تعريب القصيدة التي كتبها مار إسرائيل أودو، مطران ماردين على الكلدان، عن المذابح التي اقترفتها السلطنة العثمانيّة ضدّ مسيحيي ماردين وسْعرت وبازبدي (الجزيرة العمريّة) والتي استمرّت من تموز 1915 وحتّى تشرين الأوّل 1918
ترجمة: الشمّاس نوري إيشوع مندو
مراجعة: فضل الله صوايا
المطران إسرائيل أودو (ألقوش، 6 آب 1858 – ماردين، 1941)، عمّه البطريرك يوسف السادس أودو، وشقيقه المطران الشهيد توما أودو ، مطران أورمية في إيران. درس في الإكليريكيّة البطريركيّة في الموصل، ورُسم كاهنًا سنة 1881، ومطرانًا على أبرشيّة ماردين الكلدانيّة، سنة 1910.
كتب المطران أودو القصيدة المنشورة ههنا باللغة الكلدانيّة، وتميّزت بلغتها القويّة المحكمة، وبالمعاني الدقيقة للكلمات، حاول المترجم إلى اللغة العربيّة الإبقاء عليها كما جاءت في الأصل. نُشرت في السويد، سنة 2004، باللغة السريانيّة الغربيّة، مع مجموعة من القصائد أو الميامر الأخرى، مأخوذة من مخطوط للمطران كان يحتفظ به ابن عمّته المقيم في العراق.
الشهيد العظيم الذي بذبحه انتصر على الطغاة
بتمزيق جسده أظهر للطغاة والسلاطين
بأنّه مسرع الخطى في طريق الصالحين
الشمس الممجدة التي أنارت الأعماق وهي في العلا
أرمِ بشعاعك على ظلمتي المملوءة بالخطيئة
عريس الدماء الذي طريقه كلّه دماء مسفوكة
اسمح لي أن أتحدّث عن قصّة آلام بحر الدماء
إنّني أطوف على الأوراق في بحر الدماء
أبسط يدك لئلا أترضض بالحجرة
وأفض مياهه ليقف مثل الموج المنتصب
صوت أمواجه أرهب المسكونة وشقّ المعمورة
ثقب الفضاء ووصل الأعالي طالبًا اليقظة
الدم الزكي للأحبار والكهنة وأبناء الكنيسة
يصرخ من جوف الأرض بألم وبتحنن
دم الشبان والشابات والنساء والرجال
يصيح من الهضاب والجبال على القتلة
وهو يناديني بدون هدوء، هو دم الشهداء المذبوحين
فقم يا مسكين وأكتب صورنا بألواح الكلمات
في صفحة الكلمات صوّر وجوه اضطهاداتنا
وثبّته واضحًا إلى أجيال قادمة
ليعرف العالم ماذا تَحمَّلنا من أجل ديننا
وأيّة عذابات مريرة ومؤلمة تألَّمنا
اضطهاد النفاق الذي ثار علينا مثل الزوابع
على الأشجار، وهدم الأرز، وقطع الأنسال
هدم الأجفان، وخرب الأغصان، وصنع الفساد
هدّ الحدائق، وكسر السياج، واقتلع المجدل
صدر قرار على المسيحيين يفوح منه الموت
بأنّهم يجب أن يغرقوا بالدوامة كالملح
من الناكرين للصليب والأعداء العابثين فسادًا
قوموا أيّها الفاسدون وانفثوا سمًّا على أولاد الكنيسة
النسور الخبيثة احتاطوا الحمامة من كل جانب
فمزّقوا أجنحتها، وكسروا ريشها، وقتلوها بالسلاح
أَغلَقوا الكنائس وحتّى المذابح حسب الأوامر
وكسروا الصلبان، ووطئوا المذابح والقرابين
والثياب المقدّسة قد باعوها في الأسواق
أمّا الصور المقدّسة فأصبحت للضحك والسخرية
والمباخر والشموع، فقد أطفأوها بالبصق عليها
والكتب المخطوطة والمكتبات، أسلموها للفساد
أمّا الكهنة الأفاضل، فرموهم في السجون
وبعضهم صلبوهم، والبعض ماتوا بتأثير ضرب العصي الضخمة
وبعضهم سَحبوا منهم أظافر أيديهم وأرجلهم
والظهور والأكتاف، مُسحت بأمشاط حديديّة
شعر ذقون الكهنة قد تعرّضت للنتف
هكذا كان يُفتعل في السجون حتّى ذهبوا للذبح
وسلّموا أمرهم لمشيئة ربّهم، وخرجوا للقاء الموت
القطيع الأوّل حوالي خمسمائة رجل مختار
الزعماء والرؤساء الأحبار والكهنة مع الأرمن
ومعهم السريان والكلدان، سيقوا بمنتصف الليل
خرجت فرقة الشهداء الأبطال كلّ أربعة على حدة
وعلى أياديهم وأرجلهم الأغلال المضغوطة
أخذهم ثمانون جندي راكبي الجياد وأهلكوهم
فعرّوهم من الثياب مثل يسوع على الجلجلة
والعيون انفتحت إلى العلا تطلب الخلاص
فاستلّوا السكاكين، وألمعوا السيوف على الرقاب
فرموا بها على الرؤوس، فاشتعلت النار وخرج الرصاص
فأخذ القتلة مقصاتهم، وكالطباخين وقعوا على القطيع المغلوب
وقطعوهم ومزقوهم بواسطة السيوف والخناجر
وعندها لم تنقطع حماسة الأبرار حتّى النهاية
ولم ينكروا دم المخلّص الذي على الجلجلة
سالت دمائهم وذُرفت الدموع مثل الجواهر فارتوت الأرض
هذه أصبحت غداء للحيوانات والطيور
ليس لهم حارس أو غطاء أو مشيع
جثث الأبرار مرمية بالتراب، وليس من يدفن
امنحني يا رب صوتًا لأتحدّث وبدون توقف
فقطيع آخر اجتمع بداخل السجن
هذا أيضًا ذاق المرارة مثل الأوّل
وليس لهم أملٌ بالنجاة سوى الانتظار للموت
إذ عاد جنود الدماء من القطيع الأوّل، فأخذوا الثاني
ثلاثمائة رجل أُخرجوا مربوطين نحو الهدف المنشود
ويسوقوهم مثل الحيوانات، وسجنوهم في غرف ومزابل
ومعهم مجموعة كهنة، فقضوا الليل كلّه بالاعتراف والتوبة
والندم والألم والبكاء والدموع والصلاة والسهر
في اليوم الثاني باكرًا، أخذوا بعضهم إلى الجبل فماتوا
والبعض الباقون توجّهوا بهم إلى آمد (ديار بكر) وأمامهم نهر
فأمروهم بالشرب، وبينما هم يشربون
جهزوا السلاح لسفك دمهم في الماء
وإذ بقائد القوّات يصرخ مبشرًا بصدور العفو
فمشوا إلى آمد وسُجنوا هناك، ثمّ أعادوهم بعد أيّام
إلى السجون وهم حفاة، وبعد أيّام أُخلي سبيل السريان والكلدان
أمّا الأرمن فأُخذوا ليلاً، فقتلوا الرجال والشيوخ
هنا ترتعد اليد والإصبع لإمساك القلم وكتابة الجرائم
إذ أصبحوا معصرة ومداس الأرجل، هؤلاء خراف المسيح
أيضًا أسروا مجموعات واحدة بعد الأخرى
وكان عدد القافلة الأولى ثلاثين عائلة من النساء والرضع
خرجت البتولات والعجائز بخوف ورعدة وحزن وهنّ عاريات
وبمرارة يتكلمن: ابقِ بسلام أيّتها المدينة المحبوبة
التي فيكِ تَرَبَّينا لأنّنا لن نراك ثانية
وفي الطريق جاء الأكراد، ودخلوا بين القطيع
واختاروا البتولات الجميلات المظهر والمنتظر
وأخذوا الأولاد والرضع، وخطفوا البنات وليس من مجيب
والبقيّة من المتزوجات والعجائز أحتاط بهنّ الجنود
ومدّوا أياديهم للمساس بالطاهرات، فعروهنّ من ثيابهنّ بدون خجل
ويل من الناس إلى أين وصلت وحشيتهم هؤلاء العميان
هذا هو يوم العار، إذ به وقفت النساء عاريات بين الأوثان
الذين جهزوا السلاح بوجوههنّ واحدة تلو الأخرى
لإرغامهنّ لنكران دينهم، والشهادة بنبيهم، حتّى يتخلصن
وألاّ سيُذبحن بالسيوف والسكاكين
فصرخن ببطولة بأنّنا لن نترك إيماننا فاعملوا ما تريدون
فنحن لن نخاف من السيوف والسهام، لأنّ قوّة الربّ
أبعدت عنّا كلّ خوف، فخالق المسكونة هو أملنا ومعيننا
الآب خلقنا، والأبن خلّصنا، والروح قدّسنا
إله واحد له نسجد، وبه نعترف
فعندما سمع الجنود ذلك ألمعوا السيوف، ووجَّهوا الرماح والسهام
فقطعوا الرقاب، ومزّقوا الأثداء، وفتحوا البطون
وكسروا الأذرع، وهشّموا الأجساد
فالبنت تنظر أمّها المباركة وهي تُذبح
فتضرب على صدرها، وتنتف شعرها، وتلطم وجهها
والابن يصيح بصرخات لأمّه بدون رثاء
من يتحمّل صوت الأولاد ونواح الأطفال على أمهاتهم
على أصواتهم بكت الجبال، فهذا لا يتخيله عقل ولا قلم
بأنّ الوحشيّة تجسّدت بكلّ الأنواع برمي الأجساد الطاهرة
ثمّ جمعوا الحطب، وأحرقوهم بالنار
ثمّ رموا الأولاد والرضع في وسط الدخان كالصمّ
هؤلاء البراعم وثمار المحبّة أبناء الصدّيقين
وأحرقوهم بقرب أمّهاتهم بنار العذابات
وتلطخت الجثث بالوحل وهي عارية، وليس من يغطيها
دمائهم تسيل كالجداول، وليس من جراح
هلمّوا يا حيوانات من كلّ الجهات إلى العشاء
كلوا لحمًا، واشربوا دمًا ذا طعم حادّ
وادعوا معكم النسر والباشق والصقر
أمّا القافلة الثانية المؤلّفة من أثنين وخمسين عائلة
كالأولى أخرجوها من دون أن يتركوا لها مال
واقتادوها ليلاً لقرية تلّ أرمن حيث الجوع والعطش
فاتجه العرب واختاروا منهم النساء الجميلات
بكاءٌ في الفم، وألمٌ في القلب، ودمعٌ في العين
رجال مذبوحون، أولاد مختطفون، نساء عاريات مثل النعاج
والقافلة الثالثة كانت ستين عائلة أخذوها قرب ماردين جنوبًا
فخرج القرويون، وأخذوا الفتيات والنساء حسب الطلب
ثم أكملوا المسير باتجاه بئر عميق، وعرّوهنّ من ثيابهنّ
وأنهوا عملهم المشين، ثمّ قفزوا عليهنّ بالسكاكين
وشدّوهن من شعورهنّ إلى فم البئر كالحيوانات
فذبحوا البعض وخزوا البعض بالرماح
والبعض ضربوا رؤوسهنّ بالحجارة وقبروهنّ أكداسًا
التراب والرماد شرب دماءهنّ
وهكذا قافلة تلو الأخرى حتّى لم يبق امرأة في بيت
والبعض أُخذن أسرى إلى حلب، ومنهنّ إلى الموصل ودير الزور
فكلّ الذكور والإناث ماتوا حوالي ستة آلاف من ماردين
ولم تتسع بيوت الأكراد من السرقات التي سرقوها من المسيحيين
من مفروشات وذهب ونقود وممتلكات
والسبايا من الفتيات كانت تُباع من واحد إلى آخر منحة
ومنهنّ كنَّ يُبَعن بالسوق مثل الحيوانات برخص
وأبرشيّة سْعرت مُحيت من الجذور
ولم يبق فيها لا رجل أو فتى أو شمّاس
حتى المطران الشهيد مار أدي (شير) قتله الجنود، إذ قطعوا رأسه
وأسروا النساء وقتلوهنّ وشرّدوهنّ
كذلك فعلوا في أبرشيّة الجزيرة (بازبدي)
إذ قتلوا الأحبار في السجون والكهنة في الكنائس
وجرّوا جثثهم كالحيوانات في أسواق المدينة
فانتهت سلالة المسيحيين من تلك البلاد
وأمسكت كل ممتلكاتهم وقراهم
وبقيت المذابح والهياكل حزينة
نهاية القول أنّ الأرمنيّة اقتربت من الفناء
تجاوز عدد الذين هلكوا بهذا الاضطهاد
الخمسين ربوة من المسبيين وربّما أكثر من ذلك
هذا بالنسبة للأرمن فقط
الذين بسببهم حُكم بالموت على الآراميين أيضًا
فانظر أيّها العاقل أنّه بأربعة أشهر تّم هذا كلّه
إنّ المسيحيين وإن كانوا قد تحمّلوا بالقرون الأولى اضطهادات
فهذا الاضطهاد لم يكن أقلّ من سابقه
مثل اضطهاد شابور مدّة أربعين سنة
على المسيحيين في المشرق، وسفك خلالها الدماء الطاهرة
يا الله العارف بالكلّ انظر الظلم الذي صُنع بشعبك
إذ أعطيتَ جثثهم للحيوانات، وسُفك دمهم حول أورشليم
نحن أخطانا وأغضبناك بواسطة آثامنا أيّها الصالح
فلذلك سلمتنا بأيدي الأعداء
أمّا الآن فبمراحمك اصنع لنا خلاصًا
إذ قبل الأحبار الموت لأجلك، نيحهم مع زمر الاثني عشر
وأيضًا الرجال والنساء المذبوحين، اقبلهم كلّهم مع الشهداء
لك المجد.