مروان أبو ديوان
١٤ كانون الأوّل ٢٠٢٠
في أحد الأيّام المشمسة من شهر تموز/ يوليو 2014، وأثناء زيارتي لمدينة إسطنبول في تركيا، ذهبت إلى دير الكبّوشيين في سان ستيفانو، في منطقة يشلكوي، برفقة صديقتي جيهان بشعلاني أبو ديوان التي كانت تزور المدينة.
وصل ليونار وتوما إلى هذا الدير الذي كان مركزًا لتنشئة طَلَبة رهبنة الإخوة الأصاغر الكبّوشيين في نيسان /أبريل 1895 لقضاء 6 سنوات من الدراسة بالإضافة إلى سنة الابتداء. وكانا من المجموعة الأولى من البعبداتيين الذين قُبلوا فيه.
يشلكوي، وتعني باللغة التركية "القرية الخضراء"، كانت تُعرف باسم سان ستيفانو (آياستيفانوس باللغة اليونانيّة)، وذلك حتّى العام ١٩٢٦، وهي تقع ضمن مديرية باقركوي، الواقعة على بحر مرمرة، على بعد حوالي 11 كيلومتراً من مركز المدينة التاريخي.
يعود اسم سان ستيفانو إلى القرن الثالث عشر. جاء في التقليد بأنّ السفينة التي كانت تحمل رفات القدّيس استفانس من القسطنطينية إلى روما، اضطرّت إلى الرسو على هذا الشاطئ، هربًا من عاصفة عاتية، حيث حُفظت رفات القدّيس داخل الكنيسة حتّى هدوء العاصفة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الكنيسة والمنطقة تحملان اسم الشهيد الأوّل في الكنيسة.
يوجد في يشلكوي ثلاث كنائس كُرّست لتكريم مرور رفات القديس استفانس: كنيسة أرثوذكسية، وكنيسة أرمنية، وكنيسة كاثوليكية ملحق ة بالدير الذي كان يضمّ الإكليريكية الصغرى التي التحق بها الشهيدان المستقبليان لمتابعة دراستهما.
لدى وصولنا إلى الدير توجّهنا إلى متجر الهدايا التذكارية، وطلبنا مقابلة الأب الرئيس. وكان الإعلان عن زيارتنا قد تولاه مسبقًا كاهن رعيّة بازيليك مار أنطونيوس البادوي الصغرى في شارع الاستقلال، حيث كانت جوقة بعبدات خدمت قداسًا في شهر أيار/مايو من العام نفسه.
استقبلنا الأب الرئيس غريغوريو سالمونللي، مرحّبًا بنا ترحيبًا حارًّا، وهو الراهب الوحيد المقيم في الدير. وما ان انتهينا من شرح الغرض من زيارتنا، حتّى بدأ يخبرنا عن زمن المرسلين البعبداتيين. أخرج كتابًا يحتفظ به بعناية فائقة، وبدأ يعرض أمامنا محتوياته، من صور ونصوص تعود إلى الحقبة التي كان فيها المرسلان يقيمان في الدير ...
ثمّ تقدّم أمامنا متوجّهًا إلى الشرفة، وبدأ يصف لنا المشهد الحياتي اليومي في ذلك الوقت قائلاً: "كان الرهبان يعتاشون من صيد السمك"... وأضاف: "كانت الأمواج تتكسر تحت أقدام الدير، وكان بالإمكان الوصول إليه بالقارب ".
عدنا إلى الداخل. وجال فينا الأب غريغوريو في أرجاء الدير، شارحًا لنا عن كلّ زاوية فيه، ومؤكّدًا أنّ المكان لم يخضع لأيّ تغيير، منذ الفترة التي أقام فيه المرسلان البعبداتيان، باستثناء الحمامات. حتّى الحديقة الموجودة في الباحة الداخلية بقيت كما هي، وأطلّينا عليها من نوافذ الرواق. وأوضح لنا أنّ "اللوحات المعلقة على الجدران بقيت أيضًا كما هي ...".
كان الطلاب يقيمون في الطوابق العليا بينما يقيم الرهبان في الطابق الأرضي. وكان على الطلاب المرور كلّ يوم أمام الجدران المكسوة بلوحات القدّيسين للوصول إلى الكابيلا في الطابق نفسه أو إلى كنيسة الدير، للمشاركة في صلاة الساعات، أو لحضور الفصول الدراسية أو لمساعدة إخوانهم في الأعمال اليومية. رحنا ننتقل من حجرة إلى أخرى علَّ أعيننا تقع على علامة ما تشير إلى مرور ليونار أو توما. لا بدّ أنهما كانا يتوقّفان لبرهة أمام صورة العذراء حاملة الطفل يسوع، وصورة المسيح المصلوب، وصورة القدّيس فرنسيس أو شفيع الدير، ليُخرجا تنهيدة عميقة ممزوجة بتضرّع إلى المؤسّس قائلين: "يا ربّ، ماذا تريدني أن أفعل!" هل كانا يدركان أنّ محبّتهما للمسيح ستقودهما، على غرار القدّيس استفانس، إلى البقاء أوفياء لإيمانهما حتى الدَّم، وبذل حياتهما من أجل أحبّائهما!؟
أمّا كنيسة الدير فلا تزال تحافظ على طابعها الأوّلي، لأنّ السلطات المدنية في البلاد تمتنع عن منح أي رخصة خاصّة بأعمال الترميم. وحده المذبح تمّ تحويل اتجاهه ليتمكن الكاهن المحتفل من الوقوف بمواجهة المؤمنين. ويقول الأب سالمونللي: "إنّ الدعوات الرهبانيّة باتت نادرة في تركيا، والشرق يفرغ من طوائفه المسيحية بسبب الانقسامات بين الطوائف المسيحية نفسها، بالإضافة إلى كلّ الأحداث المأساوية التي يشهدها ... لم تعد الإكليريكية تستقبل طلاب الرهبنة، لأنّ الدولة لم تمنحنا الترخيص الخاصّ بذلك، ولهذا السبب نرسلهم مباشرة إلى روما. في الواقع، يقرّر عدد قليل من الشباب اعتناق الحياة الرهبانية، والكثير منهم يتراجعون عن قرارهم بمجرد وصولهم إلى أوروبا... ". أمّا بالنسبة إلى الرعيّة، فيشير إلى أنّ "عدد المؤمنين يتناقص، لا سيما أنّ الشبان المسيحيين يغادرون البلاد فور انتهاء دراستهم".
على الرغم من هذه الكلمات المحبطة إلى حدّ ما، فقد غادرنا المكان وقلوبنا مفعمة بالفرح لكوننا نلنا نعمة زيارة هذا المكان المقدّس حيث عاش أخوانا البعبداتيان، وقد وضعنا حياتنا بين يدي الربّ، وكذلك مستقبل الكنيسة، ولا سيما كنيسة المشرق، ونحن نسأله أن يرشدنا، حتى تتم مشيئته هنا والآن.
كانت زيارتنا بمثابة رحلة حج على خطى ليونار وتوما، على أمل أن نتمكّن يومًا ما من إتمامها انطلاقًا من بعبدات، مرورًا بإكليريكية سان ستيفانو الصغرى، وإكليريكية بودجا الكبرى، وماردين، وأورفا، ودياربكر ... وصولاً إلى الصحراء حيث قُتل ليونار، خارج ماردين، وإلى مرعش حيث استودع توما روحه بين يديّ المخلّص.