يوم الأحد الواقع فيه 19 تشرين الأوّل 2008، جرى احتفال في ساحة بلوطة آل ملكي في بعبدات، الواقعة في شمال البلدة، في المكان المعروف بالحقلة، حيث كان الأب ليونار يقضي فترة فصل الصيف مع عائلته، يساعد في الزراعة وصناعة الدبس العنبي في الأجران القديمة المحفورة في الصخر.
حضر الاحتفال حشد من أهالي بعبدات وأصدقاء الأب ليونار والفعاليات البلدية، وقدّمه المهندس جرجس إميل ملكي، وألقى السيّد حبيب فارس ملكي، عميد عائلة ملكي صاحبة الأرض، كلمة للمناسبة، وتمّ إزاحة الستارة عن بلاطة تذكاريّة للأب ليونار، نحتها الفنان أنطوان حليم الهاشم، وأعطى صاحب هذا الموقع عرضًا مصوّرًا عن سيرة حياة الأب ليونار واستشهاده. خُتم اللقاء بضيافة تقليدية من الجوز واللوز والزبيب. وفيما يلي الكلمات التي أُلقيت:
كلمة المهندس جرجس ملكي، مقدّم الاحتفال
أهلاً وسهلاً بكم جميعًا .
بدايةً، لا بدّ من التقدّم ببالغ الشكر والتقدير، من كلّ الذين ساهموا في تأهيل هذا المكان العزيز على قلب كلّ بعبداتيّ، منذ القدم، وفي مقدّمهم المهندس فارس ملكي، الذي بذل جهدًا كبيرًا في إنجاح هذا المشروع، فقام بملاحقة جميع الأعمال، من بناء وريّ ومكافحة الحشرات ... خلال السنوات الثلاث الأخيرة . فلولا فارس ومثابرته وتضحياته لكانت ال بلوطة الآن في حالة يرثى لها، ولبقي هذا المكان مهجورًا، وأصبح مكبًا للنفايات ... كما نشكر أيضًا الذين ساعدوه في مساعيه، ومنهم المهندس الشابّ وسيم جريس ملكي، الذي قام بتصميم الحيطان والمدرّجات، فضلاً عن مساعدة فارس في أعمال التنظيف وإزالة الأعشاب والريّ ...
وهنا، أودّ لفت انتباه الجميع، إلى أنّ هذا الموقع مفتوح لهم على مدار السنة، ولكن شرط المحافظة على النظافة، والامتناع كليًّا عن إشعال النيران، خاصّة تحت ال بلوطة ، حيث أنّ جذورها قليلة العمق، ويمكن أن تؤثر عليها النيران بشكل سلبي جدًا . كما يرجى من الإخوة الصيادين الامتناع عن ممارسة هوايتهم في هذا المكان، والابتعاد عنه قدر الامكان، خصوصًا بعد أن تمّ تكريسه على اسم الأب الشهيد ليونار ملكي .
والآن، قد يسأل سائل : لماذا على اسم الأب ليونار، وليس على اسم غيره، خصوصًا أنّ عائلة ملكي قد أعطت بعبدات كهنةً ورهبانًا كثر، من أمثال القسّ كاروبيم بن عبد الله سلامه، والقسّ أرسانيوس صبرا الملكي، والخوري نعمة الله الملكي، وكلّهم من خيرة رجال الدين الأبرار، وجلّهم قد نشأ وترعرع وعمل تحت أفياء ال بلوطة مدّة أطول من التي كانت من نصيب الأب ليونار؟ والجواب هو في أنّ هذا الأخير قد تَميَّز عنهم جميعًا بالشهادة، والشهادة في عرف الكنيسة كانت ولم تزل عنوانًا للقداسة، وهل أعظم وأسمى من أن يضحّي الانسان بحياته من أجل دينه وعقيدته؟ لهذا السبب نكرّم الأب ليونار اليوم، ونحتفل بإزاحة الستار عن اللوحة التذكاريّة القائمة هنا أمامكم .
يكون برنامجنا لهذه الأمسية على الشكل التالي :
1- إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية
2- كلمة الفنان انطوان حليم الهاشم، الذي صَمَّم ونحت اللوحة .
3- كلمة السيّد حبيب فارس عويس الملكي، باسم العائلة .
4- عرض مصوَّر عن حياة الشهيد يقدمه المهندس فارس حبيب ملكي .
فأهلاً بكم مرة أخرى .
شرح الفنان أنطوان حليم الهاشم عن منحوتته
إنّ هذا البلاك الذي أُزيح عنه الستار بتاريخ 19/10/2008 يرمز إلى:
- أولاً: الشكل الخارجي. طير روح القدس على اليمين، والسفينة على اليسار، عجيبة سيّدنا يسوع المسيح (السمك).
- ثانيًا: كُتب على هذا البلاك المنحوت " بلوطة الأب ليونار ملكي" وهذا تخليدًا لذكراه، شهيد الإيمان المسيحي حيث كان يصلّي في ظلّ هذه الشجرة.
- ثالثًا: ثلاث سنابل قمح تعني ثلاثة أقانيم، الآب والابن والروح القدس.
كلمة السيّد حبيب ملكي، عميد آل ملكي في بعبدات، بعنوان: حديث سرّي عائلي بين الأهل والبلّوطة والشهيد
بصفتي كبير السنّ في العائلة، كَلَّفني الأهل بأن أحمل إلى بلوطتنا الحزينة باقةَ زهر، من أزاهر الحقول، وكمشة من ذكريات الأزمنة، العابرة في صمت الضباب .
كَلَّفوني بأن أسألَ ترابك، عن نشوة دنان الخمر، الراقصة على أكتاف المعاصر .
كَلَّفوني بأن أسألك، كيف كنت تحتضنين كامل العائلة، بأجنحتك الدافئة، دون عتاب، ودون خصام .
وكَلَّفوني أيضًا بأن أسألك، كيف كان الأجداد يتخاصمون على اقتسام المواسم، وكيف كانوا يتصافحون ويغفرون على ضوء القمر، وكيف كانوا يستطيبون السَّهر على سلامة القطيع .
فقالت بلّوطة الحقول :
والّله وتِلاّه، أنا لم أدرك سرقة، ولم أقتل مخلوقًا، ومن واجبي أن أقول لكم الحقيقة كاملة، حفاظًا على الكرامة الإنسانيّة . أنا عتيقةٌ من عتاق الفصائل المريميّة، أنا مرصدٌ لنجوم الصَّباح، أحلُّ ضيفة دائمة، على قمم الجبال اللبنانيّة، فهناك مَن صدأت قلوبهم، ومنهم مَن ترنَّحت أَرواحهم، ولهذا وذاك، لا يجوز لي بأن أخونَ دمي، ولا أن أبوحَ بأسرارِ قَومي وأهلي؟
فقلتُ :
بوركتِ يا حارسة الأزمنة، ها قد جئناكِ برفقة قريبٍ لنا، وشهيد لمن ثقلت أَحمالهم، هو ليونار البعبداتي الكبّوشيّ، هو الذي عُلِّق مُنكَّس الرأس لساعات، وضُرب بالعصيِّ والسّياط، واقتُلعت أظافر يديه ورجليه، ودُحرجَ على الدرج فأُغمي عليه .
فقال ليونار :
أنا واحدٌ من فصائل الرسل القدماء، وحاملٌ رسالة الخدمة والمحبّة إلى أقاصيَ الأرض . وحامل الرسالة، كما تعرفون أحبائي، لا تصدُّه العواصف، ولا تُخيفه الزلازل .
فقلتُ :
لماذا لم تُبدِّل رأيك، لكي تنجو من الموت، بثمن وفير؟
فقال :
أنا لست تاجرًا لأفعل هذا، أنا إنسانٌ أومن بدحرجة الحجر، وأتوق إلى ملاقات ربّي، فالكلمة تخلد في الوجدان، وتنبت في هياكل المواقف، فهنا نورٌ واحد يخبو في منتصف الطريق، وهناك نجوم كثيرة تَسطعُ في السَّماء، دون حسابٍ، ودون مِنَّةٍ .
وفي عودتي إلى واحة اللقاء وجدتُ نفسي أجالس السَّماء، وأسمع صدى نداءٍ، تَوسَّم غضبًا وتمرّدًا، دفعاني أن أبحث عن نزوح الكلمات . وإذا بالبلّوطة الحزينة ترفض أن تُتَّهم بالصمت، وها هي تصيح واعدة، أين أهلي وأحفادي؟ أين هم رجال المواقف؟ أين هم مسيحيّو لبنان؟ وقد أضرموا الحريق في نفوسهم البريئة، بعد أن استقرَّت في صميميًّتها ألاهيب الحقد، وغزارة المعاني، وجع لن يُمحى من الذاكرة، أحبائي، حيث لا دخان بلا نار، ولا مسيحيّة بدون صليب .
والحقّ الحقّ أقول لكم : تنفستُ الصعداء من على نسمات القمم، وإذا بصوت راعد يشقّ السَّماء، ويرفض التطرّف، ويظهر أنّه صراخ الشهيد، وقد راح يردِّد ما سَجَّله العاقلون، بأنّ أسرار العائلة، أحبّائي، هي كخطيئة الراهبة، يُستحسن أن تبقى في الصدور إلى الأبد .
هنيئًا لك شهيدنا، فقد استُشهدتَ في سبيل الكلمة، كي لا تكون شاهدًا على إذلال المسيح، وعلى إذلال الوطن أيضًا، وفهمكم كفاية، إخوتي أحبّائي .
والسَّلام عليكم إخوتي وأحبّائي.