مسيحيّو المشرق على درب الآلام : استشهاد الأب رغيد كني والشمامسة الثلاثة
الشماس: نوري إيشوع مندو
الأب رغيد كني والشمامسة الثلاثة في قلب العراق
لا نستغرب من حادثة استشهاد رجل الله الأب رغيد كني والشمامسة الثلاثة. أعرفُ الأب كني معرفة شخصيّة، وتربطني به أواصر المحبّة الروحيّة والاحترام المتبادل، من خلال لقاءت عديدة جمعتنا في مدينتي القامشلي والموصل. وقد لمستُ فيه عمق إيمانه بخدمته الكهنوتية. فقد كرّس نفسه من أجل رعاية النفوس والعمل على خلاصها. فلم تغريه ملذات أوروبا والعيش الرغيد فيها، إذ ما أن أنهى دراسته في روما حتى قرّر العودة إلى العراق ليقف إلى جانب شعبه المتألّم، ويعمل على التخفيف من معاناته ومآسيه.
في زيارته الأخيرة إلى القامشلي وهو في طريقه إلى روما لحضور مؤتمرًا هناك، حدّثني عمّا عانه وشاهده خلال تفجير الإرهابيين لبناء مطرانيّة الموصل، حيث أُخرج من غرفته إلى الشارع قبل التفجير. وأذكر ما كان يحمل من صور عن تلك الفاجعة التي ارتكبها برابرة عصرنا. ومن خلال حديثه لمستُ فيه الإصرار على مواصلة المسيرة رغم الصعوبات والمخاطر.
وبعد تدمير المطرانية تعرّض لحادث آخر حيث أُلقيت عليه قنبلة يدوية أثناء خروجه من كنيسة الروح القدس في حيّ النور، وبرفقته أخته راغدة، فنجا من ذلك الاعتداء الأثيم، وأُصيبت أخته بجروح بليغة.
كلّ هذه المضايقات لم تثنه عن تأدية الواجب رغم الغيوم المتلبدة المحيطة بالموصل، بلّ استمر في عمله الدؤوب على مثال الراعي الصالح الذي يبذل نفسه من أجل الخراف. وهذا ما حدث لهذا الأب الشهيد الذي سفك دمه الطاهر من أجل أحبائه. مقتديًا بذلك بقول معلمه يسوع الذي قال: ما من حبّ أعظم من هذا، أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه (يوحنا 15 : 13).
وُلد الأب رغيد في الموصل سنة 1972. درس في مدرسة شمعون الصفا. نشأ وترعرع في كاتدرائية مسكنتا. عندما شبَّ بدأ بالعمل في نشاطات الكنيسة، من تعليمية وخدمية ورعوية. سنة 1993 حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنيّة من جامعة الموصل. أرسله مثلث الرحمة المطران كوركيس كرمو، مطران الموصل، إلى روما للدراسة، فدرس في جامعة القدّيس توما الأكويني (الأنجليكوم).
رُسم كاهنًا سنة 2001 بوضع يد مثلث الرحمة البطريرك مار روفائيل الأوّل بيداويد. أكمل دراسته وحاز على شهادة الماجستير في لاهوت الكنيسة المسكوني. عاد إلى العراق سنة 2003 وعُـيّن للخدمة في كنيسة الروح القدس. عمل على إكمال بناء الكنيسة المذكورة والتي كرّست سنة 2006. وفي نهاية سنة 2006 اسديت اليه مهمّة خدمة النفوس في كنيسة مار بولس، إضافة لخدمته في كنيسة الروح القدس. استلم إدارة الدورة اللاهوتية في الموصل للعام الدراسي 2006 – 2007. فتح فرعا جديدًا للدورة اللاهوتية في بلدة كرمليس. اغتيل يوم الأحد 3 حزيران 2007 أمام كنيسة الروح القدس في حيّ النور بالموصل، بعد ان أنهى القداس، واستُشهد معه 3 شمامسة هم:
- الشمّاس وحيد إيشو: وُلد في قضاء عقرة سنة 1966. درس الأبتدائية بالموصل. حاز على شهادة البكالوريوس في أدب اللغة العربيةّ من جامعة الموصل. خدم شمّاسًا في كنيسة مريم العذراء، حيّ الدركزلية بالموصل. سنة 2006 خدم في كنيسة الروح القدس.
- الشمّاس بسمان يوسف داؤد: وُلد بالموصل سنة 1982. درس في مدرسة الغسانية بالموصل. حاز على شهادة دبلوم بالموسيقى من معهد الفنون الجميلة بالموصل سنة 2002. خدم في كنيسة الروح القدس ضمن اللجنة الاجتماعيّة.
- الشمّاس غسان بيداويد: وُلد في الموصل سنة 1984. ترعرع في كاتدرائية مسكنتا. تخرّج من إعداديّة الموصل الصناعيّة. انتقل للخدمة في كنيسة الروح القدس، وعُـيّن حارسًا عليها.
وتستمرّ مسيرة الشهادة من جيل إلى جيل، فمسيحيي المشرق هم طعمة لنار الحقد والغدر منذ بداية المسيحيّة وحتّى يومنا هذا. والباحث في بطون التاريخ يستطيع أن يطّلع على تلك المجريات التي غيّرت خارطة المنطقة، وأحدثت فراغات كبيرة في الحضور المسيحي، بدءًا من تركيا ومرورًا بإيران والأراضي المقدّسة، واليوم العراق، والحبل على الجرار كما يقول المثل. ولا بدّ أن نستذكر أنّ كنيسة المشرق أُطلق عليها كنيسة الشهداء، لما قدمته من عدد هائل من الشهداء عبر الأجيال.
ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق تتعرّض الأقليات بشكل عامّ، والمسيحيين بشكل خاصّ، لحملة تصفية عنيفة، يحمل لواءها تنظيمات إرهابية تكفيرية من المتطرفين الإسلاميين. ولا ذنب لهؤلاء المسيحيين سوى أنّهم مواطنون صالحون ملتزمون بمحبّة الله والبشر. ومع أنّهم عنصر البناء والتنمية في موطن آبائهم وأجدادهم بلاد ما بين النهرين مهد الحضارات والوحي، لما يحملوه من مؤهلات علميّة وثقافيّة وتجاريّة وصناعيّة وزراعيّة، والأهمّ من ذلك قيمهم الإيمانيّة والأخلاقّية. إلاّ أنّهم أضحوا عرضة لنار القتل والاضطهاد والتهجير من زمر الجهل والشرّ.
فمنذ احتلال العراق راح المتطرفون باتهام مسيحيي العراق بالصليبين زورًا وبهتانًا، بكلمات نابية وشعارات رخيصة يندى لها الجبين. وجعلوا من تهمهم الواهية حجّة للانقضاض على هؤلاء المسالمين والعزّل كالوحوش المفترسة. وبدأ مسلسل الخطف والقتل والتهجير، والاعتداء على الكنائس وممتلكات المسيحيين. وهذا ما يذكرنا بحملات الغزو التي تبيح للغازي بفعل ما يشاء، لأنّ ذلك مباح وحلال له، متناسين أنّ زعماء العراق الحاليين كانوا في زمن النظام السابق يستعطفون أمريكا وأعوانها لمساعدتهم على قلب نظام الحكم، وجلب الحريّة والديمقراطيّة للعراق المعذب، وجلّ هؤلاء الزعماء هم من المسلمين، والحمد لله لم يكن بينهم شخصيّة مسيحيّة. فالأمريكان جاءوا إلى العراق بناء على طلبهم، ولم يأتوا لحماية المسيحيين أو خلق كيان خاص بهم. ويستطيع المتتبع لمجريات الأمور أن يتأكّد من ذلك من خلال ما حلّ بمسيحيي العراق من مآسي بعد الاحتلال الأمريكي.
وهنا أذكر مثلاً على ذلك. فمن المعروف أنّ منطقة الدورة، جنوب بغداد، تُعتبر من الأحياء المكتظة بالسكان المسيحيين، وتضمّ صروح مسيحيّة مهمّة أذكر منها: كلّـيّة بابل الحبرية الكلدانيّة، والمعهد الكهنوتي البطريركي الكلداني، وكنيسة القديسين بطرس وبولس الكلدانيّة، وكنيسة مار يعقوب النصيبيني الكلدانيّة، ودير مار أنطونيوس مقرّ الرئاسة العامة للرهبنة الهرمزديّة الأنطونيّة الكلدانيّة، ودير الملاك روفائيل للراهبات الكلدانيات، وكنيسة مار زيا الأشوريّة، وكنيسة مار كيوركيس الأشوريّة، ودير أخوات يسوع الصغيرات، ودير الراهبات الكاترينيات، ودير الراهبات الفرنسيكانيات، ودير الآباء المخلصيّون، ودير الآباء السالزيان، ومركز للفوكولاري. هذا الكم الهائل من الصروح الدينيّة يعبّر عن الحضور المسيحي الكثيف في منطقة الدورة.
ومنذ فترة قصيرة احتلّ الجيش الأمريكي مبنى كلّـيّة بابل وجعلوه قاعدة عسكريّة لهم. وبعد مراجعات عديدة من قبل البطريركيّة الكلدانيّة لقوات الاحتلال لإعادة البناء إلى أصحابه، لم يلق هذا الطلب آذان صاغية لديهم، وبقيت المراجعات من دون جدوى، ومن دون احترام للمرجعيّة الكنسيّة العليا الصادرة عنها. وأمام عيون الأمريكان القابعين في كلية بابل تتمّ يوميًّا تعديات مشينة بحقّ مسيحيي الدورة. فالتكفيريون ينذرون هؤلاء العزل والمسالمين اختيار أحد الأمرين وهما: إمّا نبذ المسيحيّة واعتناق الإسلام حتّى يستطيعوا البقاء في بيوتهم، وإمّا مغادرة بيوتهم وترك كلّ ممتلكاتهم من منقولة وغير منقولة ومغادرة المنطقة فقط باللباس الذي يرتدون. فأين الأمريكان من حماية هؤلاء العزّل. الذين قيل بحقهم بهتانًا أنّهم صليبيّون وقد جاء المحتلّ لحمايتهم.
كلّ ما في الأمر أنّ ما قيل ويقال بحقّ مسيحيي العراق ليس إلاّ حجج واهية، وأنّ ما يجري هو تحقيق لمخططات الصهاينة الذين لا يزالون يحقدون على أبناء بابل ونينوى الذين دمّروا مملكة إسرائيل. والدليل على ذلك، أنّهم سرقوا كلّ التحف الأثرّية التي تشير إلى ذلك، الموجودة في متحف بغداد، بعد الاستيلاء عليه، لأنّهم يريدون أن يمحوا من ذاكرة الشعوب تلك النكسة التي حلّت بهم. أمّا الأداة المنفذة لهذه المخططات فهي زمر الجهل والغدر والحقد الذين يتّخذون الإسلام والجهاد في سبيل الله عنوانًا مبهمًا لجرائمهم الشنيعة.
أمام هول ما يجري أجد من الواجب أن يتحمّل أصحاب القرار مسؤوليتهم أمام الله والتاريخ وذلك:
1- بأن تتخذ المرجعيّات الإسلاميّة الإجراءات المناسبة بحقّ هؤلاء المجرمين الذين يسيئون إلى الإسلام أوّلاً، من خلال مواقف جريئة وصريحة، وتعريتهم ليظهروا للعالم على حقيقتهم، لأنّ السكوت عنهم يدلّ على موافقة ضمنية لأفعالهم الشنيعة. وعليهم أن يميّزوا بين السياسة والدين، لأنّ ما تجريه أمريكا على أرض العراق هدفه تحقيق مصالحها السياسيّة والاقتصاديّة، وليس للمسيحيّة كدين علاقة بأفعالهم. والدليل على ذلك الصوت الصارخ الذي أطلقه البابا الراحل مار يوحنا بولس الثاني والذي أدان به علنًا وبشدّة حصار العراق وغزوه. وهذه الصرخة أطلقها مرّات عدّة دفاعًا عن الشعب الفلسطيني المظلوم. ناهيك عن أصوات البطاركة والأساقفة في جميع أنحاء العالم. هذا هو موقف الكنيسة دائمًا في المواضيع الإنسانيّة. في المقابل نجد أنّ العديد من زعماء الدول العربيّة والإسلاميّة شجّعوا الأمريكان على احتلال العراق، وقدّموا لهم التسهيلات اللازمة لتحقيق هذا الهدف. ولا زالوا حتّى يومنا هذا يسطعتفونهم للبقاء خوفًا من نقمة شعوبهم، وحفاظًا على كراسيهم. فعلى المسلمين أن يعرفوا هذه الحقيقة، ويدركوا أنّ فراغ المنطقة من المسيحيين هو دمار للإسلام والمسلمين، حيث سيحلّ الظلام مكان النور، والجهل مكان العلم والمعرفة، والتخلّف مكان التقدّم والتطور. وأظن أنّ ذلك لا يفوتهم، فلهم أمثلة على ذلك تلك البلاد الإسلاميّة التي فرغت من مسيحييها، وأضحت صحراء قاحلة لا حياة فيها.
2- بأن تتدخل حكومات الدول الكبرى والأمم المتحدة والمنظمات الدولية لردع هذه الانتهاكات التي تجري بحقّ مسيحيي العراق، وإلاّ ستبقى هذه التجاوزات وصمة عار في جبين البشريّة، في حال وقوفهم متفرّجين على ما يجري.
3- بأن تعمل المرجعيّات المسيحيّة في العراق والعالم على جميع الأصعدة لإبطال هذا المخطط، ووقف نزيف الهجرة القاتل الذي سيفرغ المشرق العربي من المسيحيين، والعمل الجاد على تثبيتهم في أرض الآباء والأجداد من خلال حلول عمليّة مدروسة، بعيدًا عن العواطف والمجاملات. فقد شبعنا من البكاء على الأطلال.