كلمة الدكتور سمير جعجع في الذكرى المئوية للإبادة الأرمنيّة *
معراب، في 22 نيسان 2015
24 نيسان ليس مجرّد وقفةٍ سنوّية نستذكر فيها ضحايا المجازر الأرمنيّة فحسب، بل مناسبة نحيي فيها ذكرى جميع شهداء المسيحيّة المشرقيّة، من سريان وكلدان وأشوريين وأرثوذكس وموارنة وكاثوليك، ومحطّةٌ أساسيّة من محطّات الجلجلة الطويلة التي سارت عليها الإنسانيّة في صراعها المرير مع الشرّ والاستبداد والطغيان والعبوديّة، والتي لم تنتهِ فصولاً حتّى اليوم.
24 نيسان ليس تاريخًا محفورًا في ذاكرة إخوتنا الأرمن فحسب، وإنّما هو محطّة في مسيرة معاناة المسيحيّة المشرقيّة برمتّها، من جبل لبنان إلى جبل أرارات، ومن أضنة إلى ديار بكر وطور عبدين، ومن الدامور وبيت ملات وزحلة إلى الموصل ونينوى والحسكة وكَسَب. شرقنا لو حكى، لروت كلّ حبّة ترابٍ فيه، عن الحريّة والعزّة والكرامة، حكاياتٍ وحكاياتٍ لا تنتهي.
أيّها الحفل الكريم…
إنّ التضحية الكبيرة التي بذلها المسيحيون المشرقيون، والأرمن في صلبهم، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، هي واحدةٌ من ضرائب كثيرة تسدّدها الحريّة بمواجهة العبوديةّ، والديموقراطيّة بمواجهة الديكتاتوريّة، والتعدديةّ بمواجهة الآحاديّة.
إنّها ضريبةٌ، على قساوتها، ومرارتها، ودمويتها، لم تذهب هدرًا، وإنّما عبدّت الطريق أمام ظهور قيمٍ عالميّةٍ أكثر إنسانيةً وعدالةً ورقيًّا. إنّ هذه المذابح قد طبعت بحرارة دمائها أحرف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومهدّت السبيل أمام نضوج وعيٍ إنساني جامع، تجسّد من خلال ولادة مبدأ «التدخل الإنساني» الذي عرفته الأمم المتّحدة في ما بعد.
صحيحٌ أنّ المثاليّة التي عبّرت عنها المواثيق والإعلانات العالميّة لحقوق الإنسان لا تتطابق دائمًا مع الواقع المصلحي لبعض الدول، وصحيحٌ أنّ العدالة لم تتحقّق بعد في العديد من القضايا الإنسانيّة، ومنها «المسألة الأرمنيّة»، إلاّ أنّ الصحيح أيضًا هو أنّ الحقيقة تنتهي دائمًا بالظهور، والعدالة تنتهي دائمًا بالتحقّق.
إنّ العراقيل مهما كثرت، ومهما طال الزمن، ستزول حتمًا، وسيصل كلّ صاحب حقّ إلى حقّه في نهاية المطاف، ولن يصحّ إلاّ الصحيح.
أيّها الحفل الكريم…
عندما كان الأرمن والسريان والأشوريون يتعرّضون للإبادة الجماعيّة في أضنة وماردين وديار بكر وأورفا وسنجار ونصّيبين والمئات من المدن والبلدات الأخرى، كان سكان جبل لبنان، وبالأخصّ مسيحيّوه، يتعرّضون للحصار والاضطهاد والقتل تجويعًا.
وعندما كانت مدن وبلدات كثيرة من الإمبراطوريّة العثمانيّة السابقة تفقد مئات الآلاف من ابنائها الأصليين، ذبحًا وقتلاً وتهجيرًا، كانت مدن وبلدات وقرى جبل لبنان تخسر أكثر من نصف أبنائها قتلاً وتجويعًا وتهجيرًا.
وعندما كان أكثر من 250 مفكرًا أرمنيًّا يتعرّضون للإغتيال والإعدام في موطنهم الأصلي، كانت المشانق المنصوبة في ساحة الشهداء في بيروت تُجهِز على عشرات المفكرين والصحافيين اللبنانيين، المسيحيّون منهم والمسلمون.
إنّها حكايةٌ واحدة للكرامة والحريّة والعنفوان، تنوعّت فصولها من أرمينيا إلى جبل لبنان.
إنّه الشعور بالقلق والرعب والخوف، الذي ينتاب كلّ «رجلٍ مريض»، وانتاب السلطنة في تلك الأيّام، فدفعها لاستخدام الإجرام والإرهاب، كأفضل وسيلةٍ لمواجهة حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وتأخير دُنّو أجلها لأطول فترة ممكنة.
إنّ المفاهيم الإنسانيّة قد سطّرت تاريخنا، وخطّت مسار تطورّه من سخاء دماء أجدادنا، فما من فخرٍ أعظم من هذا.
إنّ مصير القمع والطغيان والإرهاب والديكتاتورية هو الزوال دائمًا. هكذا كان وهكذا سيكون.
أيّها الحفل الكريم…
لم يسقط أجدادنا ضحية مذابح طلعت باشا في اسطنبول وجمال باشا في بيروت، حتّى نقف اليوم موقف المتفرّج على جرائمٍ يرتكبها “طلعت باشا” آخر في الرقة ونينوى والموصل وليبيا، ومذابح يقترفها «جمال باشا» ثانٍ، في الغوطة الشرقيّة ودرعا وريف دمشق.
إنّ مسؤولية الأحفاد تكمن في عدم التفريط بتضحية الأجداد، والتمسّك بالقيم والمبادئ التي سقط هؤلاء في سبيلها، والعمل على إيصال هذه التضحيات إلى غايتها الإنسانيّة النهائيّة الكامنة في قيام شرقٍ تسوده الحريّة والعدالة والمساواة والتعددية، وتتحقّق فيه كرامة الإنسان.
أيّها الحفل الكريم…
صحيح أنّ المجازر الأرمنيّة بلغت حدًّا فريدًا من الوحشيّة والهمجيّة، لكنّ الصحيح أيضًا أنّها خلقت تماهيًا بين لبنان وأهلها الأرمن، إذ كرّست لبنان وطنًا ملجأ يوفّر الأمن والحريّة للمضطهدين والمناضلين في سبيل الحريّة في أرجاء هذا الشرق، وسمحت للمجتمع الأرمني النشيط والحيّ أن يضيف قيمة اجتماعيّة وثقافيّة وإنسانيّة وصناعيّة واقتصاديّة على الرصيد الوطني اللبناني.
إنّ لبنان هو وطن الحريّات، وطن الشعوب المقهورة، وطن كلّ باحثٍ عن الأمن والحريّة، ولن نرضى عن هذا اللبنان بديلاً.
لبنان نريده أن يبقى واحةً للحريّة وموئلاً للقيم الإنسانيّة، لا متراسًا متقدمًا للقمع والظلم والظلامية.
لبنان نريده أن يبقى ساريةً ترتفع عليها رايات الحقّ والحريّة والإنسان، لا سرايا مسلّحين ومستودعات ذخيرةٍ تُستخدم لقمع الحريّة وقتل الإنسان في هذا الشرق.
لبنان نريده أن يبقى مستودعًا للعلم والنور والحضارة والإنسانيّة، لا مُصدّرًا للأزمات وداعمًا للكيماويين.
أيّها الحفل الكريم…
لقد وصل الشعب الأرمني إلى لبنان، عشيّة المجازر، بأوضاعٍ مأساويّةٍ صعبة، ولكنّه مع ذلك حافظ على طابعه المسالم، فلم يتّخذ من هذا الواقع مطيّةً للتمرّد وإثارة القلاقل، وإنّما اتّخذه حافزًا لتحسين أوضاعه بالطرق النبيلة والمشروعة، ولم يحاول تقويض مقوّمات الدولة اللبنانيّة، وإنّما آمن بلبنان سيّدٍ حرّ مستقلّ، ولم يحاول سرقة مقدرات الدولة وإنّما أعطاها من لحمه الحيّ، ولم يأكل خبزه بعرق غيره، وإنّما بعرق تعبه وكدّه ومثابرته.
لقد كان للقوات اللبنانيّة شرف انضمام العديد من الشبّان الأرمن إلى صفوفها دفاعًا عن القضيّة اللبنانيّة، ومنهم من آمن بهذه القضيّة حتى الاستشهاد، فإلى أرواحهم الطاهرة في هذه المناسبة، ألف تحيّة وتحيّة.
صحيح أنّ وطناً اسمه أرمينيا خسر بعضًا من شعبه جرّاء المجازر الوحشيّة البشعة، إلاّ أنّ وطنًا آخر اسمه لبنان ربح بعضًا من هذا الشعب. فهنيئًا للبنان بأبنائه اللبنانيين الأرمن.
وهنيئًا لوطن يوحنا مارون بأبناء الشهيد وارطان.
أيّها الحفل الكريم…
إنّ ما يُرتكب اليوم من مذابح في سوريا والعراق وليبيا يُعيد الى أذهاننا مشاهد من المجازر الأرمنيّة السابقة، كما أنّ الموقف الدولي المُتردّد حيال المجازر السوريّة اليوم يُشبه بدوره الواقع الدولي الهّش المُرافق للمجازر الأرمنيّة حينها.
إنّ المجتمع الدولي مدعّوٌ اليوم إلى الالتزام ببنود الاتفاقات والإعلانات والمواثيق الصادرة عنه بالذات، واتخاذ إجراءات ردعيةٍ حاسمة تضع الالتزامات الدوليّة التي تُعنى بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسيّة، موضع التنفيذ.
أيّها الحفل الكريم…
إذا كانت أرمينيا أوّل من اعتنق المسيحيّة كديانةٍ رسميّةٍ في العالم، فإنّ لبنان أوّل من اعتنق الحرّيّة كمذهبٍ إنسانيّ في الشرق. وفي الوقت الذي كانت فيه جبال أرمينيا تبسط ذراعيها لتحتضن بينهما سفينة سفير الإنسانيّة الأوّل نوح، إيذانًا ببدء حقبةٍ إنسانيّةٍ جديدة، كان جبل لبنان يوفد قدموس معلّمًا أوّلاً لهذه الإنسانيّة.
إنّ ما يجمع اللبنانيين على مختلف ثقافاتهم ليس ماضي القهر والظلم والمعاناة فحسب، وإنّما تاريخٌ حضاريّ مشرق، ومستقبلٌ إنسانيّ مُزهر. قدرنا أن نكون معًا، صامدين، مقاومين، متيقظين، موحدين، نواجه التحديات يدًا واحدةً، في السرّاء والضرّاء.
هذه إرادة التاريخ، وهذه ضرورة الجغرافيا.
هذه وصيّة شهدائنا من عليائهم. فإلى أرواحهم الطاهرة ألف تحيّةٍ وسلام.
على الوفاء لشهدائنا في هذا المشرق باقون، ولإحقاق الحقّ والعدالة مناضلون، وللاعتراف بالحقيقة مطالبون.
عاش شهداؤنا الأبرار، عاش اللبنانيون الأرمن، عاشت القوات اللبنانية، يحيا لبنان.
____________________
* http://www.lebanese-forces.com/2015/04/22/samir-geagea-centennial-anniversary-of-the-armenian-genocide