المئوية
  |  
تجمّع 6 أيار
Cross

كلمة العماد ميشال عون

 

كلمة دولة الرئيس العماد ميشال عون  في الذكرى المئويّة الأولى لإبادة المسيحيين

فندق لو رويال (ضبية-لبنان)، 6 أيار 2015

نحتفل اليوم بذكرى شهداء لبنان الأبرار الذين قضوا بحدّ السيف وعلى أعواد المشانق أو جوعًا على الطرقات. ولأنّ الشعوب التي تنسى تاريخها تُكرّر أخطاءها وتُهمّش دورها، لن نقبل بعد الآن بأن يُطمس تاريخنا وتُمحى ذاكرتنا، وسنجعل هذه الذكرى يومًا وطنيًّا نكرّم فيه جميع شهدائنا الذين سقطوا بالأمس والذين يسقطون اليوم.

بداية، يجب أن نتساءل لماذا أُسدل الستار عن حقبة من تاريخنا تُعتبر من أهمّ المراحل التي مرّ بها اللبنانيّون عامّة، والمسيحيّون خاصّة في لبنان، والتي تخلّلها أكثر من محاولةٍ لإبادتهم، أو لضربهم في جبل لبنان ودمشق، بمؤامرةٍ أعدَّ لها الحكم العثماني، ونُفّذت برعايته على مراحل مختلفة، وارتُكبت فيها أبشعُ الجرائم، وكان أكثرها فظاعة تلك التي حدثت في العام 1860 وفي الحرب الكونيّة الأولى من العام 1914 حتى العام 1918.

منذ طفولتي، روت لي والدتي مرارًا قصّة عائلتنا المتحدرة من جنين. كان في رحم امرأة عندما أُفنيت عائلتها بحدّ السيف، وكانت هي الناجية الوحيدة، وعانت في نجاتها، وفيما تبعها من عذابات الحياة وآلامها، وكان ذلك في بلدة جزين في العام 1860.

كما روى لي والدي أخبار المجاعة خلال الحرب العالميّة الأولى، وكان في الثالثة عشرة من عمره، والصور العالقة في ذهنه عن جياع يئنّون على الطرقات، وجثث مرمية على أطرافها، والعسكر التركي ينهب البيوت والمواسم، ويصادر الغلال وحيوانات النقل، ويأخذ الرجال الى السخرة.

لم أتفاعل آنذاك مع تلك الروايات، على الرغم من بشاعتها ومأساويتها، ظنًّا منّي بأنّها أحداث مضت وانتهت ولن تتكرّر؛ إلاّ أنّ التاريخ عاود نفسه، وما نشاهده اليوم من همجية، أبشع بكثير مما أُخبرنا به عن الأمس؛ فالمجازر غير محدودة، لا في المكان ولا في الزمان، وقد أعادت إلينا صور الماضي، وأيقظت فينا قلقًا على المستقبل، لأنّها تطال التاريخ والحاضر والمستقبل. خصوصًا، وأنّ من يَرعى هذا الواقع المرير والمرعب هو نفسه مَن وقّع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن غلاة المدافعين عن هذه الحقوق في العالم، وقد جعل منها مادّة تجاريّة يستعملها في جميع المشاكل التي تعترضه، أكان ذلك عن حقّ أو عن باطل، وفقًا لمصالحه.

أيّها الأخوة،
بالطبع لم يكن بوسع والدي، ولا أيّ ممن عاش تلك الحقبة، أن يعرف بالعمق أسباب الكارثة، كما أنّ الأجداد لم يفهموا من أحداث 1860 إلاّ أنّ الدروز هاجموا المسيحيين وقتلوهم في لبنان، والسنّة هاجموهم وقتلوهم في دمشق. ولكن، الوقائع التاريخية والوثائق الباقية من محفوظات السلطنة العثمانية وغيرها، تشير الى أنّ العثمانيين هم من يتحمّل مسؤوليّة تلك الإبادة، لأنّهم هم مَن خطّط وحرّض ونسّق التنفيذ، كما أنّهم تمنّعوا عن تأمين الحماية للمسيحيين، لا بل أكثر من ذلك، شاركوا في عمليات القتل، وكانت هذه المشاركة جزءًا من خطّة الإبادة.

ولا بدّ لنا من العودة الى الفوضى التي عمّت المنطقة العربيّة في حينه، والأسباب التي أدّت إلى تلك المجازر؛ كان الوهن قد بدأ يتسرّب الى السلطنة العثمانية حتّى بلغت حالة من الضعف لُقّبت معها بالرجل المريض. وبمحاولةٍ منها لاسترجاع ما فقدت، رأت أنّ التخلّص من الأقليّات يمكن أن يضع حدًّا للدول الأوروبية التي تتخذ من حماية تلك الأقليات سببًا للتدخل في شؤون السلطنة الداخلية. ولَمّا لم يكن بإمكانها القيام بهذا العمل بشكل مباشر خوفًا من أن تتحمل المسؤولية تجاه تلك الدول المتربصة بها، اعتمدت أسلوب الحروب الأهلية بين مكونات الأقليات لحذفهم من المعادلة، وبالتالي قطع الطريق أمام التدخل الأوروبي، واستعادة سيطرتها على لبنان عبر إلغاء استقلاله الذاتي والامتيازات التي يتمتع بها.

وبعد فشل محاولة تمرّد الأمير بشير الثاني على العثمانيين مستعينًا بإبراهيم باشا وتنحيته في العام 1840، وتقسيم جبل لبنان الى قائمقاميتين، شماليّة يحكمها الموارنة، وجنوبيّة يحكمها الدروز، وهذا التقسيم الذي فُرض على اللبنانيين بإرادة دوليّة – عثمانيّة نتج عنه نفوذ فرنسي على الموارنة، ونفوذ إنكليزي على الدروز، كان من نتائجه تحريض الفريقين على بعضهما البعض، وخصوصًا بسبب المساواة بالحقوق بين المسيحيين والمسلمين التي أقرّها إبراهيم باشا إبّان حكمه للبنان.

في العام 1857، قام الفلاحون بثورة للمطالبة بحقوقهم في القائمقامية الشمالية، وتفاعل معهم فلاحو القائمقامية الجنوبية الذين كانوا من المسيحيين والدروز، ولكن الإقطاع الدرزي استطاع احتواء الفلاحين الدروز بإقناعهم أنّ هذه الثورة ستقضي عليهم، مما حوّلها الى صراع طائفي.

اغتنم خورشيد باشا، والي بيروت، تدهور العلاقة بين المسيحيين والدروز، خصوصًا وأنّ صدامات متنقلة كانت قد بدأت تستعر في عدّة مناطق، موقعة الضحايا، ورأى فيها إمكانيةً لتحويلها إلى فتنة طائفية، يتّخذ منها ذريعة لتشديد قبضة السلطنة العثمانية على جبل لبنان، بالإضافة إلى القضاء على المسيحيين فيه؛ فوضع خطّة مفصلة لذلك تقوم على تحريض الدروز على المسيحين في الجبل، وتحريض السنّة عليهم في دمشق.  ولتنسيق آليات العمل، أرسل موفدًا إلى أحمد باشا والي دمشق ليباشرا معًا البدء بالتنفيذ. وهنا نستنتج أنّ التحريض العثماني الذي وتّر الأجواء، كان تحضيرًا لتفجير الوضع، وفي ظنّهم، بدايةً للفتنة التي ستقضي على مكوّنات جبل لبنان، وبالتالي تسهيل ابتلاعه. وقد بدأ التنفيذ فعليًّا في آذار من العام 1860 واستمرّت حتّى تموز من العام نفسه، وعرفت بـ«مذابح الستين».

لم يكن هناك من أسباب مباشرة لهذه الفتنة، إلاّ أنّ جرائم نهبٍ وقتلٍ وقعت على المسيحيين تغاضى عنها العثمانيون، ولم يقتصوا من الجناة، بالرغم من معرفتهم بهم، مما دفع بالمسيحيين ليقوموا بحركة ثأرية اندلعت على أثرها العمليات ضدهم.

خلال بضعة أسابيع أُحرقت أكثر من ستين قرية مسيحية في الشوف والمتن، تحت أنظار الجيش العثماني الذي اقتصر دوره على التفرّج، وقطع الطريق على الهاربين من الأهالي، وسرقة متاعهم وأموالهم.

وما لبثت الاعتداءات أن طالت المدن، وهناك لعب الأتراك دورًا أسوأ، فكان قائد الحامية يعرض حمايته للمسيحيين مقابل تسليم أسلحتهم، ثمّ يتركهم لمصيرهم الأسود. وجاءت تقديرات أعداد الضحايا الأقرب إلى الواقع: في دير القمر 2600، وفي جزين وجوارها 1500، وفي حاصبيا 1000، وفي راشيا 800، وفي صيدا 300، أمّا في زحلة فلم ينج بيت من الحريق. وتخطّى المسلّحون حدود قائمقامية الموارنة ووصلوا إلى بعبدات في المتن الشمالي، أمّا في دمشق فقد سقط ما يزيد عن 10 آلاف ضحيّة. وكان المسيحيون يطاردون ويُقتلون في الشوارع، ولم ينج منهم سوى الذين استطاعوا الوصول إلى دارة الأمير عبد القادر الجزائري في الشام التي كانت محمية بحرس جزائري. أمّا النهب فقد طاول  ثلاثة آلاف منزلٍ للعائلات الثريّة.

والسؤال البديهي هنا: لو كان ما حصل في لبنان هو بسبب العلاقة المتدهورة بين الدروز والمسيحيين، فما الذي حدا بمجموعات من السنّة لارتكاب مجازر بحقّ المسيحيين في دمشق، حيث لم يكن بينهم خلاف؟ والجواب البديهي أيضًا هو أنّ التخطيط كان عثمانيًّا، وكذلك التحريض والتنسيق والإشراف، أمّا التنفيذ فبأدوات محليّة وعثمانيّة.

أيّها الأحباء،
إنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، ولم تتمكن السلطنة من تحقيق غاياتها، لا في ضمّ جبل لبنان، ولا في محوه عن الخريطة، وتدخّلت فرنسا بتكليف من الأوروبيين، ووحدت الجبل مجددًا في شكل نظام جديد هو المتصرفيّة، يكون فيه الحاكم مسيحيًّا، ولكن من رعايا السلطنة العثمانيّة، وبعد موافقة الدول الحامية للمسيحيين والدروز الذين توزعوا كما يلي: فرنسا للموارنة، روسيا للأرثوذكس، النمسا للكاثوليك، وإنكلترا للدروز، وهذا ما عُرف ببروتوكول 1861/1864. وهكذا، وبعد آلاف الضحايا تمكّن لبنان من الحفاظ على استقلاله الذاتي وهويته، وعرف مرحلة من الأمن والازدهار دامت حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى في العام 1914.

بعد اندلاع هذه الحرب، وانضمام تركيا إليها، وجد العثمانيون المناسبة مؤاتية لتحقيق حلمهم الدائم، والقيام بمحاولة الإبادة الكبرى، وبدأ التنفيذ بقرار من جمال باشا، في أيار من العام 1915، بإلغاء نظام المتصرفيّة، واخضاع لبنان للحكم العثماني المباشر، وتعيين حاكم عثماني عليه، هو علي منيف بك.

لقد مهّد جمال باشا لتلك الإبادة بإعلان الأحكام العرفيّة، فألقى القبض على عشرات الشخصيّات اللبنانيّة والسوريّة من رجال دين ورجال فكر وسياسة ومن جميع الطوائف، أي كلّ من له تأثيره في المجتمع، موجّهًا إليهم تهمًا وهميّة كالتواصل مع القناصل، الأمر الذي كان طبيعيًّا في ظلّ بروتوكول 1864. وأعطى الأوامر بنفي وسجن بعضهم، وبرفع البعض الآخر على أعواد المشانق في بيروت وعاليه وساحة المرجة في دمشق، بين عامي 1915 و1916.

في ربيع 1915 كانت ملامح المجاعة قد بدأت مع اجتياح الجراد للأراضي اللبنانية آتيًا على المحصولات الزراعيّة التي تشكل 20% من حاجاته الغذائيّة، ما زاد في حاجة اللبنانيين لتلك الحاجات التي كان يستوردها من منطقة البقاع ومن سوريا. ولكنّ العثمانيين أغلقوا الحدود البريّة، وصادروا الغلال وحيوانات النقل، وأخذوا الرجال لأعمال السخرة، والتحق الأطباء بوحدات الجيش التركي، فأُغلقت المستشفيات والمستوصفات.

وبالاطلاع على الوثائق المتزامنة مع تلك الفترة، تبين لنا حقيقة ما جرى بالفعل. ومن أهمّها قول أنور باشا، وزير الحرب في حكومة تركيا الفتاة، عند زيارته جمال باشا في عاليه، مخاطبًا إيّاه بلهجة الآمر، بتصريح علني، في نيسان من العام 1916: “لا تستطيع الحكومة استعادة حريتها وشرفها إلاّ بعد تطهير الإمبراطورية العثمانية من الأرمن واللبنانيين. لقد دمّرنا الأرمن بحدّ السيف، واللبنانيون ندمّرهم بالجوع”.    

وهذا يدل بوضوح على أنّ القضيّة تشمل جميع الأقليّات في السلطنة العثمانية، ولذلك نرى هذا الارتباط بالتواريخ بين جميع المجازر التي ارتكبت على يد العثمانيين أو على يد مرتزقة يخضعون لهم.

شهادات حيّة عن المجاعة التي قضت على ما يقارب الـ180 ألفًا، أي أكثر من ثلث سكان جبل لبنان. من هذه الشهادات نذكر شهادة القنصل العام الأميركي، برسالة إلى حكومته، في 15 تموز من العام 1916: «حال الفقراء في هذا البلد تستثير الحزن، والحكومة فاقدة الاحساس نحو آلام هؤلاء المساكين، ثمّ هي لا تسمح للصليب الأحمر الأميركي بمدّ اليد إليهم، وكثيرًا ما شاهدتُ، خلال تجوالي، جثث الموتى على قوارع الطرق».

سيّدة أميركية عاشت في بيروت، ونشرت صحيفة التايمز رسالة لها تقول: «بدأت حالات الجوع تظهر قبيل حلول الربيع، إذ وجد أناس مطروحون في الشوارع، وقد مررنا بنساء وأطفال ارتموا على جوانب الطرق، وعيونهم مغمضة ووجوههم شاحبة ترهقها صفرة الموت، وكم وجدنا أناسًا يفتشون في أكوام القمامة عن قشور البرتقال والعظام البالية وغيرها من الفضلات ويأكلونها في نهم إن وجدوها».

ويقول جورج أنطونيوس في كتابه «يقظة العرب» عن شهود عيان: «… تلاشت قرى كاملة ونقص سكان بعضها إلى النصف، وكان بعض القرويين يتجولون على أقدامهم في الريف ليموتوا دون أن يراهم نساؤهم وأطفالهم الجائعون».

لا بدّ من مراجعة تاريخيّة للحروب التي استهدفت المسيحيين، من تركيا إلى الشرق الأوسط، لنستخلص لماذا يتقلّص عددهم باتجاه الانقراض في أرضهم الأم؛ فأعمال الإبادة التي بدأت في العام 1860 في جبل لبنان، ثمّ في العام 1895 في السلطنة العثمانيّة، طاولت جميع الطوائف المسيحيّة، ووصلت الى الذروة في الحرب العالميّة الأولى حيث قضي على الوجود الأرمني والسرياني والآشوري والكلداني في تركيا، إمّا بحدّ السيف أو بالهجرة. وفي لبنان، مَن لم يقضِ بحدّ السيف قضى بالمجاعة، أمّا مَن تبقّى، فقد حمل حقائب الهجرة هربًا من قساوة العيش، باستثناء قلّة قليلة قرّرت البقاء والبدء من جديد.

اليوم، نشعر وكأنّ الحلم الذي راود العثمانيين في القرن الماضي لا يزال يراود بعضهم، وإلاّ بماذا تفسَّر محاولة تهجير المسيحيين المستمرّة في المشرق، وما يتعرّضون له من إبادة جديدة، أكان بالحديد والنار أو بالتهجير؟ أمّا في لبنان، فقد بدأنا نرى جنوحًا نحو السيطرة في ممارسة الحكم، وإضعاف المسيحيين، وتعطيل دورهم، وفق المبدأ الذي يقول: «ما هو لي هو لي، وما هو لك هو لي ولك»، وهذا ما يُفقِد المرجعيّات المسيحيّة دورها بالنسبة لمن تمثل، ويخلق شعورًا بالحرمان لديهم يحيي فيهم شعورًا دفينًا بالقلق، ويتسبّب مجددًا بحزم حقائب الرحيل إلى سماء جديدة يعيشون تحتها بحريّة وعدالة وطمأنينة.

ولكنّنا واعون لهذه المشكلة، ولن ندعها تتفاعل في أيّ حال من الأحوال، فما يلحقنا من خير سيطال الجميع، وما يلحقنا من شرٍّ، أيضًا، سيطال الجميع، ولدينا ما يكفي من العزم والتصميم والإرادة لإكمال المسيرة.

ووعدنا لكم بأنّ قوى التكفير والإرهاب، ومريديها، لن تقوى علينا.

عشتم وعاش لبنان.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل التالي

كلمة أمين عامّ حزب...

كلمة أمين عامّ حزب الطاشناق، النائب أكوب بقرادونيان

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013