، من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وشبان وشابات وأطفال، هم حسب رأيي شهداء حقيقيين للإيمان المسيحي، وتستحقّ كنيسة المشرق الكلدانيّة أن تفتخر بهم أمام أمم الأرض قاطبة، لأنّه في القرن العشرين، كما في أيّام الطاغية شابور وغيره، قدّمت الآلاف من الشهداء للمسيح الشهيد العظيم، كهدية ثمينة، ولا تزال مياه الحياة الروحيّة تجري في جسمها الحيّ حتّى اليوم».
ويختم المطران أودو مذكراته بقصيدة عصماء باللغة الكلدانيّة، يتحدّث فيها بلغة شعريّة بديعة ورصينة عن هذه المذابح النكراء، نذكر منها بعض الأبيات:
الـدم الزكي للأحبار والكهنة وأبناء كنيستنا
مع دم الرجال والنساء والشابات والشبانا
يصيح من الهضاب والجبال والآبار والوديانا
يصرخ مـن أعماق الأرض بألم ويدعونا
دم الشهداء المذبوحين لا يكل ولا يمل ينادينا
قوموا يا مساكين وثبتوا صور اضطهادنا
للأجيال القادمة ليعرف العالم مـا جرى علينا
من أجل إيماننا أية عذابات وإهانات ذقنا
النسور الخبيثة احتاطوا الحمامة من كل جانبا
فمزقوا أجنحتها وكسروا ريشها وقتلونا
إنّه نداء أوجّهه من الأعماق إلى القيمين على رئاسة الكنيسة الكلدانيّة، علّه يجد آذان صاغية لتحقيق هذا الهدف السامي، احترامًا لذكرى شهدائنا الأبرار، ومعترفينا الأوفياء، حتّى تبقى ذكراهم خالدة إلى الأبد، ودماؤهم الزكية بذار الحياة تشفع فينا أمام منبر المسيح حتّى منتهى الدهر. وفخرنا أنّنا أبناء أولئك الشهداء والمعترفين.
1 «تـأريخ»، مخطوط للمطران إسرائيل أودو، ص. 73- 79.
2 يقول المطران إسرائيل أودو، في الشهادة الواردة سابقًا، بأنّه اقتيد إلى دياربكر يوم الأحد 11 أيار !
3 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 139-140.
4 اسحق أرمله ، القصارى في نكبات النصارى، ص. 140-141.