1- الثلاثاء 1 حزيران: زيارة المطران إغناطيوس مالويان الوداعيّة إلى المطران تبوني
مضى شهر أيار يتخلّله إنذارات عديدة من وقوع أمور رهيبة بحقّ المسيحيين. كان المطران مالويان غير مرتاح البال، ينتابه قلق كبير، وحزن عميق. لذلك، قرّر القيام بزيارة إلى أخيه المطران تبوني، يشاركه فيها هواجسه، ويسلّمه وصيّته، مدركًا أنّها ستكون زيارته الأخيرة له. ننقل عن القسّ اسحق أرمله ما جرى في هذا اللقاء الوداعي المؤثّر:
“صباح الثلاثاء بدء حزيران، شَخَصَ [المطران مالويان] إلى كنيسة السريان ليزور صديقه الحميم السيّد جبرائيل تبوني، فاستدعى الآباء الدومينيكيين الموجودين لديه، وبثّهم لواعج حبّه، وكاشفهم بمكنونات صدره، وبعد أن أفاض في الحديث، وصرّح لهم بما يخامر فؤاده الحنون من الأشجان، عرض على السيّد جبرائيل شؤون مَن يتبقى في قيد الحياة من جماعته المحبوبة، ثمّ نشر رسالته الأخيرة، وتلاها بحضورهم، ثمّ طواها ودفعها إلى صديقه يقول: “صن هذه الوديعة لديك، احتفظ برعيتي بقدر طاقتك، أنت المفوّض في شؤونها من بعدي ريثما يرى الرؤساء تدبيرًا آخر، على إنّي متحقق أن قد حضر الزمان لارتحالي من هذه الدنيا الغرور”.
فجعل المطران جبرائيل والآباء الثلاثة يشجعونه ويسلونه ويعللونه بالنجاة. غير أنّ الحبر المغبوط ما تمالك أن قال لهم: “إنّي عارف حقّ المعرفة أن سيُحكم عليّ وعلى رعيّتي العزيزة بالعذاب والموت… إنّي منتظر إلقاء القبض عليّ وعليهم من يوم إلى يوم… لا بدّ لنا من ذلك… جئت إذن اليوم أودعكم وأستودعكم الله… صلّوا لأجلي… في ظنّي هذه آخر مرّة أشاهدكم… الوداع أيّها الأحبّاء، الوداع”.
وعند ذاك لعجت الأحزان فؤاد الحضور، وأصلت ضلوعهم، وتساقطت الدموع على خدودهم. قال لهم الحبر الجليل: “إنّما أبقانا الله تعالى لمثل هذا اليوم، وهو القادر أن يعضدنا ويسلحنا بخوذة الغلبة”. وبعد هذا كلّه، عاد الزائر العزيز إلى مركزه، وخلّف في قلب المطران والآباء تذكارًا طيّبًا جميلاً يبدونه ويعيدونه ما داموا في قيد الحياة.” 1
2- الخميس 3 حزيران: عيد خميس الجسد، إلقاء القبض على المطران مالويان
دقّت ساعة الاستشهاد في 3 حزيران، الموافق عيد خميس الجسد. في ذلك اليوم، أُلقي القبض على المطران مالويان وكهنته وأعيان الأرمن في ماردين. ننقل وقائع ذلك النهار عن شهود عيان:
• في يوم خميس الجسد، اعتُقل المطران مالويان وكهنته، بعد الفراغ من الزياح في الكنيسة، وزجّوهم في السجن. 2
• لَـمّــا عرف المطران مالويان أنّ ساعة توقيفه أتت، جاء لمقابلة المطران تبوني، وسَلَّمه وصيّته، وعهد إليه الاعتناء بأبناء رعيّته، وأعرب عن استعداده لبذل حياته في سبيل المسيح. كانت جلسة الوداع مؤثّرة للغاية، وأدرك الأسقفان بأنّ طريق الشهادة أمام المطران مالويان أصبحت سالكة. 3
• كان يوم 3 حزيران سنة 1915 يومًا مشؤومًا عند أهل ماردين المسيحيين، الذي كان مصادفًا خميس العهد. 4 فاحتُفل صباحًا بهذا العيد بهدوء وسكينة، وقلوبهم منكسرة من هذه المضايقات. وكان وصل لسماعهم عن جمع أرمن ديار بكر وإرسالهم إلى الموصل، عن طريق نهر الدجلة، بحماية وحراسة قويّة. والأصحّ أنّهم أُفنوا وقُتلوا عن بكرة أبيهم.
مضى الجزء الأوّل من ذلك اليوم والمدينة بهدوء وسكون، وعلى الوجوه شارات الحزن والأسى. وكلّ يفتكر بمصير عياله إذا بقيت الحرب قائمة. وما إن حانت الساعة 8 المشؤومة، وملك الموت المستتر بجسد ممدوح بك، سربوليس 5 الولاية، قدم إلى ماردين.
وكان عندنا بالبيت بذلك النهار، دعوة للغداء بعض كبار رجال الحكومة المحليّة. وبينما هم على المائدة، تكلّم أحدهم، المدعو نجيب أفندي أمين الدين أفندي زاده، وهو إنسان بقلب إبليس، على ما يشهد كلّ من يلقي إلى وجهه النظرة الأولى، وقال إنّ ممدوح بك رأيته قادمًا من ديار بكر ونزل توًّا بدار الحكومة. ما عسى ذلك؟ فأقول، إن لم تكن تلك غلطة ارتكبها وفاه بها سهوًا، فإنّ المذكور كان عالمًا عن قدوم ممدوح بك قبل طلوعه من ديار بكر، وسيكون له شريكًا بالأعمال التي سينفّذها بمن يأكل على مائدتهم.
بعد ما أكلوا وشبعوا وانصرفوا، وكان قد اعتادوا أن يلاقوا منّا مثل هذه الضيافات عدّة مرّات، كما كنّا نلاقيها منهم، إلاّ إنّ ضيافتنا لهم كانت بآخر يوم من وجود عائلتنا على مائدة واحدة. وعند انصرافهم، طلع أخي الكبير الياس ليودّعهم إلى رأس الشارع، وإذ قد عاد وعلى وجهه علامات الحزن لما لاقاه بالطريق، وهو أنّ السيّد اغناطيوس مالويان، رئيس أساقفة الأرمن الكاثوليك بماردين، محاط بعدد غير قليل من الجند والشرطة. والمعروف أنّ الأسقف يذهب للسراي راكبًا حصانًا، فَلِمَ الذهاب على هذا الشكل؟ وقد اهتزّت المدينة بهذا الحادث الفجائي. وكيفيّة ذلك هو:
ذهب أحد رجال الشرطة لدار الأسقفيّة، وبلّغ الأسقف الموقّر أنّ المتصرّف يطلبه. فقال للشرطي: سأحضر. لكنّ الشرطي رفض إلاّ أن يأخذه معه. فطلب أن يحضر له حصانه الذي كان يركبه عند ذهابه لمكان ما، فمنعه الشرطي: يجب أن ترافقني على الأقدام…
قام ذاك الشهيد البطل وأمله أن يرجع ولكن… إنّي أرى قلمي يقاومني على تسطير هذه الكلمات. وما الفائدة، فإنّ ذلك المطلوب لم يكن مطلوبًا ليرجع، بل ليقترب من أجَله، ومشاهدة خالقه بانتهاء حياته، مقدّمًا دمه فداءً عن الدين المسيحي، الذي به وُلد، وبه يمكن الوصول إلى الحياة الأبديّة.
إبتدأ بخطوات ولم يعلم سبب الدعوة بهذا الشكل، الذي لم يسبق له مثيل بيوم عيد هكذا. وكلّما شاهده أحد المسيحيين بهذه المرافقة يستغربها، ولا يعلم أنّ ذلك المستغرب سيُقاد غدًا، وسيكون رفيقًا لهذا الراعي الصالح، إلى أن وصل دار الحكومة. أُدخل إحدى غرف السجن، ومُنع من مقابلة أي شخص. 6
وكان الرهبان الإفراميون السريان يواصلون صلواتهم، ويطلبون من ربّ العالمين، الرحمة على المسيحيين. وما أن بلغهم خبر إلقاء القبض على المطران مالويان، حتّى هرع الأب الرئيس والرهبان كافة إلى الكنيسة، يتضرّعون ساجدين، طالبين العون والرحمة، ويتلون المزامير والصلوات، بخاصّة صلاة الورديّة المحبوبة عند المردينيين. وعند المساء، أقاموا صلاة درب الصليب، وأعدّوا نفوسهم لكلّ ما تريده مشيئة الربّ لهم.
3- الجمعة 4 حزيران: إلقاء القبض على عدد كبير من المسيحيين
كان مسيحيّو ماردين يقضون الليالي مذعورين. أُعطيت الأوامر إلى الشرطة لإلقاء القبض على كلّ من يُصادف مروره في الشارع. هكذا تمّ تجميع الشباب والرجال والكهنة لينضمّوا إلى السجناء الآخرين، وليستقبلوهم بالفَلَق واللكمات، ونتف اللحية، وكلّ أنواع العذابات. وصل عدد المعتقلين إلى حوالي خمس مئة، زُجّوا في قلعة ماردين. وكان يُعرض عليهم نكران إيمانهم المسيحي وإشهار الإسلام، لكنّهم رفضوا كلّهم.
اعتُقل أيضًا بعض الرعايا السريان الأرثوذكس، ولكن أُطلق سراحهم كلّهم. وبقي في السجن عدد كبير من الأرمن مع آخرين من السريان الكاثوليك والبروتستانت تعرّضوا لأبشع أنواع العذابات، تحت ذريعة كاذبة بأنّهم يخفون أسلحة ومدافع.
يقدّر الأب ياسنت سيمون عددهم بـ 395 سجينًا: زهاء عشرة كهنة، 226 أرمني كاثوليكي، 112 سرياني كاثوليكي، 30 كلداني، 27 بروتستانتي. 7 أُضيف إليهم آخرون ليصبح عددهم 405 حين غادروا ماردين باتجاه ديار بكر حيث سيُقتلون على الطريق. 8 لكنّ شهودًا آخرين، ومراجع أُخرى، في هذا الموقع، يرفعون عددهم إلى 417، وهو العدد المعتمد لدينا.
يُكمل الأب سيمون ويقول: كان على السجناء، إذًا، أن يتهيّأوا للتضحية الكبرى، وقد تحضّروا لها بما لستُ أعرفُه من شجاعة في القلب ناتجة من الترافق في الضيق، وبما لستُ أعرفُه من سماويّ على الجبين يجلبُه صفاءُ الضمير. كانوا كثيرين… وجميعهم، في ما عدا بعض البروتستنتيين، من الكاثوليك. 9
أمّا العائلات الأخرى التي لم يتمّ القبض عليها بعد فكانت قلقة لأنّها، ما أن عرفَت بخبر إلقاء القبض على الأسقف، يقول جبرايل بدروس، أحد شهود دعوى المطران مالويان، حتّى شعرَت باقتراب ساعة الربّ، وبدأت تعدّ العدّة لملاقاته، مثل العذارى الحكيمات في الإنجيل، وأذكر منهم عائلتين هما: بيت جينانجي، وبيت كسبو. 10
4- السبت 5 حزيران: اعتقال الأب ليونار البعبداتي الكبّوشي
هكذا تمّ اعتقال الأب ليونار في ديره في ماردين، نقلاً عن رواية القسّ اسحق أرملة :
” وواصل الجنود شغلهم يوم السبت أيضًا، فجمعوا زهاء مائتي شخص في دار الراهبات الفرنسيسيات حتّى إذا كان الغسق استاقوهم جميعًا، اثنين اثنين، إلى السجن، وكدّسوهم فوق بعضهم.
وفي اليوم ذاته، هجموا على كنيسة الكبّوشيين، وصادفوا دفترًا تضمّن أسماء المشتركين في أخويّة مار فرنسيس، وكان عنوانه “أخويّة مار فرنسيس” ففهموا بفرنسيس فرنسا، وادّعوا أنّها جمعيّة فرنساويّة. ما أشطرهم؟ بل ما أخبث قلبهم. فاحتدموا غيظًا على رئيسها الأب ليونار النبيل، وقالوا له: “أأنتَ إمام الجمعيّة الفرنساويّة ههنا؟ إنهض عاجلاً واتبعنا.” فقام من ساعته وتبعهم.” 11
5- المطران مالويان في السراي الحكومي
بعد إلقاء القبض عليه، أمضى المطران مالويان ليلته الأولى في الحبس حيث كان يخضع للتحقيقات المضنية، والعذابات الشرسة. نورد فيما يلي، رواية القسّ أرمله عن التحقيق الصوريّ الذي تمّ مع المطران، والاتهامات الباطلة بحقّه، وهي شبيهة بما جرى مع الأب ليونار وباقي السجناء:
” …وأرسلوا في استدعاء السيّد اغناطيوس، رئيس أساقفة الأرمن، إلى المحكمة. فقام من ساعته وتبع الجنود. ولَمّا دخل الردهة، ألفى الهيئة مستوين على الكراسي، يتجهمونه، ويزلقونه بأبصارهم [ينظرون إليه نظرة حادّة]، ولم يمكنوه من الجلوس كأمس وما قبل، فتحققت لديه الخيانة والدسيسة، وأطرق ساكتًا لا ينطق حرفًا، ولا يرفع طرفًا. فبدأوا يناقشونه ويطارحونه الأسئلة في أمر البواريد والمدافع والأسلحة المزعومة، وأوردوا له الأسانيد [ما استندوا إليه] التي اعتمدوا عليها تأييدًا لما توهموا. فأنكر عليهم الحبر الجليل مقالتهم بتاتًا، وقال لهم: “إنّ ما بلغكم عنّي وعن جماعتي إفك [كذب] محض، فإن صدقتموه واعتقدتموه فينا فما جرى على غيرنا يجري علينا، وإلاّ فعلى ما يلوح لي أنّكم تريدون لنا السوء عن غير علّة، ذلك لمن أعجب الأمور وأغربها.”
فألحّوا على المطران باستخراج المدافع وتسليمها لهم، فقال: “قلتُ وأقول، هوذا الكنيسة ودار المطرنة وغرف الكهنة ودُور وجهاء الطائفة، فتّشوا ودقّقوا ما استطعتم، عمّقوا وحقّقوا جهدكم، فإذا عثرتم فيها على شيء مما ادعيتم فلكم أن تنزلوا بي وبجماعتي وبكلّ مَن ينتمي إليّ أغلظ النكال، وأفظع العذاب، وإلاّ فما بالكم تتقولون الأباطيل، وتناقضون الحقّ اليقين، حال كونكم لا تجدون لنا جرمًا ولا ذنبًا كبيرًا أو صغيرًا.”
وما أتمّ المطران الشجاع كلامه حتّى فار فائر الحضور، ونبض عرق الغضب بين عينيهم، وطفقوا يضجّون ويصفّرون ويقولون: “بل عندك أسلحة تحاول أن تناصب الحكومة وتقاتلها، ولكن تريّث فسترى عقابك وعقاب جماعتك تجاه عينك”. قال لهم المطران الباسل: “دعواكم هذه فرية بلا مرية [كذبة لا يصدقها أحد]، فإنّي لم أخالف الدولة في شيء البتة بل دافعتُ وأدافع عن حقوقها سرًّا وجهرة، وأحامي عن صوالحها قدر الطاقة لأنّي منتم إليها، وقد حصلتُ على الفرمان الشاهاني والنوط العثماني من فضلها.”
قال له ممدوح: “أعلم يا هذا أنّك طبقًا لشهادة سركيس ابن طائفتك قد استحضرتَ صندوقَي أسلحة إلى كنيستك.” ثمّ أخرج مضبطة من جيبه، ونشرها يقرأ فيها أنّ سركيس أحضر الصندوقَين إلى غرفة المطران إذ كان الوجهاء والأعيان حاضرين، فتناولوهما شاكرين لسركيس، مثنيين على همّته… فدُهش الحبر النبيل، وتعجّب، وقال للحضور: “عليّ بسركيس وإلاّ فالمضبطة مزورة وتقولاتكم مرجمة.” أمّا هم فأعاروا لمحاماته عن نفسه وعن طائفته أذنًا صمّا إذ كانوا قد سبقوا ففتكوا بسركيس. وجعلوا يتبصرون في تضاعيف جوابه علّهم يصيبون منه فلتة أو هفوة للتمثيل به.
فقال له خليل أديب، وكيل المتصرّف: “أعلم أنّه لَمّا وافى إليك سركيس بالأسلحة وجد في غرفتك زعماء طائفتك الخونة كنعوم جنانجي، واسكندر آدم، وانطون كسبو، وأخيك مالي، فاستلمتم منه الصندوقَين، ودفع له كلّ منكم ليرتين. فما لك إذًا تخلط في الكلام، وتخفي عنّا الحقيقة.”
قال المطران البارّ: “يا للغرابة، قلتُ وأقول لكم أنّكم لفي غرور، فإنّ هذه الدعوى ملوية معمسة [غامضة] لا أصل لها البتة”…
… وما أبطأ ممدوح أن نهض من كرسيه، وشمّر لضربه، فقال للجنود الواقفين: اسطحوه. فسطحوه للحال في صحن القاعة، فتناول المخصرة [العصا أو القضيب] ليصفعه. فقال له المطران البطل: “مكانك يا رجل، لا تتعدّ طورك، فإنّه لا حقّ لك أن تجري معاملة كذا اعتدائيّة بمن استعرفته الدولة العلية بمثابة أحد الايمة، وأنعمَتْ عليه بنوط الشرف والفرمان.” قال ممدوح مستهزئًا: “السيف يسدّ اليوم مسدّ الدولة، وفرمانك لا يغني فتيلاً، ونوطك لا ينفع شيئًا.”
فقاطعه أحد الحضور، وقال للمطران: “لا بدّ من التنكيل بك وبجماعتك، فإنّ ما أبديتَ من الحجج باطل لا سند له، بيد إنّي، دلالة على محبّتي لك، وشفقة على حالك، أبذل لك نصيحة، إن عملتَ بها نجَوت من الموت، وبقيت معززًا مكرّمًا محترمًا في أعين جميعنا، وإنّ تلك النصيحة إلاّ المجاهرة بالاسلاميّة والمناداة بالهَــيْــلَــلَــة” [لا إله إلاّ الله].
قال المطران برباطة جأش: ” الإسلامية؟ كلاّ، معاذ الله أن أهجر ديني، هيهات هيهات أن أجحد مخلّصي، أنّى يُتاح لي ذلك، أنا الذي ربيت في حجر البيعة الكاثوليكيّة المقدّسة، ورضعتُ أفاويق [لبن الناقة] تعاليمها الصافية، وتضلعتُ من حقائقها الراهنة حتّى غدوتُ، دون استحقاق، أحد رعاتها. إنّي أحسب سفك دمي في سبيل إيماني أشهى شيء لقلبي، لأنّي عارف حقّ المعرفة أنّي، إذا عُذّبتُ حبًّا لمن مات لأجلي، غدوتُ من السعداء المغبوطين، وفزتُ برؤية ربّي وإلهي في عليين. فما لكم إذن إلاّ أن توسعوني ضربًا، وتعملوا فيّ الخناجر والسيوف والبنادق، وتقطعوني إربًا إربًا، فإنّي لن أجحد ديني أصلاً وقطعًا.”
فما كان من القوم إلاّ أن ضجّوا واشمعطوا [امتلأوا غضبًا] وحولقوا وتشهدوا وحملقوا في الراعي أبصارهم، وأطبق أحدهم كفّه ولطمه قائلاً: “أهكذا تستحقر ديننا في المكان الرسمي، والله إنّي لأعذبنّك أشدّ العذاب، وأذيقنّك الموت الزؤام.” ثمّ ضربه ممدوح ضربات معدودة، وأمر الجنود أن يذهبوا به إلى مكان الضرب والعذاب. فكأنّ المطران تنهّد عند ذاك وقال: “إنّي أُكابد في جسدي عذاب الضرب الأليم، وأمّا في نفسي فإنّي أحتمل ذلك مسرورًا” (2 مكابيين 6 : 30).
وعند الليل، أقبل نوري بن زلفو البدليسي، في الهيئة المذكورة آنفًا إلى حيث كان الحبر الوديع، فسدحه [ألقاه بطحًا على الوجه أو على الظهر] على الأرض، وألقى العقلة في قدميه، وضربه اثنتي عشرة ضربة. كان الحبر، عند كلّ ضربة، يصيح بأعلى صوته ويقول: “يا ربّ ارحمني”. ثمّ أمروه أن ينهض ويذهب إلى المحلّ المعيّن له. لكنّ الراعي، لوهن قوّته، لم يستطع إلى المسير سبيلاً، فسحبه أولئك الأوغاد من قدميه على الحضيض سحبًا عنيفًا، فترضضت هامته المباركة، وانخلعت أعضاؤه المقدّسة، فنادى يقول: “مَن يسمع صوتي فليعطني الحلّة الأخيرة”. فسمعه القسّ بولس سنيور، وكان بالقرب من الشباك التحتاني، وتلا على المطران صورة الحلّة.
أمّا الخبثاء، فتركوا المطران ملقى على الأرض جثّة هامدة، وراحوا يستحضرون آلات العذاب، ثمّ سارعوا إليه، فجلفوا أظفاره عن أصابع رجليه، وأشفقوا [سَتَروا] على يديه لئلا يراهما أحد. وظلّ على تلك الصورة، من صباح رابع حزيران إلى العاشر منه، يؤلمه أصحاب الذمّة والمروءة والشفقة ويعذبونه. وكان يرى أبناء جماعته معذبين، ويسمع نحيبهم وعويلهم، فيبعث في أفئدتهم روح البسالة والشجاعة، وينشطهم ليقتحموا الأخطار، ويجودوا بالحياة القصيرة أسوة بمن ضحى لأجلهم بحياته الثمينة على خشبة العار…
وما برح المطران الغيور يقضي ليالي السود في السجن، باسطًا ذراعيه، ورافعًا عينيه إلى السماء، يصلّي ويبتهل إلى الله ليخوّله الفوة والعضد له ولجماعته كأنّه سبستيانس [القدّيس سيباستيان] البطل…
ومما يفطر القلب، ويجرح الفؤاد، أنّ والدة هذا الحبر العجوز البائسة كانت تروم أن تشاهده فلا يتيسر لها. غير أنّه، ليلة استياقه مع جماعته، أرسل في طلبها، بعد استئذان الطغاة. فحادثها بكلام دُبّج بالعذوبة والرقّة، وقال: “يا أمّاه، تيقني أنّ الله ربّي ومخلّصي لمثل هذا اليوم استبقاني. فبحقّي عليكِ، لا تحزني ولا تبتئسي. لا تخشي ولا تكتئبي. إعلمي أنّي غدًا قبل الفجر أسير مع جماعتي على طريق ديار بكر، ولستُ أدري ما سيحلّ بي وبهم. غير أنّي مستعد، بمعونة ربّي، أن أبوء بدمي حبًّا لمن فداني. فهلمّي الآن أودعك. صلّي لأجلي، وعودي إلى بيتك بسلام. أوصيك أن تبذلي النصح والإرشاد لجميع آلي، ليقتفوا خطواتي، فيثبتوا راسخين في إيمانهم، ولا يخافوا هجمات العتاة، ولا يكترثوا لوعد الأعداء ووعيدهم.”
وعند ذاك، اغرورقت عينا الأمّ وابنها معًا بالدموع السخينة [الحارّة]، وتوادعا بحزن وكآبة، وعند عودتها أوصاها أن ترسل إليه حالاً حذاءً واسعًا ليقوى على المسير. ولم يستحسن أن يوضح لها أنّ الورم قد أثر في قدميه لسبب الضرب الشديد لئلا يزيد قلب الأم المًا ووجعًا.” 12
6- محاولة رشوة وإفساد
أراد ممدوح الحصول من الأرمن، عنوة وبأيّ وسيلة، على الإقرار بمخالفة القانون. فكان يستجوب الوجهاء، لجعلهم يعترفون بوجود مخازن أسلحة في ماردين، ويضربهم على باطن الأقدام حتّى الإغماء، فيما هذه مرفوعة في الهواء بواسطة الحبال. وكان تفريغ وعاء من الماء البارد على رؤوسهم كافيًا لإعادة الوعي إليهم قبل متابعة القرع بالعصا. وكان الدم يجري، وهي الإشارة المنتظَرة، فيتوقّف الضرب. وعندها يُنقل السجين، نصف ميت، إلى زنزانته. 13
وفي السادس من حزيران، تمّ استدعاء ستة أشخاص من المسجونين، وهم: صامو الاخوة الستة، وصامو حنجو، وصامو مرشو، وإبري جرما، وحنا عامون، إلى غرفة خاصّة، حيث كان ينتظرهم ممدوح الظالم وأشراف البلدة، مثل خضر جلبي كوملي، وفؤاد كرجيه، ونوري الأنصاري، وما أشبه ذلك.
وما أن وصلوا حتّى قام ممدوح وفكّ أيديهم المربوطة بالسلاسل الحديديّة، وأجلسهم على الكراسي، وقال لهم: “نعدكم بالله والحكومة، حتّى تكونوا أنتم مع عيالكم صغارًا وكبارًا في بيوتكم سالمين. أطلب منكم أن تشهدوا على مالويان أنّه أتته قوى حربيّة وهي مترلّوز [mitrailleuse] وبواريد ومفرقعات، حتّى يقوم فورًا ويقاوم الحكومة. نعدكم مرّة ثانية بشرف الله والحكومة وشرفنا: نخلّي سجنكم وتكونون سالمين مع عيالكم أحرارًا. وإن لم تؤدّوا ما قلنا سأنزل بكم أشدّ العذاب”. أجاب الشهود بصوت واحد قائلين: “نقبل أشدّ العذاب ولا نشهد شهادة مزوّرة، لأنّ الربّ يمنع الزور. نقبل الموت ولا نشهد شهادة مزوّرة بغير حقّ”.
لكنّ ممدوح العنيد أعاد الكلام، و معه طاهر الأنصاري، فقالا: “نقول لكم، نعدكم باسم الحكومة، وبشرف الله وشرف الحاضرين، سأعفي عنكم وتكونون في بيوتكم أحرارًا”. أجاب الشهود مرّة ثانية قائلين: “قلنا ونقول: ليس لنا علم بذلك”.
بعد رفض السجناء الانصياع إلى تهديداتهم، خاب أمل الظالمين، فأنزلوا السجناء إلى غرفة العذاب، وسلّموهم إلى الجنود ليعذبوهم أشدّ العذاب، بدون رحمة وشفقة، وهكذا صار… 14
1 اسحق أرملة ، القصارى في نكبات النصارى، ص. 161162.
2 راجع أقوال الشاهدة فريدة منغالو غندوره.
3 راجع أقوال الشاهد المطران جوزف ربّاني.
4 خميس العهد هو خميس الأسرار الواقع في أسبوع الآلام قبل الجمعة العظيمة. لكنّ إلقاء القبض على المطران تمّ يوم خميس الجسد. اختلط الأمر على الراوي ابراهيم كسبو ذو الثقافة المسيحيّة البسيطة.
5 أي رئيس البوليس.
6 إبراهيم كسبو، مقطع 18-21 ، 23.
7 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 45-46.
8 المرجع نفسه، ص. 55.
9 المرجع نفسه، ص. 45.
10 راجع أقوال الشاهد جبرايل أنطون بدروس.
11 اسحق أرملة ، القصارى في نكبات النصارى، ص. 164.
12 المرجع نفسه، ص. 172-178.
13 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 49.
14 عبدو بِزر، ذكريات عن ماردين.