كلمة الأستاذ حبيب أفرام، رئيس الرابطة السريانيّة، الرئيس السابق للاتحاد السرياني العالمي، في الذكرى المئويّة الأولى لإبادة المسيحيين
فندق لو رويال (ضبية-لبنان)، 6 أيار 2015
مئة عـــام . سَيفو والنسيـان
مئة عام... غبار التاريخ يضجّ في عقلك والشرايين.
سَيفو أمام عينيك لا يغيبها ضجيج أحداث، ولا تعاقب أجيال.
مكتوبة بالدم. والدم حبرنا. نحن الابرياء. نحن بقايا السيوف. نحن أيتام الشرق. قرابينه.
وأخطر ما في سيفو، ليس القاتل الجلاّد الذي يرفض الاعتراف، والذي يستفزّك في النكران، بلْ في سيفو جديد حيث تقتلع من الشرق، من النهج والفكر نفسه، وبدعم من أحفاد العثمنة نفسها.
أنا ابن سيفو، ابن الجيل الثالث لجدّ هو حبيب، جيء به من طور عبدين، جبل النساك يتيمًا، وجدّة أرمنيّة هي تاكوهي، جمعتهما المذبحة والحبّ في بيروت.
وانا ابن لبنان، مجبول به حتّى قبل ما كان، إسألوا القرى والأنهر والمدن، مَن أعطاها أسماءها باللغة الآراميّة المقدّسة؟ أوقفوا هذا الهراء عن مَن استضاف مَن، كلّنا ضيوف عند لبنان، الوطن أن تكون له.
وأنا افتخر أنّي ابن المعاناة والتجارب المرّة، مسكونٌ بهاجس الحضور المسيحي الحرّ المهدّد بالاندثار.
وحده الأعمى لا يريد أن يرى.
لكنّ الحقيقة ناصعة كالشمس.
أولاً: إنّ ما نسميه «سَيفو» حقيقة تاريخيّة في المكان والزمان، نحن شهودها وضحاياها، بأجسادنا بأهلنا برواياتنا بكتبنا بأشعارنا بفننا بأغانينا بدمعنا بلحمنا بدمنا بالأسماء بالصور بالعائلات بأطلال باقية هناك فيها عبق أجدادنا. ولا يمكن لأحد إنكارها ولا محوها ولا التبرؤ منها ولا تغييبها ولا إهمالها ولا دفنها، خاصّة لا نقبل أن يدّعي أحد أنّها لم تحصل، أو أنّها خرافة. أو أنّه تهجير احترازي، أو أنّنا أرشيف للبحث: إنّ الذاكرة لا تُهجَّر، وهذه ليست ذاكرة وهمية ولا مُبتَدَعَة، وهي ليست ذاكرة ارتداديّة أو ذاكرة للانتقام، بل هي ذاكرة للغد.
ثانيًا: إنّ ما حصل طال شعوبًا واثنيات وطوائفَ متنوّعةَ من الأرمن والسريان والكلدان والأشوريين ويونان آسيا الصغرى. صحيح أنّ العدد الأكبر من الضحايا كان من الأرمن الذين سمّوها في أدبياتهم “المجزرة أو الإبادة الأرمنيّة” وكانوا طليعة في النضال لإحيائها، لكنّ المسيحيين بأغلبهم كانوا ضحايا القتل والذبح والنزوح والجوع والمرض والتهجير، بقرار رسميّ.
لكنّ الموضوع ليس عددًا أو كمًّا، ولا مزايدة في أرقام. رغم أنّ مذكرات قُدّمت، ومنها للبطريرك افرام الأوّل برصوم، عام 1920، المحفوظة في أرشيف الخارجيّة البريطانيّة، تؤكّد أنّ أكثر من 250 ألفًا من أبنائنا قُتلوا في 336 قرية، ودُمّرت 160 كنيسة ودير، وقُتل 154 كاهن ورجل دين. قُتل هؤلاء وهم عزّل غير محاربين. وإخوتنا في الدم والمصير: الأرمن، أرقامهم مليون ونصف، ومسيحيّو جبل لبنان الذين حوصروا وجوّعوا: مئتي ألف. فهل يمكن أن نفكّر بتسوية في قضيّتنا أو بحلّ وسط؟
ثالثًـا: لسنا في مهاترات مع تركيا، لا حكومة ولا شعبًا ولا نظاماَ، وليس هدفنا تشويه صورتها ولا سمعتها. لكنّنا نطالبها بالاعتراف الصريح الواضح الشفاف بما حصل، من أجل أن ترتاح عظام أجدادنا. من أجل وقفة ضمير ونقد ذاتي. نحن لا نستثمر دم الشهداء إلاّ في ساحة الشرف والحريّة. لا ننكأ جراحًا، ولا نستجرّ أحزانًا، ولا نقبل انتقامًا، ولا نحمل ضغينة، ونتذكّر ليس بالضرورة من أجل استعادة أراض فقط، ولا من أجل تعويضات مالية بحت، بل من أجل الحقيقة.
رابعًـا: إنّ التاريخ يكتبه الكبار. إنّ تركيا ستكون أكثر قوّة ومناعة إذا تصرّفت بهالة. إنّ قداسة البابا الراحل طلب الغفران عن الحملات الصليبيّة وما سبّبته من مآسٍ. وهو نفسه طلب السماح من اليهود عن أي اهمال سبّب بالمحرقة، وها هي ألمانيا تعترف بالمحرقة دون خجل، وتعترف أخيرًا، ليس فقط بالإبادة، بل بمسؤوليّتها الجزئيّة عنها. إنّ جنوبي أفريقيا انشأت لجانًا للحقيقة وللمصالحة الوطنيّة، والمغرب سيعوّض عمَّن تعرّض للتعذيب والاعتقال الظالم عبر هيئة. فليس من البطولة أن يقول أردوغان أنّ كلّ صراخ الضمير والعالم يدخل من أذن ويخرج من أذن.
إنّ أردوغان نفسه اعتبر مقتل 200 ايغوري من اصل تركي عام 2009 إبادة. فماذا عن مئات الألوف؟ فهل أردوغان نصف انسان؟ يفكّر فقط بنصف البشر؟ يتعاطف فقط مع من يريد؟ إنّ سياسة صفر مشاكل صارت مشاكل مع الكلّ. فالعقل الطوراني يريد إلغاء كلّ آخر، من الديني الأرمن والسريان، إلى المذهبي العلوي، إلى العرقي الكردي.
خامسًا: نصرخ لوجعنا بصوت أقوى، لكنّنا بكلّ تأكيد ضدّ القتل بالمطلق، ضدّ الحرب، ضدّ الإرهاب، ضدّ العنف. لا نقبل أن نستعمل الأحداث الأليمة لزرع الحقد أو الكراهيّة، بلْ لتحصين مجتمعاتنا وشرقنا. وما رفضناه لأهلنا، نرفضه لأي شعب، وندينه في أي بقعة من العالم.
سادسًا: إنّ العيش المشترك في صميم رسالتنا وفكرنا، لقد عشنا هنا منذ فجر البشريّة، ومنذ بدء نور المسيحيّة، ثمّ مع المسلمين نتشارك الهواجس والهموم والأيّام. صحيح أنّ في هذا التاريخ محطّات مخيفة وقاسية، لكنّه يسطع أيضًا بالفرح والعطاء. نحن ضدّ صدام الحضارات، نحن لسنا فقط مع حوارها، بل في قلب عيشها معًا. نحن لا نقبل الهجوم على أيّ دين. نحترم ونقدّر ونجلّ الإسلام. لكن، أليس من الغريب ألا تعترف ولا دولة عربيّة أو إسلاميّة، ما عدا لبنان، بقضيتنا؟ وإنّ إسرائيل التي ارتكبت إبادة جماعيّة موصوفة ترفض الاعتراف. وحده صوت الفاتيكان والبابا جاء مدويًّا.
ونحن نرفض ضرب هذا العيش المشترك في سيفو جديد في هذا الجنون. هذا التكفير والإلغاء. يعدمون أبناء العشائر السنيّة، يفجّرون الحسينيات، ي بيدو ن اليزيديين، يهاجمون الأكراد، يقتلعوننا نحن المسيحيين من سهل نينوى، من الموصل، من البصرة، من الحسكة، من الرقّة، يذبحون المطران فرج رحّو، يخطفون المطرانين يوحنا ابراهيم وبولس اليازجي دون أثر أو خبر، يسبون النساء، ومازال 300 آشوري مخطوفًا في الخابور ولا حلّ ولا من يسأل، يلقون بالمسيحيين من قوارب النجاة، يذبحون القبطي والاثيوبي في ليبيا، يقتلون على الهوية في مدارس نيجيريا وكينيا، يَربضون على تلال لبنان يخطفون جنوده، ينتظرون غفلة من جيش بطل صامد وشعب مقاوم، كلّ هذا بدعم وتسهيل من ورثة السلاطين! أليس من الغرابة أن تكون تركيا واحة كلّ إرهابي؟ أليس من العار فوق كلّ هذا أن يقول لبناني أنّ الدولة العثمانيّة تمثلني، وأن تُرفع راية تركيا تحدّيًا.
سابعًـا: لا يمكن للعالم أن يغمض عينيه ويدَّعي أنّه لا يعرف ولا يسمع ولا يرى. لا يمكن أن تكون الحروب مسلسلاً تلفزيونيًّا ولا الضحايا أرقامًا ولا يرفّ له جفن. لا يمكن أنْ يكون الانسان لامباليًا تجاه أي ضحية في أي زمن في أي قارّة لأي سبب. مَن يسكت يكون مشاركًا. الضمير العالمي يجب أن يبقى ساهرًا متيقظًا لحقوق كلّ إنسان. الحقّ ليس للقوّة بالضرورة، فإلى متى يصمّ العالم أذنيه عن صراخ البراءة، ويتبع مصالحه؟ ومتى الأخلاق فوق السياسة. فقط 20 دولة اعترفت. هل هو انحلال للإنسانيّة. وأودّ أن أوجّه نداء إلى وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل: هل يمكن للدولة اللبنانية أن تتبنى رسميًّا ملفّ استعادة أملاك فقدها مواطنوها منذ مئة عام في تركيا؟
كلّ َمن سكتَ عن سيفو، يسكت اليوم عن إبادة واستئصال المسيحيين في الشرق، ويراقص الارهاب في العراق وسوريا.
ثامنًا: إنّ شعبنا رفض أن يموت، ويبرهن كلّ يوم أنّه جدير بالحياة، ينظر إلى التاريخ بعين التحدّي. صحيح أنّ الغربة تكاد تقتلعه من الأرض المشرقيّة، وهو أصبح حارس حجارة في طور عابدين، لكنّ نهضة حقيقيّة في أحزابنا وتياراتنا ووسائل إعلامنا ومؤسساتنا وعودتنا إلى الجذور واللغة والانتماء والإفادة من التكنولوجيا والمواصلات تجعلنا شعبًا واحدًا نابضًا بحسّ الهويّة مصرًّا على حقّه في حمل رسالة التمايز والفرادة في عالم واحد يكاد يمحو كلّ ثقافة. سنبقى لونًا محببًا في عالم عنوانه التنوع.
ونحن في لبنان، جبلنا كسريان قدرًا وخيارًا، نؤمن أنّه الواحة والمثال رغم كلّ عثراتنا كلبنانيين. إنّه الدور والرسالة، لا الحصن ولا الملجأ فقط. عرفنا كمسيحيين جحيمنا أيضًا. قاومنا بروعة لكّننا اقتتلنا وكنّا ساحة، مررنا بكوابيسنا ومجازرنا أمام عيون العالم، تذابحنا وتصالحنا، نحن ندرك ربما أكثر من غيرنا أنّ لا حلول إلاّ بالحوار والتفهم والتفاهم والمصالحة والتعالي على الجراح. لكن لا يحاول أحد أن يلغينا بالسياسة بنكران حقوقنا، بالتذاكي علينا، بسرقة تمثيلنا، لا في الرئاسة ولا في الوزارة ولا في النيابة ولا في الإدارة.
ولّى زمن استغيابنا. نحن جبالٌ. نموت لا نركع.
صحيح أنّ كلّ ما نفعله غير كاف، لا البيانات، لا النصب التذكاريّة، لا المهرجانات، لا الصراخ.
نردّد مع نزار: ” لقد كفرنا ليس لدينا كلام جميل ليس لدينا شفاه ولا مفردات”.
لكن نحن نؤمن أنّ الفصح قائم فينا، أنّ الله يعترف بنا.
وها نحن في ٦ أيار نتذكّر معًا: تيارًا وطاشناقًا ورابطة وحلفاء وأصدقاء. نتذكّر شهداء كلّ لبنان.
نحن هنا نصرخ حتّى لا تتكرّر أي مجزرة، حتّى نتصالح كلّنا، بشريّة تسعى إلى الكمال، وحتى نناضل لشرق جديد وفجر جديد.
كلّنا هنا لسنا من سلالة الخنوع،
ولأنّنا القضيّة، لن نخلع جلدنا والهويّة.