المئوية
  |  
الكنيسة المارونيّة
  |  
لقاء حول كتاب البروفسور انطوان بستاني عن المجاعة الكبرى في جبل لبنان 5.2.2015
Cross

كلمة البروفسور انطوان بستاني

كلمة النقيب البروفسور أنطوان بستاني حول كتابه باللغة الفرنسيّة بعنوان
«تاريخ المجاعة الكبرى في جبل لبنان 1915-1918، الإبادة التي مرَّت بصمت»
في قاعة متحف كيليكيا لكاثوليكوسيّة الأرمن الأرثوذكس – أنطلياس 
بتاريخ 5 شباط 2015
بدعوة وتنظيم اللجنة الإقليميّة لجمعيّة هاماسكايين الثقافيّة  وبرعاية قداسة الكاثوليكوس آرام الأوّل

شكرًا لصاحب الدار لاستضافتنا في رحابه، وللجمعيّة الأرمنيّة للثقافة والتعليم هاماسكايين لالتقاط الحدث والتجاوب معه، وإتاحة الفرصة لنا للتكلّم عن مجرياته وإثارة ذكراه، ذكرى أتت متأخرة مائة سنة فقط لا غير.

خلال هذا القرن احتفل إخوتنا الأرمن، أنّـى وُجدوا في أصقاع الأرض، مائة مرّة بذكرى محاولة إبادتهم، بتنظيم لقاءات جماعيّة، وإقامة صلوات خشوعيّة، وإطلاق نداءات عالميّة، من أجل الحفاظ على تاريخ رفضوا أن يصير من الماضي، ويتحوّل إلى حدث يُـقرأ في كتاب، وينام في أدراج الذاكرة واللاوعي. رفض إخوتنا الأرمن أن تتحوّل مأساتهم الرهيبة حفلات فولكلوريّة، فاستطاعوا أن يجعلوا منها قضية حياة أسكنوها عقولهم، وأحاطوها بقلوبهم، وعزَّزوا ذكراها بإرادتهم، وأورثوا احترام موتاها لذريتهم. وها هم في الذكرى المئوية يعاودون الكرّة بذات الزخم والصلابة والعناد، ولن يكلـّوا حتّى يصلوا إلى حقوقهم المقدّسة، وينال المجرمون عقابهم، رمزيًّا كان أم ماديًّا، ولو بعد ألف سنة. وهذا ما يستأهل كلّ إكرام واحترام.

وعلى مسافة زمنيّة موازية بسنيها وشهورها، كان شعب آخر يسكن أرضًا حفظته، وحافظ عليها عشرات القرون، عُرفت بجبل لبنان. توالى عليه غزاة أشبعوه ظلامة وحروبًا ومآسي ومذابح وتهجير، ولم ينالوا منه، إلى أن أتت الحرب العالميّة الأولى، وعاثت خرابًا في الحجر، وإبادة في البشر. كلام جميل، وماذا بعد؟ ذكريات ضبابية، وأخبار غامضة عن مجاعة ضربت البلاد، وجراد مـّر من هنا آكلاً الأخضر واليابس، وربّما جدّ أو عمّة أو جارًا قضى جوعًا، خبريات سمعناها من أب أو جدّ… أثارت فينا الفضول حينًا، والشفقة حينًا آخر، والخوف أحيانًا، سرعان ما أهملناها وتركناها تـُطمر في عالم النسيان، متبعين قاعدة لم أرَ، لم أسمع، ولا شيء لديّ أقولـه! حتّى رحمـات الله عليهم تجاوزناها!

أيّها السادة،
كان يسكن جبل لبنان شعب تقدّر الإحصاءات الأقرب إلى الواقع بالوسائل المتاحة في ذاك العصر، معدّل عديده ما بين 420 و 450 ألف نسمة. مـرّ بحقبة سُمّيت بنظام المتصرفيّة، امتدّت من 1861 حتّى 1914، أي نصف قرن، سمحت له بالخلود إلى بعض الراحة الأمنيّة والازدهار الاقتصادي، حقبة كان قد سبقها قرون ثلاث ونيف من عهد الإمارة اتسمت بالمضايقات السياسيّة، والأعباء الضريبيّة التي لم تكن تُطاق، والحروب المتتالية، والمآسي التي تُوّجت بأحداث 1840 – 1860، وانتهت بمجازر رهيبة، شكـّل المسيحيون وقودها، كالعادة، في لعبة أمم أوروبيّة، وإجرام عثماني واضح، وارتهان لبناني قاتل.

ونشبت الحرب العالميّة الأولى، وسقطت الاتفاقات الدوليّة والمعاهدات، فتحوّل جبل لبنان إلى ساحة مفتوحة، واللبنانيون لقمة سائغة دون سلاح، ودون حماية أجنبية، مما سمح للأتراك احتلال الجبل، وكان لهم ذلك بمثابة نزهة، وقد عاثوا في البيوت والقرى والبلدات نهبًا وخرابًا. ومثالاً على ذلك، أمر الأتراك الآباء اليسوعيين بالخروج من ديرهم في بكفيا، ولم يكتفوا بسلب الدير ونهبه، بل حوّلوا الكنيسة إلى اسطبل لخيولهم. وهكذا فعلوا في مدرسة عينطورة الذائعة الشهرة آنذاك، وفي غيرها من المؤسسات التربوية والاستشفائية. ثمّ كان حصار الجبل، فضربوا طوقًا عسكريًّا قاسيًا يهدف إلى منع وصول القوافل المحملة قمحًا وزروعًا غذائية، من شعير وذرة وأرز إلى الاهالي. ففي الحادي عشر من آذار 1915 (وكانت الحرب في بدايتها) أصدر جمال باشا أمرًا مشدّدًا بوجوب إبعاد المؤن والأغلال والحاصلات والعربات والحيوانات وسائر مسببات النقل الموجودة في القرى الساحلية إلى القرى الداخلية البعيدة (أي خارج جبل لبنان). وأكّد جمال باشا على مأموري الحكومة أن يلبّوا الأمر بالعجلة الممكنة، وأشار إليهم أن يحرقوا ما يتبقى من الحبوب في المخازن، فيما لو تسنّى للأعداء أن ينزلوا على الشواطئ لأجل احتلالها. ابتدأت أسعار الحنطة بالارتفاع، وكان قبل ذلك قد تصاعدت أثمان باقي الحبوب (عدس، حمص، فاصوليا، شعير وذرة…) وكلّ حاجيات المعيشة (الكاز، الأرز، السكر…). أمّا أرباب الحكومة البيروتيّة الذين كانوا يدأبون طبقًا لرغائب جمال باشا لإيجاد الطرق المضرّة بصوالح الجبل، فإنّهم أخذوا الحيطة لمنع الأغلال من دخول لبنان. وإذا تسنّى لأحدنا جلب شيء من الحبوب بطريقة أو بأخرى، كانت المفارز العسكريّة المشتتة في سائر جهات لبنان تضع يدها عليه، مدّعية أنّها بشديد الحاجة إلى الحبوب لأجل إطعام الجيش الذي يحارب عن الوطن والدولة. كان ناتج الجبل السنوي من القمح يكفي لمدة شهرين أو ثلاث على الأكثر، والباقي يتزودونه من سهل البقاع وسهول حوران.

لقد درس العثمانيون الوضع جيّدًا: تعدّدت الوسائل والإبادة واحدة. القتل بالحديد والنار للشعب الأرمني، والشعب الأشوري، ومحو للهوية الأرمنيّة والأشوريّة، والموت بالمجاعة للشعب اللبناني. ثلاث عمليّات إبادة في زمن واحد. وما الضير في ذلك عند الاتراك؟

انطلاقًا من هذا المخطط الإجرامي الهادف إبادة شعب بأكمله، توالت عوامل أخرى ساهمت في حسن تطبيقه ونجاحه، منها بشريّة، ومنها طبيعيّة.

فالعامل البشري الثاني كان حصارًا من نوع آخر أقامه الاسطول الإنكليزي على امتداد شواطئ فلسطين ولبنان وسوريا، بحجّة منع وصول الامدادات العسكريّة، من سلاح وعتاد وجنود، إلى الجيش التركي، بهدف إضعاف حملته التي شنّها الجيش الرابع بقيادة جمال باشا لاستعادة قناة السويس من الإنكليز. هذا ما ارتدّ سلبًا على المساعدات الغذائية التي كانت حكومة الولايات المتحدة الاميركيّة، وملك اسبانيا الكاثوليكي، ينويان إرسالها إلى الاهالي المحاصرين، وذلك على طلب ضاغط من قداسة البابا في الفاتيكان ، والـdiaspora اللبنانية في الاغتراب. رفض الإنكليز أي تساهل، بحجّة أنّ أيّ مساعدات سيستولي عليها الأتراك، ولن يحصل اللبنانيون منها شيئا. هكذا شدّ خناق الحصار بـرًّا وبحرًا.

العامل البشري الثالث تشكّل، كالعادة أيضًا، من اللبنانيين أنفسهم، أو قل بعضهم، وهل من عجب في ذلك؟ قامت مجموعة صغيرة من المتمولين بالتواطؤ والتضامن مع الوالي العثماني وبعض مساعديه، من مدنيين وضباط أتراك، بشراء وتكديس كميات من القمح، واحتكار بيعها، مضاعفين سعرها مع مرور سني الحرب، من عشرة إلى خمسين إلى مائة ضعف، لا يقبلون عملة إلاّ الذهب الرنّان، بعد أن تدهور سعر صرف الليرة التركيّة الورقيّة. ولمّا تبخّر المال، تحوّل الأهالي إلى الاقتراض، فلم يجدوا أمامهم غير المرابين، حيتان يبتلعون الحجر والبشر مقابل حفنة من الليرات، يرهنون البيوت والأراضي والحقول، ويحجزون النساء والفتيات مقابل إطالة العمر بضعة أسابيع. ولكنّ الأنكى من كلّ ذلك، وما يثير الغضب، أنّ ما من أحد من هؤلاء المجرمين نال عقابه بعد انتهاء الحرب، بل على العكس، أمضوا بقيّة حياتهم يتنعمون بهذا المال الحرام، والاملاك المغتصبة، دون حساب ولا عقاب.

هل تغيـّر شيء؟

أمّا العامل الرابع الذي ساهم بدرجة كبيرة في إرساء المجاعة، فقد أتى من الطبيعة، وكأنّ لعنة من السماء هبطت، وكأنّه لم تكـفِ إذية البشر وضلالهم وفساد أخلاقهم وعدم الخوف من ربّهم. جحافل لامتناهية من الجراد غطّت السماء، وحجبت نور الشمس لأيّام، افترشت الحقول والمزارع والغابات، واحتلّت البيوت وغرف النوم، ولو استطاعت ابتلاع البشر لفعلت. وما يثير العجب أنّ الجراد اختار جبل لبنان دون سواه، وحاد عن سهول القمح في البقاع وحوران. ورغم ذلك، لم يغثنا القمح، فحصار العثمانيين لم يتزحزح، ولم يخف قيد أنملة، والجوع يحصد الآلاف وهم يتفرّجون. محظوظون كانوا عثمانيو ذاك الزمان. أتتهم مساعدة تنفيذ مخطط إبادة اللبنانيين من حيث لا ينتظرون وبسخاء مما سيمكنهم لاحقًا، إذا ما انقلبت الامور لغير صالحهم، أن يتنصلوا من جريمتهم الكبرى، خصوصًا إذا التقى بعض اللبنانيين من أبناء وأحفاد من ماتوا جوعًا، يرفضون فكرة الإبادة، لأنّ الذي حصل لا يتناسب مع المفهوم القانوني للإبادة، ذلك أنّ مبادئ حقوق الانسان، وحريّة الشعوب، والعدالة والمساواة والمحاكمات الدوليّة مطبقة بحذافيرها بنظرهم، أو ليست تهمة الأتراك بالإبادة مغالاة؟ لكن لهذه النظرة نقاش آخر.

ولسوء حظّ جبلنا المسكين، لم يكن اعتداء العساكر التركية المتفرقة في سائر جهاته أخفّ وطأة من مضار ذلك الجراد الفتاك، فما سلم من أشجار، وما نجا من حقوله وبساتينه من أذى الجراد، وقع في أيدي أولئك الجنود السفلة الذين أخذوا يطوفون في الكروم والبساتين والأحراش، بيدهم المناجل والفؤوس، يقطعون الأشجار الحرجيّة، وأغراس العنب والتين والزيتون، وكلّ شيء مثمر، فكانت مضار الجراد شبيهة لفتاكات العساكر…!

سارعت الكنيسة ورجال الدين والرهبانيات للمساعدة، ففتحت الأديرة، ورهنت الأراضي، وبيعت الصلبان الذهبية لشراء القمح، وتوزيع وجبات غذائيّة يوميّة للأهالي. وهاج لبنانيو الاغتراب، من مصر إلى فرنسا إلى القارّة الأميركيّة، فتأسّست الجمعيّات، وعُقدت المؤتمرات، ونُظّمت الحملات الصحفية تهدف كلّها إلى إيقاظ الوعي لدى المغتربين، واستثارة مشاعرهم، وأُنشأت مجموعات ضغط سياسية للتأثير على القرارات الدوليّة.

من أشهر هؤلاء، في فرنسا، خيرالله خيرالله أحد مؤسّسي «الجمعيّة اللبنانيّة» مع شكري غانم وجورج سمنه وندره مطران الذين عملوا على إقناع وزير الحرب الفرنسي آنذاك لإنشاء فيلق أسماه «جيش المشرق» ومركزه جزيرة قبرص.

وفي مصر، حيث أسّس اسكندر عمون ويوسف السودا «جمعيّة الاتحاد اللبناني».

وفي الولايات المتحدة حيث تجنـّد العديد من المغتربين كأيوب تابت (الذي سيُنتخب سنة 1943 رئيسًا للجمهورية اللبنانية ولم يدم عهده سوى أربعة أشهر فقط لا غير)، والذي أسّس، في أيار 1917، «لجنة تحرير سوريا ولبنان»، وكان من مؤسسيها ثلاث من عظمائنا الخالدين: أمين الريحاني كنائب رئيس، وجبران خليل جبران، كمسؤول عن المراسلات الانكليزية، ومخايل نعيمة للغة العربيّة، وبالرغم من الجهود المضنية التي قاموا بها كانوا كمن يحارب من خلال المنظار.

فلا اللبنانيين بتعاستهم وجوعهم وأمراضهم الوبائية كان بإمكانهم إظهار أي تجاوب، ولا فرنسا كان بمقدورها القيام بأي محاولة عسكرية للمساعدة، ولا الحكام العثمانيين آنذاك، رؤساء «جمعيّة الاتحاد والترقي» الباشوات أنور وطلعت وجمال، كانوا بوارد أي تجاوب سياسي أو انساني ولو بذرّة، وكيف ذلك، والحسّ الإنساني نقيض علّة وجودهم وتكوينهم النفسي والاجتماعي، ولا الألمان، وهنا العائق الأصعب، كانوا بوارد الإصغاء إلى أي مطلب يتعلّق بمسيحيي المشرق ومساعدتهم.

ماذا حصل، إذًا؟ اتفق الجميع، وبنصيحة فرنسية، أنّ الوسيلة الأسلم تكون بإرسال المال الناتج من تبرعات لبنانيو الاغتراب إلى السلطات الكنسيّة في جبل لبنان، تحصر مركزيًّا في بكركي، حيث يتولّى غبطة البطريرك الياس الحويك بتوزيعها وشراء القمح، حتّى من تركيا. وكان بطريركنا الجليل هذا قد باع صليبه الذهبي، وطلب من الدولة الفرنسيّة قرضًا بمليون فرنك فرنسي يرهن لهم مقابل ذلك أملاك الكنيسة والأديار. لم يقبل الفرنسيون، حرصًا على سلامة البطريرك، فيما لو اكتشف الأتراك هذا الاتفاق لكانوا أرسلوا بضع عشرات الآلاف من الفرنكات كهبة، وأخذوا على عاتقهم إيصال التبرعات من جزيرة أرواد، حيث كان مركز التسليم، إلى شواطئ كسروان. وكان المطران يوسف دريان، مطران الموارنة في مصر، من خلال علاقاته الدولية، وحيث كانت الجالية اللبنانية السورية كبيرة وفاعلة وغنية، يتسلّم المال من أنـّى أتى، ويسـيّر عمليات الإعانة.

مع توالي الأشهر والسنين كانت أعداد الموتى تتزايد بالآلاف، والجثث تتراكم على الطرقات حتّى أقفلت المدافن أبوابها، مما ساهم في ازدياد الأمراض والاوبئة.

اعذروني إذا قرأتُ عليكم بعض المقاطع من كتاب الخوري أنطوان يمين «لبنان في الحرب العمومية 1914-1918» صدر عن المطبعة الأدبية في بيروت، سنة 1921، والمؤلّف عاش المجاعة حيث قضى عدد من أقربائه. ترددتُ كثيرًا قبل أن أقرّر قراءتها أمامكم، بعد مائة سنة من حصولها. لكن قلتُ في نفسي إذا قرّرتُ وقرّرتم معي أن نتخطى السكوت، فما علينا إلا الكلام والبوح بالحقيقة:

- … وفي إبّان ذلك الغلاء الفاحش تعدّدت الحوادث المفجعة التي ترتجف لذكراها الصخور الصماء، ولم نكن لنصدقها لولا أنّنا رأينا بعضها بأمّ أعيننا، وسمعنا بعضها من فم الشتات.

- … شاهد الكثيرون في حي رأس بيروت، بالقرب من مدرسة الصنائع، ولدين يلتقطان حبّ السمسم من بين أكياس الوسخ، بينما كانت جماعة غيرهما حائمين حول كتلة من عظام الحيوانات المائتة، يمتصونها بنهم الوحوش (الصورة معروضة أمامكم).

- … ونحن بأم عيننا شاهدنا في بيت شباب الولد المسمى نصري… (سأغفل اسم الأب والعائلة) يلتقط الحبّ من فم النمل، بالقرب من كنيسة سيدة الأخوية، وقد شاهد معنا هذا الحادث المعلّم أمين نفاع، من القرية المذكورة، وما زال المعلّم أمين يذكرنا بذلك كلما التقينا.

- … شاهدنا وشاهد الكثيرون مرارًا متعدّدة جماعة الفقراء أمام مطحنة الطويل ومطحنة البراج في بيروت، ينقبون في براز الخيل والبغال والحمير لالتقاط بعض الحبوب التي كانوا يتناولونها، حاسبين ذلك أفخر طعام لهم. (الصورة معروضة أمامكم) وكم من مرّة التقينا بالبعض يتزاحمون على قشور الفاكهة وحسك السمك.

- … وأخبرنا جمهور من أهالي معلقة الدامور أنّ المدعو خطار … كان قاطنًا الدامور وهو من سلفايا، مديرية الشحار، قضاء الشوف، كان يأكل لشدّة جوعه جثث الآدميين. وأفادنا أحدهم أنّ ثلاثة من ضواحي المتين أدّى بهم الجوع الفضاح إلى أكل جثث الآدميين، ثمّ أنّ عددًا وافرًا كان يأكل الحشيش، وكلّ ما تصل اليه يدهم من ورق الحور وورق العنب وورق التين…

أعذرونــي كمان مرة.

والآن أتت ساعة الحساب، حساب عدد الموتى قبل الوصول إلى حساب المجرمين. من الطبيعي أن تتفاوت الأرقام، وكلّ كلام مخالف لا يتبع أصول المنطق والواقع، سنسرد ما جاء وتقرّر:

المؤرخ الكبير فيليب حتّي الذي قدّر عدد سكان جبل لبنان آنذاك بـ 450.000 يقول إنّ في السنين الأولى للحرب مات ما لا يقلّ عن 110.000 لبناني من الجوع. وأوردت الصحيفة اللبنانية اليومية «لسان الحال»، في عددها المؤرخ في 15 آذار 1918، أنّ حوالي 40% من سكان جبل لبنان قضوا جوعًا، ما يوازي بنظرهم مائة وخمسون ألفًا. إحصاءات الصليب الاحمر الأميركي الذي عمل أثناء الحرب وبعدها يقدّر العدد بـ 250.000. أمّا الآباء الفرنسيّون، وأشهرهم Martinprey وSarloutte وRemy الذين أجروا إحصاء يُعتبر الأدقّ فيقدّرون أنّ العدد أقلّه 180.000 من الأموات والباقي 210.000 أحياء. أمّا الدكتور جوزيف زياده الذي دار من قرية إلى أخرى يجري إحصاء لعدد الموتى فكتب: «يمكننا التأكيد دون أي نسبة خطأ تذكر أنّ عدد موتى الجوع في جبل لبنان يتخطى الـ 200.000.»

بعد كل تلك المعطيات نجد البعض ينزعجون من استعمال مفردة إبادة التي بنظرهم لا تنطبق على الشروط الدقيقة في القانون الدولي بتعريف «الإبادة». ربّما يجدون جوابًا في الرسالة التي بعث بها إليّ السفير التركي في لبنان، بعد قراءته كتابي هذا، وهو يرفض فيها كلّ تلك التأويلات حول موت 150.000 «مواطن»، وينصحني بقراءة مذكرات جمال باشا، الملقّب بالسّفاح، للاطلاع على حقائق الأمور، وكيف كان العثمانيون يساعدون أهالي الجبل (غير اللبنانيين كما كتب لي لأنّهم كانوا آنذاك رعايا أتراك ليس إلا ّ) كي يخلصوهم من الموت جوعًا. صدّق أو لا تصدّق!! عدم البوح بتعليقي هو أحسن تعليق، وأعتقد أنّه لدى كلّ منا ذات التعليق.

أيّها السادة،

لا شكّ أنّكم ستقولون لي بعد دقائق، يا نقيب يسلم «تمك» لهذا الكلام، وشكرًا لهذا العرض لأشنع حقبة في تاريخنا، منذ ما قبل يوحنا مارون، أي منذ استشهاد 350 راهبًا في سوريا حتّى يومنا، عرض لمحاولة إبادة شعب بأكمله، أُبيد حوالي 40 بالمائة منه، ونجا الباقون بأعجوبة. ولكن ماذا بعد الشكر؟ إلى اللقاء بعد مائة سنة؟ لا يا سادة، إلى اللقاء غدًا وبعد غد وبعد بعد غد وكلّ يوم من الآن وصاعدًا. لكن، قبل ذلك، هلا سألنا أنفسنا، وهذا أقلّ الإيمان، ماذا ضرب ذاكرتنا الفردية والجماعية، وأعمى أبصارنا، وأطفأ مشاعرنا، وحط ّ من كرامتنا، وأخمد إباءنا، وقلّل احترامنا لآبائنا وأجدادنا، بالمعنى البيولوجي للكلمة، وليس المجازي أو التاريخي. هناك ثلاث عوامل من الضروري الاطلاع عليها، وسأسردها بسرعة:

- العامل النفسي: لقد شكّلت تلك الإبادة الحدّ الأقصى لما يمكن شعب تحمله طوال تاريخه من مآسي وكوارث ونكبات ومجازر ومذابح، إلى آخر المصائب التي ضربت المسيحيين في جبل لبنان طوال تاريخهم، منذ عهد المماليك، وحادثة البطريرك حجولا، وصلبه في طرابلس، إلى عهد العثمانيين، ونهاية المعنيين، وبطش الجزّار، وهروب بشير الشهابي، ومذابح 1860. ولم يكن أجدادنا قد نسوا وطأتها بعد حتّى أتتهم ولأولادهم مجاعة الحرب العالمية الأولى التي فاقت بإجرامها كل ما سبقها. مع دخول الفرنسيين وطردهم العثمانيين وحلولهم مكانهم، شعر المسيحيون أنّ شيئًا جوهريًّا قد تبدّل، وأنّ صفحة جديدة فتحت في وجودهم. ففضلوا طيّ صفحة الماضي الذي لم يعد يحتمل بأكمله، وهذا ما حصل، ولكن بطريقة خاطئة.

- العامل الاجتماعي: الجوع كحدث اجتماعي ثقافي في حضارتنا اللبنانية والعربية هو مدعاة خجل وللبعض ربّما خزي وعار. عيب أن يجوع أحدنا أو أقله حرام. الجائع يثير الشفقة والدونية. والجوع بمعنيه المادي والمجازي مرفوض اجتماعيًا، فإذا كنت تمدح شخصًا تقول: «عينو شبعانه»، والمذلة هي أن تصفه بـ «العين الفارغة» أو «النفسية الجوعانه». فكيف الحال إذا كان أهل وأولاد وعائلات ماتت من الجوع، وأُبيدت في المجاعة؟ موضوع في غاية الإزعاج والحرج، فإذا سمحت الظروف عدم ذكر هذا الحدث فلن نتوانى عن ذلك، والوقت كفيل بطمره.

- العامل السياسي: بعد قرون من نظام سياسي اجتماعي محصور بجبل لبنان، حصل بين ليلة وضحاها انفتاح اجتماعي، وانفلاش جغرافي، وتبديل سياسي جوهري. كان في جبل لبنان مكوّنان رئيسيّان: المسيحيّون والدروز. ومع التوسّع الذي حصل على طلب من الموارنة وإصرار بطريركهم، دخل مكـوّن ثالث، معظمه في ذاك الوقت من السنة. حاول المسيحيّون التقدّم بشكوى للدول العظمى التي ربحت الحرب بالطبع (لأنّه الحقّ دائمًا على الخسران) ضدّ الدولة التركية، بجرم الإبادة، ومحاكمة المسؤولين، كما حصل مع المانيا، لكن سهى عن بالهم أنّ السلطنة العثمانية كانت مركز الخلافة، وهي ترمز دينيًّا ومذهبيًّا إلى مكوّن وشريك جديد من غير المستحب أن نبدأ تعاوننا معه و «العيش المشترك» بموضوع يحمل في طياته اختلاف في وجهات النظر. التوافق أولوية الأولويات، لذا وُجب طـيّ هذا الموضوع، واستبداله بحدث أكثر توافقية المتمثل بالشهداء الذين أعدمهم جمال باشا السفاح. أربعون شهيدا يمثلون الصورة الجديدة للبنان الكبير، مقابل مائتي ألف شهيد ينتمون إلى لبنان الصغير، لأولئك ساحة تحمل اسمهم، يتوسطها نصب يرمز إلى المكونين الجديدين، وعيد وطني سنوي للذكرى، ولهؤلاء صمت مطبق، على أمل أن يتحوّل مع الوقت إلى محو من الذاكرة أو في أحسن الاحوال إلى قصّة غرباء جرت أحداثها في إحدى أصقاع الارض.

لكن حساب الحقل لن يطابق حساب البيدر، حتّى لو بعد مائة سنة، ولهذا وُضع هذا الكتاب:
Histoire de la Grande Famine au Mont-Liban, Un génocide passé sous silence
وهو في طور الترجمة إلى الإنكليزية.

أنا مطمئن ولي ملء الثقة أنّ الأمور ستأخذ المنحى السليم لسببين:

أولاً، لأنّ غريزة البقاء التي أيقظتها فينا خطورة الأحداث التي تجري في لبنان والمنطقة، منذ أربعة عقود، والتي ابتدأت بحرب لبنان سنة 1975 والله أعلم متى ستنتهي، جعلت الذين قرّروا البقاء في لبنان، أن يعوا لواقعهم، ويتذكروا جذورهم، ويتنبهوا لغدهم. وهذا تصرّف إنساني لا شعوري ينتج من الشعور بالخطر الداهم والحياتي، والعودة إلى الجذور تقودنا إلى ما نحن بصدد القيام به.

ثانيًا، لأنّ وجودنا وتعاوننا مع الشعب الأرمني الشقيق والشريف هو بمثابة قدوة علينا التمثل بها بوفائه لشهدائه، بالمثابرة لإحياء ذكراهم، بالشجاعة والجرأة للمطالبة بالعدالة والحقّ، بتكاتفهم وتعاونهم بعضهم مع بعض وبإخلاصهم للبنان.

يـا ربّ، ساعدنا كـي نُصاب بتلك العدوى التي لا خلاص لنا بدونها.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013