1- طرد المرسَلين الفرنسيين
أطلقَت الحرب الدائرة بين فرنسا وتركيا رصاصة الرحمة على الإرساليّات الكبّوشيّة في أرمينيا، وبلاد ما بين النهرين، وقيليقية، حيث تصرّف الأتراك فيها بشكل بربري. سنروي انعكاس الحرب على المرسَلين الفرنسيين أولاً، ثمّ ننتقل للكلام عن مصير المرسَلين من أهل البلاد.
اضطرّ المرسَلون الفرنسيّون الشباب الالتحاق بالخدمة العسكريّة الإجباريّة. طُردوا من مراكزهم، وتمّ تجميعهم وترحيلهم نحو حلب، كمرحلة أولى، مع الراهبات. يروي الأب آتال دوسانتيتيان مراحل تلك الرحلة، ويقول:
… ساد الهدوء في تلك الأيّام الطويلة من الصيف الحارّ [ديار بكر، آب 1914]، قطعه زيارة نادرة لأجانب، أحدثت ضجّة كبيرة في المدينة، حين وصل إليها اثنين من الضباط الفرنسيين، يعملان على تدريب الدرك العثماني، وهما: القومندان بيليتييه الذي بقي في ديار بكر، والقومندان تانتوريه الذي توجّه إلى بدليس.
في ديار بكر، كان يوجد مركز رئيسي للتلغراف، لذلك، كانت الأخبار ترد إلينا بسرعة. علمنا بالاعتداء الذي حصل في سراييفو [اغتيال أرشيدوق النمسا، فرانز فردينان، في 28 حزيران 1914]، من وكالة الأنباء التركيّة أولاً، ومن الصحف الفرنسيّة لاحقًا، لكنّنا لم نُعر له اهتمام يُذكر، كما فعلنا سابقًا مع زيارة بوانكاريه [ريمون بوانكاريه، رئيس مجلس النواب الفرنسي] إلى روسيا. لكنّ المناخ السياسي ما لبث أن ألقى بظلاله على الأجواء العامّة. ومع أنّنا لم نرد التفكير بإمكانيّة قيام حرب مقبلة، لكنّ الظروف داهمتنا، وفي 2 آب، بعد الانتهاء من يوم كامل كُرّس للصلاة، استدعانا ترجمان القنصليّة الفرنسيّة، وأبلغنا بإعلان التعبئة العامّة في فرنسا. فاضطرّ الأب المتواجد في الدير إلى المغادرة برفقة القومندان بيليتييه، وبقيتُ وحدي في مواجهة مواقف غير متوقعة.
دير الآباء الكبّوشيين في ديار بكر
(Les Missions Catholiques, No. 1749, 12 décembre 1902, p. 594)
وكانت السفارة الفرنسيّة في القسطنطينيّة تبرق إلى القنصليّة يوميًّا محتوى بلاغات الحرب الصادرة في فرنسا، وفّرت لنا رأيًا معاكسًا للأنباء الكاذبة التي كانت تبثّها وكالة وولف الألمانيّة، وتنشرها الوكالة التركيّة. وكنّا نُقيم يوميًّا في كنيستنا، بعد القدّاس، صلاة خاصّة لسيّدة لورد والقدّيس ميخائيل، رئيس الملائكة.
في المدينة، شعرنا أنّ الأتراك يستعدّون للحرب، وكذلك الألمان الذين يتواجدون بأعداد وفيرة في الجيش العثماني، يعملون بصفة ضباط مدرّبين، ويضغطون كي ينضمّ الجيش إلى صفوفهم، ولم نكن نعرف نتيجة الأمر.
دير الآباء الكبّوشيين في خربوط
(Les Missions Catholiques, No. 1750, 19 décembre 1902, p. 609)
وفي صباح أحد الأيّام، قبل الفجر، استيقظتُ على ضجيج أحدثته أصوات مختلفة، وصراخ آتي من بعيد. نهضتُ وتطلعتُ إلى الأفق، وإذ بي أرى وهجًا أحمرًا كبيرًا في وسط المدينة: ألسنة لهب ودخان يتصاعد بشكل لولبي، إنّه الحريق. اندفعتُ محاولاً الاستفسار عن سبب الحريق، وتقديم يد العون، والمساعدة الروحيّة إلى الذين هم في خطر، إذا لزم الأمر. ما أن وصلتُ إلى المصرف الواقع على مقربة من مكان الكارثة حتّى قيل لي بأنّ السوق بأكمله تعرّض للحريق، فصعدتُ إلى سطوح الأبنية المجاورة وتيقنتُ من الأمر. وقيل لي أيضًا بأنّه يوجد مضخّات للمياه لكنّها لا تعمل.
نشبت النيران بالمدينة، واستمرّت بالانتشار، وانتقلت ألسنة اللهيب من الدكاكين إلى المنازل المجاورة مهدّدة حيًّا بكامله، هو الحيّ الأرمني بالتحديد. تصدّى الشباب الأرمن بحزم لهذا الخطر المحدق، واضطرّوا للتضحيّة بسلسلة من المنازل، وهدموا سطوح بعضها، وحصروا الكارثة بواسطة حاجز من التراب منع النار من التقدّم. إلاّ أن الرياح كانت قويّة وعرقلت حركتهم وأبطأتها، فكان لا بدّ من إرجاع خط الدفاع إلى الوراء، لإحكام السيطرة.
دير الآباء الكبّوشيين في ملاطية
(أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة في المطيلب – لبنان)
ساد شعور بالقلق والخوف سكّان المدينة، بخاصّة المسيحيين منهم، طوال فترة النهار. لم نتمكن من معرفة سبب هذه الكارثة، وتساءلنا إذا كانت بداية أعمال القتل والنهب. خيّم علينا الظلام مع توقف ألسنة النيران، ولم يتبقى من البازار المشهور سوى أطلال رماد. وبلغ مقدار الأضرار حوالي مليوني ليرة ذهب. وسرعان ما عرفنا سبب الحريق هذا، وتبيّن لنا بأنّه يعود إلى غيرة سياسيّة دنيئة: بما أنّ حزب الائتلاف لم ينل مقعدًا له في المجلس البلدي، أراد الانتقام من حزب الاتّحاد الرابح، وتصويره أمام الرأي العامّ بأنّه غير قادر على ضبط الأمور. خمد الحريق لكنّ الخشية في النفوس استمرّت. لذلك، قام الشباب الذين عملوا على حصر الحريق باستحداث فرقة من الأمن الذاتي لحراسة الأماكن الهامّة الواقعة في الأحياء المسيحيّة، طوال الليل ولأيّام متواصلة.
وغداة هذا اليوم الأليم، وكنّا لم نزل تحت تأثير تلك الصدمة، وبحلول الساعة الثالثة عصرًا، قمنا بمعاينة كسوفًا كاملاً للشمس، وانتشر اللون الرمادي في الأرجاء، وتلحفت الأرض بالظلام. وفي تلك الأثناء، وصلنا خبر وفاة البابا القدّيس، بيّوس العاشر. لم نستوعب هذا الأمر الذي اختلط مع الأمور المأساويّة الأخرى، لكن سرعان ما تأكّد لنا الخبر. وأمر السفير بتنكيس الأعلام في جميع المراكز التابعة للإرساليّات الفرنسيّة، مشاركة بالحداد، لمدّة ثمانية وأربعين ساعة، كما هو الحال في القنصلية.
وبعد مرور ثلاثة أيّام، مرّ بنا أحد الآباء الدومينيكان آتيًا من سْعرت ومتوجهًا إلى فرنسا، فسنحت لنا الفرصة، بحضوره ومشاركته، إقامة مراسم جنازة احتفاليّة للبابا حضرتها جميع السلطات. جلس في الصفّ الأوّل من الحضور: الأمين العام للولاية ممثلاً الوالي، وفي الجهة المقابلة، ترجمان القنصليّة الفرنسيّة الذي يقوم بعمل القنصل بالإنابة، وقنصل بريطانية، وشخصيات أخرى بارزة في الحكومة، وفي القطاع المصرفي والتجارة. جاء الأحبار اليعاقبة والغريغوريين من تلقاء أنفسهم، وقام المطران تشيليبيان، رئيس أساقفة الأرمن الكاثوليك في المدينة، بخطبة التأبين، باللغة التركيّة، متطرّقًا إلى الأوضاع السياسيّة الراهنة.
وفي منتصف أيلول، عاد إلى ديار بكر أحد الآباء الذين ذهبوا لفترة قصيرة إلى لبنان [هو الأب توما]. وبعد أن أمضينا بضعة أيّام معًا، طُلب منّي الالتحاق بمركز معمورة العزيز، للحلول مكان المرسلين الذين ذهبوا للحرب، والقيام بواجبات المعهد، قدر المستطاع. وعند وصولي إلى هناك، دُهشتُ من مظاهر الهدوء السائدة في المركز وبين السكان، وكانت الحالة نفسها في مركز خربوط. ولم يكن هناك أيّ أمر غير اعتيادي، سوى أخبار الحرب الصادرة عن الوكالة التركيّة والسفارة الفرنسيّة. وأمام غد غير مؤكّدة ملامحه، كان كلّ واحد منّا يقوم بواجبه، كلّ يوم بيومه.
عادت الحياة إلى المعهد في منتصف شهر تشرين الأوّل، ودخل الطلاب إلى الصفوف، المسيحيين والمسلمين، على كثرتهم كما كانوا في السابق، وبدأت الدروس، وسط أنباء الحرب التي كانت تولّد القلق بين التلاميذ والأساتذة، وتخفّف نشاطهم. وبعد وقت قصير، بدأت علامات التحضير للحرب تظهر بين الأتراك، ما أثار القلق في نفوس السكان.
ومع نهاية شهر تشرين الأوّل أُعلنت الحرب الروسيّة التركيةّ، ورغم ذلكن استمرّت الدروس كما هي، ومع حلول اليوم التاسع من تشرين الثاني، صدر أمر يُلزمنا بإيقاف الدروس، فاحتلّت القوّات المعهد على الفور. تأثّر الطلاب بهذا الوداع المخزي، وبكى من بكى منهم أسفًا على ما وصلنا إليه، أكثر من خوفهم مما هو آت.
وفي خربوط، جرى الاحتلال العسكري بطريقة أكثر وحشيّة. فغداة يوم إغلاق المعهد، انطلقتُ إلى خربوط، ممتطيًا جوادي، للاطمئنان عن آبائنا هناك، وإخبارهم بما حصل لنا. وكم كانت دهشتي كبيرة قبل الوصول إلى المركز، عند رؤيتي جماعات المسلمين، حاملين الرايات، وتساءلتُ: من أين أتوا يا تُرى؟ ساورني الشكّ بأنّهم آتون من مركزنا، ولكنّني لم أحسم الأمر. ويا للأسف! تخطّى الواقع الشكّ، إذ ما أن وصلتُ إلى مدخل الدير حتّى رأيتُ الناس في كلّ مكان، والشرطة تفتّش في كلّ زاوية، والرعاع يكسرون وينهبون الأواني والأثاث. على سطح المركز، جلس وفد رسميّ مؤلّف من قائد عسكري وقاض وكتّاب يتمتعون بمشهد التخريب الواقع أمام أعينهم، من دون أن تبت لهم شفاه. فأسرعتُ أُنذر الآباء والقنصل الأميركي الذي أتى شخصيًّا إلى المكان، إلاّ أنّه لم يتمكن القيام بأيّ شيء، سوى ملاحظة ما جرى من تخريب. أمّا المرسَلين الإثنين اللذين كانا في خربوط، فقد لجأوا إلى معهد معمورة العزيز، بعد أن تمّ تجريدهم من كلّ شيء.
بدأ الاحتلال العسكري في المعهد يصبح أكثر صرامة، ولم يتبقى لنا سوى جزءٌ صغير من السكن لنقيم فيه كالسجناء، بين عدد كبير من العسكر يحرسون المخارج متهيبين، واضعين حرابهم في بنادقهم.
تلقينا أمر الترحيل دون سابقة إنذار. وعلى الفور، تمّ تدوين بيان الموجودات من قبل مدير التعليم العامّ. وكان علينا أن نغادر في الحال، ولكن بفضل تدخل القنصل الأميركي، سُمح لنا البقاء بانتظار الآباء القادمين من ملاطية. حال وصولهم توجهنا نحو ديار بكر تحت الحراسة. بقي اثنين من الآباء وأخ واحد، ليسوا فرنسيين، غير واثقين من مصيرهم، ومتكلين على العناية الإلهيّة.
كانت الرحلة صعبة، كما هو متوقّع، لأنّ الحرب مشتعلة وكنّا نُعامل كأسرى حرب، طوال الطريق. وصلنا إلى ديار بكر، ووُضعنا في خانٍ ذو رائحة كريهة، كان قنصل وان وقنصل بدليس الروسيين احتُجزوا فيه سابقًا.
وصلنا مع حلول الليل، ومع بزوغ الفجر، فيما كان البوليس ما زال نائمًا، تمكنتُ خلسة من الوصول إلى الإرساليّة، وهناك حمدتُ الرب لوجود أحد آبائنا هناك، وهو من أهل البلاد، ومعه قنصل فرنسا في وان، السيّد سانفور، احتُجز هنا كأسير حرب. بفضل تدخل الأب، استطعنا الانتقال إلى الدير للراحة قليلاً قبل استئناف الطريق.
في أورفا، سمح لنا الدرك بالتوقّف والذهاب إلى الإرسالية، حيث كان أحد الآباء، من أهل البلاد، ما زال فيها، وكان ذلك عشيّة عيد الحُبل بها بلا دنس، فاحتفلنا به في جوٍّ عائلي. أيّتها العذراء الطاهرة، يا أمّنا، ها إنّ الرعاة يُضربون، والقطيع يتشتت؟ ماذا سيكون مصير الإيمان الكاثوليكي في مراكز الإرساليّة الواقعة في ملاطية وخربوط ومعمورة العزيز وديار بكر وماردين وأورفا؟ ما زال فيهم بعض المرسلين من أهل البلاد، وبعض الكهنة الشرقيين. أوليسوا في فم الذئب؟ يا والدة الراعي الصالح، يا شفيعة الإرساليّة، إليك وإلى حمايتك نوكل الرعاة والرعايا.
وبعد يومين، ركبنا القطار من عرب بينار [عين العرب - كوباني] متجهين إلى حلب. كنّا على وشك استعادة حريّتنا، هكذا خُيّل إلينا، وكنّا نعلم أنّ الأب رئيس الإرساليّة، وأب آخر من أورفا، تمّ ترحيلهما، وهما بانتظارنا في حلب، مع الراهبات الفرنسيّات اللواتي كنّ في ماردين وديار بكر وأورفا. سُمح للراهبات من أهل البلاد فقط بالبقاء. سنغادر قريبًا إلى فرنسا، مع بعضنا البعض… 1
إذًا، ركب المرحَّلون الفرنسيّون القطار إلى حلب حيث تمّ زجّهم في السجن، ثمّ أُخرجوا وسيقوا من مكان إلى آخر حتّى وصلوا إلى بيروت، ومنها ركبوا السفينة إلى فرنسا، مع زملائهم الموجودين أصلاً في المدينة، وكان ذلك في الأيّام الأولى من العام 1915.
2- طرد مماثل في قيليقية
يروي الأب برنابيه من نوهانان [مدينة في وسط فرنسا] كيف تمّ طرده من طرسوس، الواقعة في مقاطعة مارسين، حيث كان الأب بولس كنج البعبداتي، ويقول:
أنا هنا في روما منذ خمسة أيّام بعد أن طردتني الحكومة التركيّة من طرسوس بطريقة لا تخلو من الوحشيّة. لقد حلّ الخراب في إرساليّتنا العزيزة، وتمّت مصادرة الكنيسة والمركزَين خاصّتنا اللذَين صارا مدرستين تركيَّتين، ولم نتمكّن من إنقاذ أي شيء.
ما إنّ تمّ إبلاغنا بالطرد حتّى كانت الشرطة واقفة عند الباب ترصد تحرّكاتنا، وتمنعنا من إخراج أيّ شيء، بما فيه الأواني المقدّسة. وهكذا تمّ الاستيلاء على كلّ شيء، وبالكاد استطعنا تخليص بعض البياضات. حصل الأمر المؤسف نفسه في مرسين حيث لم يبق لنا سوى الكنيسة، والله أعلم إذا صارت فريسة للأتراك.
نُهب بيت الراهبات، وصارت المدرسة بين أيدي الأتراك. لم أتمكّن من مقابلة الأب جيروم لأنّ النزول إلى بيروت أمر مستحيل. طوبى للذين غادروا، لأنّ الذين بقوا صاروا سجناء حرب. 2
3- تقرير رئيس الإرساليّة
ما أن وصل الأب آنج دوكلاميسي ورهبانه إلى فرنسا حتّى أعدّ تقريرًا إلى الأب العامّ في روما جاء فيه:
حضرة الأب العامّ الجزيل الاحترام
بعد طردنا من تركيا، ووصولي إلى مرسيليا، في 15 كانون الثاني، كتبتُ إلى الأب المحترم أمين سرّ الإرساليّات لإعلام أبوّتكم الموقّرة عن الوضع الذي كان قائمًا في إرساليّة بلاد ما بين النهرين حين مغادرتنا إيّاها. أبلغني الأب أمين السرّ عن عدم استلامه الرسالة، لذلك ها إنّي أوجز لكم محتواها من الأحداث الأليمة التي عشناها.
في 22 تشرين الثاني أبلغَت الحكومة التركيّة جميع مراكزنا، بواسطة الإدارة المحليّة، ما يلي:
- إغلاق مدارس الصبيان والبنات خاصّتنا.
- مصادرة مدارسنا ومراكزنا الاجتماعيّة، بما فيه مراكز إقامتنا، ووضع جردة وجيزة فيها.
- طرد المرسَلين والراهبات من الجنسيّة الفرنسيّة عن جميع الأراضي التركيّة.
قامت الشرطة التركيّة بتنفيذ الأمر، واتخذت تدابير فاقت جميع التوقعات:
أ- تمّ إغلاق المدارس بطريقة وحشيّة في بعض المراكز التي داهمتها الشرطة، وأجبرت التلاميذ على الخروج من قاعات الدرس، ودفعتهم بعنف إلى الشارع من دون أن تترك لهم فرصة لأخذ كتبهم. تشتّت التلاميذ البالغ عددهم 2200 في العام 1914 وتوزّعوا على مدارس أخرى، ليست كلّها مدارس كاثوليكيّة. وصار معهد معمورة العزيز معهدًا عاليًا تابعًا للسلطات التركيّة، وذلك فور إغلاقه، وانتقلت مدارس خربوط إلى أيدي الطلاب الدارسين في الجوامع، وتحوّلت مدارس ديار بكر إلى مستشفى تركي ومركز للشرطة، ولاقت جميع مراكزنا الأخرى المصير نفسه.
ب- نُهبت المدارس والمراكز قبل مصادرتها، ولم يبق فيها شيء من الأثاث والبياضات والمؤونة. وفي خربوط، بيع كلّ شيء في المزاد العلني. ولم نتمكّن من إخراج أيّ شيء من بيوتنا، ولا حتّى الملابس الداخليّة للرهبان المغادرين، ما عدا في أورفا.
خُتمت بالشمع الأحمر أبواب كنائسنا في معمورة العزيز وخربوط وبِسميشان، وفي هذه الأخيرة لم يُسمح لنا بإخراج القربان المقدّس. وفي كنيسة الراهبات في ماردين، سُمح لأحد الآباء [الأب ليونار] بإخراج القرابين المكرّسة التي لفّها بالصمدة [قطعة النسيج المربعة المبسوطة على المذبح لوضع الكأس والصينيّة عليها]، لكنّه اضطرّ إلى ترك كأس المناولة، والجوهرة [الدائرة الزجاجيّة التي يُعرض فيها القربان المصمود في الشعاع]، في بيت القربان الذي كان رئيس الجامع قد فتحه. وبسبب تفسيرات مختلفة للأوامر الصادرة من القسطنطينيّة، لم تُغلق أبواب كنائسنا في أورفا وديار بكر وماردين كما حصل في المراكز الأخرى، وسُمح للآباء من أبناء البلاد الذين يخدمون تلك الكنائس ملازمة ديرهم، أقلّه لحين مغادرتي الإرساليّة.
أبلغتني السلطات المحليّة بأنّ سبب المصادرة أو الاستيلاء على مدارسنا ومراكزنا الاجتماعيّة وبيوت إقامة المرسَلين والراهبات، هو لأنّها اعتُبرت أملاكًا فرنسيّة، وبالتالي، تقع حكمًا ضمن التدابير العسكريّة التي يتّخذها المتحاربون.
اعترضتُ شفهيًّا وكتابة، وقلتُ لهم إنّ المرسَلين الفرنسيين، كما المرسلين من جنسيّات أخرى، لا يملكون أيّ شيء، لأنّ مالك الأبنية الفعلي هو مجمع نشر الإيمان المقدّس، أي الكرسي الرسولي، ونحن مُرسَلون من قِبَل الحبر الأعظم، وليس من قِبَل الحكومة الفرنسيّة، وبالتالي، لا حقوق ملكيّة لفرنسا على مراكزنا، ولو كان لها حقّ الوصاية عليها.
وقلتُ للسلطات المحليّة، أيضًا، بأنّ إرساليّة بلاد ما بين النهرين، بقدر أقلّ من الإرساليّات الأخرى، لا يمكن اعتبارها مؤسّسة فرنسيّة في تركيا، لأنّ أكثر من ثلث المرسَلين هم رعايا عثمانيين ورؤساء مراكز فيها، وإنّه تمّ تأسيسها على يد المرسلين الإسبان، وقام الآباء الإيطاليّون بإدارتها عدّة سنوات، ولم يستلمها رئيس فرنسيّ إلاّ منذ خمسة سنوات.
لاقت تلك الحجج بعض التفهّم عند المسؤولين في أورفا وديار بكر بسبب العلاقة الحسنة مع ولاة تلك البلاد، ووعدوني بالسماح للآباء من أهل البلد البقاء في الدير والكنيسة. أمّا في المراكز الأخرى، فقد طُرد المرسَلون والراهبات من أهل البلد حتّى من أماكن إقامتهم، واضطرّوا إلى الإقامة خارج مباني الإرساليّة التي صادرتها الحكومة التركيّة.
اتُّخذ إجراء الإبعاد بحقّ المرسَلين والراهبات من الجنسيّة الفرنسيّة، وبُلّغنا به في 22 كانون الأوّل [22 تشرين الثاني كما جاء في بداية التقرير ؟] في الوقت عينه الذي كانت فيه الشرطة تُصادر أملاكنا، وأُعطينا مهلة 24 ساعة للمغادرة، بالكاد تكفينا لتدبير وسائل نقل تقلّنا لعدّة أيّام في فصل سيّء، وعلى نفقتنا الخاصّة.
غادرَت قافلة المبعدين الأولى ديار بكر في 24 تشرين الثاني، وكنتُ أنا في هذه القافلة، ووصلنا إلى بيروت في 31 كانون الأوّل، بعد رحلة طويلة وصعبة لأنّنا كنّا بين أيدي الشرطة التي كانت تسوقنا من محطّة إلى أخرى، وتعاملنا معاملة الرهائن. وفي حلب، بقينا أسبوعين تحت حراسة الشرطة، لأنّ الأمر الصادر عن القسطنطينيّة كان يقضي باعتبارنا أسرى حرب. وبعد بضعة أيّام، وصل آباؤنا الآتين من مراكز أرمينيا. غادرنا حلب إلى حماه حيث تمّ احتجازنا لمدّة أسبوع، ولم نصل إلى بيروت والإبحار منها سوى في الأوّل من كانون الثاني، بعد أن قاسينا المضايقات والمعاملة السيئة التي استمرّت حتّى الساعات الأخيرة.
اضطرّ جميع المرسلين الفرنسيين وراهبات لونس لوسونييه الفرنسيسكانيّات مغادرة إرساليّتنا العزيزة في بلاد ما بين النهرين، بالقوّة ورغمًا عنهم، بعد أن شاهدوا عمل أيديهم الذي قاموا به ببركة إلهيّة واضحة يذهب خرابًا. فلتكن مشيئته المقدّسة.
بقي في الإرساليّة، بمثابة أمل للمستقبل، المرسَلون العثمانيّون، وعددهم تسعة، معظمهم من المعهد الشرقي؛ والأب دانيال الإيطالي الذي صار رئيسًا، لأنّه كان مستشارًا في مجلس الإرساليّة معيَّنًا من الأب العامّ؛ واثني عشر راهبة فرنسيسكانيّة من الجنسيّة العثمانيّة، يُقمن في بيوت استأجرنها في أورفا وديار بكر.
إنّ وضع إرساليّة بلاد ما بين النهرين في الوقت الحاضر هي كما يلي: طُرد اثنان من المرسَلين الفرنسيين، وخمسة عشر راهبة من راهبات لونس لوسونييه الفرنسيسكانيّات، وكان ثلاثة آباء فرنسيين التحقوا سابقًا بالخدمة العسكريّة الإجباريّة.
إنّ المرسَلين الذين وصلوا إلى فرنسا وضعوا أنفسهم بتصرّف الرئيس الإقليمي، ويقومون بالخدمة التي حدّدها لهم. وبموافقته، التحقتُ بإحدى الوحدات الطبيّة بصفة مرشد عسكري، وأشكر الربّ على هذه الخدمة المعزّية. وبقي في الإرساليّة مرسلَين اثنين غير فرنسيين، واثني عشر راهبة فرنسيسكانيّة من أهل البلد، توزَّعوا على مراكزنا، باستثناء مركز ملاطية، لتأمين الخدمات الرعويّة حتّى في الأماكن التي فيها كنائسنا مقفلة. ليس بإمكاني الاتصال بهم، حتّى بواسطة الرسائل، ولأنّ أيّ اتصال من قبلي ربّما يعرّضهم للخطر. لا بدّ أنّهم يتألّمون كثيرًا من جرّاء هذه العزلة، لكنّني أعرف شجاعتهم، وأعرف أنّهم يتَّكلون على العناية الإلهيّة التي لن تتخلّى عنهم في تلبية طلباتهم.
لا ديون على الإرساليّة، لكنّها تحتاج إلى الموارد لتلبية حاجات المرسَلين والراهبات الباقي. على منظمات العمل الكاثوليكيّة في فرنسا، وفي الوقت الحاضر، تخفيض المساعدات المقدّمة إلى الإرساليّات [الأخرى]، ولهذا السبب قمتُ بمراسلة أمين سرّ الرسالات لتخفيض العبء المالي الواقع على عاتق إرساليتنا بواسطة تسديد بدل القداديس الباقية، ولإبلاغكم بالأمر لتفعلوا ما ترونه مناسبًا.
لا أدري إذا كانت رسالتي إلى نيافة الكردينال فريديل من البروباغندا [مجمع نشر الإيمان المقدّس] والتي أرسلتها من مرسيليا أيضًا، قد لاقت مصيرًا أفضل من تلك التي بعثتُ بها، في الوقت نفسه، إلى الأب كليمان الجليل، بغياب أبوّتكم الموقّرة.
وفي كلّ الأحوال، ليتفضّل الأب الجليل أمين سرّ الرسالات بالتعويض عن الضياع المحتمل لتلك الرسالة، وإخبار نيافته أقلّه بالوضع الحاضر للإرساليّة، فالأحداث الماضية لم يعد لها قيمة.
بما أنّ الرسائل الآتية من الخارج لا تصل مباشرة إلى المناطق التي يتواجد فيها العسكر، أرجو الأب أمين السرّ الجليل مراسلتي على عنواني الأوّل في ليون، شارع توريل، رقم 14.
وفي الختام، أطلب منكم حضرة الأب الجزيل الاحترام بركة خاصّة للمرسَلين الذين طُردوا، وبخاصّة الذين بقوا في مراكزهم والذين لم يصلني عنهم أيّ خبر بعد، والأحداث الجارية في الشرق تثير فينا المخاوف بشأن المرسَلين والمسيحيين. 3
4- المرسَلون الباقون الصامدون
بعد دخول فرنسا الحرب ضدّ تركيا استلمت السفارة الأمريكيّة في القسطنطينيّة مصالح فرنسا. وبناءً على طلب ملحّ من الأب العامّ إليها، بالإضافة إلى ما وصله من القاصد الرسولي في القسطنطينيّة، المطران دولتشي، ننقل ههنا ثلاث برقيّات واردة إلى الأب العامّ في روما:
البرقيّة الأولى: هناك كاهنان كبّوشيّان تابعان لكنيسة أورفا. في حال كانوا في الخدمة أرسلوا لنا أسماءهم. 4
البرقيّة الثانية: لا يوجد آباء كبّوشيين في ملاطية. إنّ الأب بازيل، المواطن العثماني، الذي كان هنا سابقًا، انتقل إلى معمورة العزيز. هناك الآن كهنة أرمن كاثوليك يخدمون هناك. يوجد ثلاثة كهنة كبّوشيين في معمورة العزيز، وهم: الأب بازيل [تشيليبيان، من ديار بكر] الذي كان سابقًا في ملاطية؛ الأب لويس [ ميناسيان ، من خربوط] الذي كان سابقًا في خربوط، مواطن عثماني؛ الأب بنوا [دوميدباخ]، ألماني الجنسيّة. إنّ كنيسة معمورة العزيز مقفلة، وأودعت بعض الأشياء أمانة في كنيسة الأرمن الكاثوليك. لا كهنة كبّوشيّون في خربوط. الكنيسة مقفلة، وأودعت بعض الأشياء في كنيسة الأرمن الكاثوليك في معمورة العزيز. لا كهنة كبّوشيّون في ديار بكر. كاهنان عثمانيّان كانا سابقًا وتركا مع الباقين. الكنيسة مقفلة، وأودعت بعض الأشياء أمانة في كنيسة الأرمن الكاثوليك. في ماردين كاهنان كبّوشيّان: الأب دانيال، إيطالي الجنسيّة، والأب ليونار، عثماني الجنسيّة. 5
الأب روفائيل سمحيري الكبّوشي
(المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسِيَر، كهنة السريان الكاثوليك من 1750 – 1985، بيروت، 1986، ص. 198)
البرقية الثالثة: إنّ الكهنة الكبّوشيين بونافنتورا [فاضل، من بعبدات] وبنوا [نجاريان، من خربوط] وتوما [صالح، من بعبدات] ورافائيل [سمحيري، من الموصل] يقومون بواجباتهم في كنيسة أورفا، وأربعتهم من الرعايا العثمانيين. 6
أمّا الأب بنوا نجاريان فيقول:
إنّ المرسَلين والراهبات الذين بقوا تَوزَّعوا على مراكز ثلاثة وهي: مركز أورفا حيث يوجد 4 مرسَلين و10 راهبات، مركز ماردين حيث يوجد مرسلَين و3 راهبات، مركز معمورة العزيز حيث يوجد 3 مرسَلين. لا وجود للمرسَلين في المراكز الثلاثة الأخرى، في ديار بكر وخربوط وملاطية. تُقيم الراهبات والمرسَلين في معمورة العزيز في بيوت تعود إلى خاصّة الناس. أمّا نحن [في أورفا] وآباء ماردين فما زلنا في أديرتنا. 7
5- رواية الأب بونافنتورا فاضل البعبداتي
بين أيدينا وثيقة هامّة وطويلة كتبها الأب بونافنتورا فاضل البعبداتي الكبّوشي، وتحتوي على تفاصيل دقيقة عن الأحداث، كونه كان شاهد عيان فيها، وهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بين الرهبان البعبداتيين الكبّوشيين الثلاثة في إرساليّة أرمينيا وبلاد ما بين النهرين. يروي الأحداث التي جرت في الإرساليّة منذ شهر آب العام 1914 حتّى 10 تشرين الثاني العام 1918، ويقول بأنّه ٱكتفى بوصف ما شاهد، وروى الحوادث التي عاشها، في ديار بكر، أوّلاً، ثمّ في أورفا. يبدأ روايته كما يلي:
عشيّة الحرب الكبرى، كانت إرساليّة الآباء الكبّوشيّين من إقليم ليون [فرنسا] في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا تشمل ستّة مراكز: أورفا، ديار بكر، ماردين، معمورة العزيز، خَرْبوط وملاتيا. وكانت تضمّ حوالي عشرين راهبًا، فرنسيّين ومن أهل البلاد.
وكان من الضروريّ، منذ أوائل آب ١٩١٤، الاهتمام بتنظيم جديد يقضي بتوزيع مهامّ الإرساليّة ومسؤوليّاتها على الرهبان من أهل البلاد، فقط، لأنّ الآخرين كانوا قد ٱستُدعوا للاحتياط. فتمّ إغلاق مركزين هما: خَرْبوط وملاتيا اللذين نهبهما الأتراك، خلال الحرب، وباعوا محتوياتهما بالمزاد العلنيّ، في الأسواق الشعبيّة. أمّا المراكز الأربعة الأخرى فقد شغلها الرهبان التسعة الباقون:
- في أورفا: الأب بنوا والأخ روفائيل (أرمنيّان)
– في ديار بكر: الأبوان توما وبونافنتورا (سوريّان)
– في ماردين: الأب دانيال الإيطاليّ (٨٠ سنة) والأب ليونار (سوريّ).
– في معمورة العزيز: الأبوان بازيل ولويس، والأخ بنوا (أرمن). 8
وكانت، أيضًا، في مختلف هذه المراكز، راهباتٌ فرنسيسكانيّات من لونس لوسونييه، وهنّ: الأخوات فيبروني، جان انطوان، إفرام (أرمنيّات)؛ الأخت آنا (سويسريّة)؛ الأخت كاترين (فرنسيّة مُسنّة)؛ الأخت أنياس (فرنسيّة مريضة جدًّا). هؤلاء تَجمَّعن، أوَّلاً، في ديار بكر، ثمّ أَتَين إلى أورفا، حين طُرد الرهبان الأوروبيّون من الإمبراطورية العثمانيّة.
…وفَور دخول تركيّا الحرب، في تشرين الأوّل ١٩١٤، تَعرَّض مركزُنا في ديار بكر لسلسلةٍ من المضايقات، من قِبَل الحكومة العثمانيّة. فهذه، أقامت مركزًا للشرطة في مدرسة الصبيان. وكان علينا الخضوع للاستجواب، في كلّ حين. ثمّ أُمرنا بإخلاء مدرسة البنات. وأخيرًا، طُردنا من ديرنا، وقد تُركت لنا حريّة البحث عن مأوى آخر، نلجأ إليه، في المدينة. لم يشأ الوالي الإصغاء إلى احتجاجاتنا، ومُنعنا من حَمل أيّ شيءٍ إلى خارج الدير. ثمّ عَلِمنا بأمر طردنا من الإمبراطورية، وأضحى كلّ أثاثنا ملكًا لهؤلاء اللصوص الذين باعوه بالمزاد العلنيّ.
الأب دانيال دومانوبيللو الكبّوشي
ومن اللافت أنّ العناية الإلهيّة كانت قد حفظت لنا مركز ديار بكر، إلى ذلك اليوم، لكي يلجأ إليه كلُّ المهجَّرين. فقد أَنزَلْنا فيه الآباء الكبّوشيّين من معمورة العزيز، والآباء الدومنيكان من ڤان وسْعِرت مع راهباتهم، وأخواتنا الراهبات من ماردين، وقنصل فرنسا في ڤان السيّد دو سانفور. وبعد أن تَمَّ إنقاذ جميع هؤلاء، وعندما لم يعد هناك مَن يلجأ إلى مركزنا في ديار بكر، غاب هذا المركز في العاصفة كما تغرق السفينة بعد إنقاذ آخر غريق.
غير أنّ الأماكن المهجورة لم تَفرَغ، إذ بقي فيها أحدهم وهو حبيبنا الأب ليونار. كان لا يزال في ماردين، مع أنّنا دعوناه للمجيء إلينا. كتب لنا قائلاً بأنّه يرغب في الخروج من بين هؤلاء المتوحشين، وبأنّه لا يريد أن يموت قتلاً. وكان قد عمل على ترحيل الراهبات، لكنّه بقي هناك، لأنّه، في اللحظة الأخيرة، قال له الأب دانيال، باكتئاب، وهو ٱبن الثمانين سنة الذي لم يُطق فكرة الرحيل: «حسنًا، أتريدون أن تتركوني لوحدي؟» ولساعته، قرّر الأب ليونار البقاء، بدافعٍ من المحبّة لهذا الراهب الجليل، ليس إلاّ. 9
6- مصير مركز الإرساليّة في ماردين
كان الأب ليونار يحتفظ بدفتر خاصّ يدوّن فيه جميع الأحداث التي تجري في الدير وحوله، كلّ يوم بيومه. وما أن شعر بالخطر الذي يهدّده، وإمكانيّة إلقاء القبض عليه، حتّى سارع إلى مطرانيّة السريان الكاثوليك يُسلّم الدفتر إلى الأب اسحق أرمله الذي ضمّه إلى جميع الوثائق والروايات الأخرى التي بين يديه. وما أن شعر هذا الأخير أيضًا بالخطر يقترب من المطرانيّة حتّى سارع إلى وضع كلّ وثائقه في صندوق من حديد دفنه في حديقة المطرانيّة. وبعد انتهاء الحرب، عاد ونبش هذا الكنز من المعلومات، ونشرها من بيروت في كتاب عنوانه “القصارى في نكبات النصارى” في العام 1919. ننقل عن الكتاب بعض المقاطع المتعلّقة بمصير الكبّوشيين في ماردين:
إنفجرت الدواهي على المسيحيين منذ خامس كانون الأوّل 1914، وتتابعت عليهم ضروب الأرزاء [المصائب] والنوائب. وإليك تفصيل ذلك نقلاً عن دفتر الأب ليونار النبيل.
صباح اليوم المرقوم، كبس كنيسة الكبّوشيين اثنا عشر جنديًّا، وجزموا بأن يطلعهم الأبوان عن اسميهما، وأسماء الراهبات معًا، ويفيداهم عن وطن كلّ منهم. فقيل لهم أنّ الأب دانيال الشيخ الوقور إيطالي النحلة، وأنّ الأب ليونار لبناني الأصل، ماروني المِحْتِدُ [الأصل]، وكليهما يمثّلان دولة فرنسا، ويخدمان ديرها، طبقًا لامتيازات الدول. وقالا لهم أنّ من الرواهب ثلاثًا هنّ عثمانيات، مولودات في ماردين، وهنّ باسيفيك وأسومبسيون وأغاتا، والبقية مولودات في فرنسا، لائذات بحماها، متفيئات بوريف ظلّها.
وعند ذاك ركب الجنود شيطان السخط والحرد، فنهضوا من فورهم، وفتشوا الغرف، وبحثوا عما فيها، ثمّ ختموها كلّها، وأخرجوا الراهبين، وأوصدوا الأبواب، وقصدوا توًّا دير الراهبات، وعلّقوا يعربدون عليهنّ، ويسمعونهنّ كلامًا جفيًّا غليظًا خدش أسماعهنّ الطاهرة.
وإنّا ليعرونا الحياء والخجل من إيراد ما قاله وافتعله أولئك الأجلاف في دير الرواهب الحواصن. فإنّهم، عدا ما أفحشوا في الكلام، تصرّفوا في الأمتعة كما طاب لأهوائهم، بل ضربوهنّ ودفعوهنّ إلى الأرض، وأمروهنّ أمرًا فصلاً بالتنحي عن غرفهنّ، والخروج من ديرهنّ. ثمّ أغلقوا الحُجَر [الغُرَف]، وختموا الأبواب، فتجمهر إذ ذاك الرعاع يتحيّنون الوقت المناسب ليفوزوا من دون تعب بالغنائم والمكاسب.
أمّا الأب ليونار، فلمّا رأى ما أجرى هؤلاء العتاة، انحدر من ساعته إلى الكنيسة، وفتح بيت القربان، وأخرج الكأس المقدّسة باحترام، ولفّها بمنديل نقي، وضمّها إلى صدره، وسار بها إلى دار الخواجا حنا مركيزي الأرمني، ورجع حالاً إلى الدير يريد البقاء فيه ليلته. فقال له أحد الجنود: “لا محيص لك من مغادرة الدير، وإلاّ فليس لك أن ترقد إلاّ في بيت المونة.”
وما مضى من الليل ثلثه، حتّى أقبل محمد كبوشو الخبيث، الذائع صيت فظاظته، الشائع خبر غلاظته، وجمع الفرش كلّها، وسار بها إلى دار الحكومة، وأخرج الأب ليونار خارجًا، فحار في أمره، وظلّ يرعى النجوم حتّى الفجر. وصباح الأحد سادس كانون الأوّل نقل كأس القربان إلى كنيسة السريان، وأقام فيها الذبيحة الإلهيّة.
وأقبل في ذلك اليوم جماعة من رجال الحكومة، فاستدعوا الأبوين، وأمروهما باستخراج ما في الدير من الأسلحة والمدافع مما لا أثر له. وكانت تلك دسيسة ومكيدة اختلقها عبد الرحمان القواس، صاحب الرحى، انتقامًا من الكبّوشيين. فجال الجنود في الدير متبخترين، وبحثوا عما زعموا مدققين، ولم يذروا موضعًا إلاّ دخلوه، ولا ثقبًا إلاّ وسّعوه، وأفضى بهم الأمر إلى إنزال أشخاص إلى البئر عساهم يجدون فيها أسلحة، فعادوا بالخيبوبة.
ورام الأب ليونار مساء ذلك اليوم أن يبيت ليلته في الدير فلم يأذن له الجنود، فقصد دار الخواجا حنا مركيزي ولزمها أربع ليال لا يخرج منها أبدًا. وظلّ الخصوم يفتشون وينقرون وينقبون، من سابع كانون الأوّل إلى العاشر منه، يفتحون الغرف، ويبعثرون الكتب والأوراق، ويعيثون في الأمتعة والأغراض، ويتجنثون [يأخذون ويخبأون] على ما طاب لهم دون معارض، لا يراقبون الله، ولا يستحون من عبد. ثمّ قصدوا دير الراهبات، وفتشوا الحُجَر أجمع، وفتحوا الصناديق، واستبحثوا عما فيها، وتلعّبوا بها، ثمّ كوّموها على بعضها، وأغلقوا الأبواب، وختموها، وحشروا الراهبات في غرفة واحدة، وانكفأوا إلى منازلهم يترقبون الفرصة للاستيلاء على المال والدار كليهما.
فضاق ذرع الأبوين، وعميت عليهما طرق التملّص، فكتبا إلى أديب، نائب المتصرّف، في أن يرخّص لهما أن يُعدّا الزاد للرواهب، ويَسعيا في أمر سفرهنّ، فأضرب عن الجواب، واتَّخذ الطلب لغوًا. فكتبا في ذلك الشأن إلى القوميسير أيضًا، فلم يجبهما. بل أضافوا إلى ذلك أنّهم أقاموا خَفَرة [جمع خفير أي حارس] على بابَي الديرَين لا يدعون كائنًا مَن كان أن يدخل أو يخرج، ووضعوا خفرًا أيضًا على بابَي دار الخواجا مركيزي.
وفي ثامن كانون الأوّل، أمر أديب الوكيل، ففتح الأبوان كنيستهما، وأقاما الفروض الدينيّة، وظلّ الجنود يوافون إلى الدير كلّ أُصبوحة وأمسية يأكلون ويشربون على كيس الرهبان. على أنّ الذين كانوا، فيما سلف، يودّون الرهبان ويجلّوهم، أخلقت خضراء مودتهم، فقلبوا لهم ظهر المِجَنّ، وتغيّروا عليهم، وعلّقوا يحفرون لهم الحفائر [جمع حفيرة أي القبر].
وعاشر كانون الأوّل استكرى الراهبات أربع عجلات بثمانين مجيديًا، وركبن إلى ديار بكر. وفي غيبوبتهنّ شخص القوميسير في جماعة من البوليس إلى الدير، وفتحوا الصناديق والخزانات والصرر والأسفاط [جمع سفط أي ما يُعبّأ فيه من أدوات النساء] واختلسوا ما طاب لهم. واجتمع وقتئذ لفيف من الرعاع على الأبواب ينادون ويقولون: الآن نحوّل الدير جامعًا، والمدرسة مكتبًا. بل أنّ امرأة مسلمة أقبلت حاملة مكنستها تقول: أين الجامع الجديد الذي ضبطناه من فرنسا، فقد نذرتُ أن أكنسه بيدي. فصاح بها فرج الله كسبو، معلّم المدرسة، وزبرها [نهَرَها] وقال: “اصمتي يا سفيهة، وارجعي إلى بيتك.”
وفي ذلك اليوم، مرَّ بتلك الجادة جرجس مطران السريان اليعاقبة، يصحبه الراهب يشوع، فبادر الأعلاج وخطفوا قبعتيهما، وألقوهما إلى الأرض، فزجرهم المطران وقال لهم: “أوظننتم أنّنا فرنساويون فعاملتمونا هذه المعاملة؟ كلاّ، بل إنّنا عثمانيّون، فعلامَ يا ترى تحتقرون مَن ينتمي إلى تركيا، ويتباهى بالدولة.” فسكت أولئك الصبيان، وردّوا لهما القبعتين.
أمّا الراهبات، فلمّا وصلن إلى ديار بكر، بلغن الوالي أنّ ثلاثًا منهنّ عثمانيات. فأصدر الأمر برجوعهنّ إلى ديرهنّ. فقفلن راجعات، ووصلن إلى ماردين في 24 كانون الأوّل، ليلة عيد الميلاد. وتبادر إلى الظنّ أنهنّ يستلمن الدير بما فيه. غير أنّه خاب الأمل، فلزمن دار الخواجا مركيزي أربعة أشهر.
وفي 7 كانون الثاني 1915، نادى المنادي في الشوارع أنّ أغراض الرواهب تُعرض غدًا للبيع، فمن شاء مشترى شيء فليحضر. فاحتشد في الغد رجال المسلمين ونساؤهم، وحضر معهم نفر من النصارى، ولا سيما اليعاقبة، وما دخلوا الدير حتّى بعثوا عجيجهم وضجيجهم، وطفقوا يزأطون ويهرجون، وفكّوا الختوم، وباعوا الأغراض كلّها بالمزاد، عدا الصور والتماثيل مما لا يفيدهم. ثمّ أخرجوا الحلل الكهنوتيّة، وصحنوها بأقدامهم النجسة، بعد ما انتقوا منها ما يصلح لكسوتهم. وأفرزوا الشموع والقناديل والشماعد، فأخذوها إلى الجامع الكبير، وظلّوا يبيعون ويشترون مدّة ثلاثة أيّام حتّى أمسى الدير خاويًا خاليًا كأنّ البناء قد خرج منه جديدًا.
ومنذ عاشر كانون الثاني، خصَّصوا دير الرواهب بالجنود، فكان العسكر منذ إ ذٍ يجتمعون في ذلك المعهد المقدّس، ويسرفون الليالي في الأكل والشرب والسكر وسائر أنواع الخلاعة والملاهي والبطر مما حرمه الله تعالى. وأمروا المؤذن أن يؤذن كالعادة على سطح الدير، في الأوقات الخمسة، ورفعوا الناقوس، وحاولوا أن يكسروه، إلاّ أنّ أحد المسيحيين تصدّى لذلك، فصرفهم عن سوء نيّتهم.
وتاسع شباط، نُقلت الكتب والكراسي وجميع ما تبقى من الأمتعة إلى الجامع، وشغل الغرف بعض الموظفين، ما عدا غرفتين أنعموا بالواحدة على الأب دانيال، وبالأخرى على الأب ليونار.
ويوم الخميس 11 شباط، أقبل خمسة وخمسون من طلبة المسلمين، حاملين الرايات والبنود، منادين بالهَيْلَلَة والحَيْعَلَة [حَيّ على الصلاة، حَيَّ على الفَلاح]، ودخلوا ساحة الكنيسة، وسكنوا في المدرسة. وأذاعوا مذ ذاك أنّ الكنيسة وسائر مشتملاتها ستغدو مركزًا للحكومة والتلغراف معًا. وبدأوا يختلفون إلى الدير، صباح مساء، واحتووا بالمرّة على كلّ ما فيه، كما يُقال، من النحاس إلى الرصاص، دع الذهب والفضة والأمتعة والأثاث، من جملتها أشياء كثيرة كانت للمسيحيين المنتمين إلى الكبّوشيين، فراحت صدقة راسهم، وأمست طعمة للحكومة وأعوانها. نذكر من ذلك طنفسة [بساط] كبيرة عجميّة بلغت قيمتها نحو ثلاثين ليرة ذهبًا كانت للخواجا عبد المسيح بطيخه، وطنافس غيرها مبلغها ألفا غرش كانت لفرنسيس توماس. وكان للخواجا الياس بعبوصي طنافس بمبلغ ألفي غرش، وليوسف آحو جلود بألفي غرش، وللمعلّم رزق الله سلمو ثلاثة أكيال حنطة، ولقرينة يوسف مغزل صف برباعيه الذهبية ولآليه بألفي غرش. فهذه الأغراض برمّتها استولت عليها الحكومة، وتصرّفت بها كما أرادت.
فعرض الأبوان الأمر على حاكم البلد، فوعدهما مواعد عرقوب [اسم رجل كان أكذب أهل زمانه]، ولم يردد لهما ما طلبا. وعلاوة على ما أوردنا، أنهت الحكومة إلى مستأجري دكاكين الكبّوشيين أن يدفعوا الأجرة لها، لا للكبّوشيين. فحار الأبوان في أمرهما، وغابت عليهما طرق المعيشة والنجاة. واتصل الخوف بالكاثوليكيين إلى حدّ أنّهم لم يعودوا يجسرون أن يفتقدوا الأبوين ويزوروهما. 10
7- الكاهن اليقظ
نتوقّف عند تفصيل هامّ ورد في المقطع السابق يُشير إلى يقظة الأب ليونار ومسارعته إلى تخليص القربان المقدّس من أيدي العسكر التركي، ذكره أيضًا الأب آنج دوكلاميسي سابقًا حين قال:
وفي كنيسة الراهبات في ماردين، سُمح لأحد الآباء [ الأب ليونار ] بإخراج القرابين المكرّسة التي لفّها بالصمدة [ قطعة النسيج المربعة المبسوطة على المذبح لوضع الكأس والصينيّة عليها ] ، لكنّه اضطرّ إلى ترك كأس المناولة، والجوهرة [ الدائرة الزجاجيّة التي يُعرض فيها القربان المصمود في الشعاع ] ، في بيت القربان الذي كان رئيس الجامع قد فتحه . 11
8- نقص في المعلومات
مع بدء العام 1915 أضحت المعلومات الواردة من المرسَلين الكبّوشيين قليلة، بسبب الحرب الدائرة، والرقابة المفروضة على المراسلات، وتصميم الحكومة التركيّة على التعتيم على كلّ تحرّك وعمل تقوم به للقضاء على المسيحيين. لذلك، لا نجد شيئًا يُذكر في أرشيف الكبّوشيين يعود إلى تلك الحقبة، وكلّ ما نعرفه عن الإرساليّة والمرسَلين يأتي على لسان السكّان من أهل البلاد. وفيما يخصّ ماردين وما جرى فيها، سوف نعتمد على روايات الشهود العيان، وهم: الأب اسحق أرمله، الآباء الدومينيكيين الثلاثة: ماري دومينيك بِرّيه وجاك ريتوريه وياسنت سيمون، والشهود في دعوى تطويب المطران مالويان، والناجين من المجازر، وغيرهم.
1 “ذكريات” الأب آتال دوسانتيتيان، أرسيف الكبّوشيين في المطَيلب، لبنان، ص. 33/37.
2 رسالة الأب برنابيه من نوهانان في مجلّة “الرسول الصغير”، 1915، ص. 12.
3 تقرير الأب آنج دوكلاميسي إلى الأب العامّ، ليون، 22 شباط 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
4 برقيّة سفير أميركا في القسطنطينيّة، السيّد هنري مورغنتاو [الأب] (1856-1946)، 13 كانون الثاني 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
5 برقيّة قنصل أميركا في خربوط، السيّد ليسلي دافيس (1876-1960)، 19 كانون الثاني 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
6 برقيّة قنصل أميركا في حلب، السيّد جيسّي جاكسون (1871-1947)، 21 كانون الثاني 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
7 رسالة الأب بنوا نجاريان، أورفا، 18 آذار 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
8 كان هناك راهبان كبّوشيّان يحملان الاسم بنوا نفسه: الأب بنوا نجاريان، أرمني من خربوط، رئيس مركز أورفا، والأب بنوا من ميدباخ، ألماني الجنسيّة، في مركز معمورة العزيز. إنّ الأخ رافائيل سمحيري (1846-1940) هو سرياني من الموصل. يبدو أنّ الأب بونافنتورا اختلطت عليه جنسيّات الآباء؟! نجا الأب بنوا من خربوط من المجازر، وقضى آخر أيّامه في كاتدرائيّة القدّيس لويس في بيروت حيث توفّي في 10 أيلول 1956.
9 تقرير الأب بونافنتورا فاضل البعبداتي الكبّوشي، بيروت، 1919، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
10 اسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، ص. 244-250.
11 تقرير الأب آنج دوكلاميسي إلى الأب العامّ، ليون، 22 شباط 1915، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.