عُقد في المركز الكاثوليكي للإعلام في جل الديب (لبنان)، يوم الأربعاء الواقع فيه ٨ كانون الأوّل ٢٠٢١، مؤتمر صحفي للإعلان الرسمي عن تطويب الأبوَين البعبداتيين الكبّوشيين: ليونار عويس ملكي وتوما صالح، الذي سيجري في ٤ حزيران ٢٠٢٢، في دير الصليب في بقنّايا (لبنان).
شارك في المؤتمر، المطران انطوان نبيل العنداري، رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام؛ والمطران جوزف سبيتيري، السفير البابوي في لبنان؛ والمطران سيزار إسّيان، النائب الرسولي على اللاتين في لبنان؛ والأب عبد الله نفيلي، الرئيس العام للرهبنة الكبّوشيّة في لبنان؛ والأب مخايل مغامس الكبّوشي؛ والخوري عبده أبو كسم، مدير المركز. وحضره المونسينيور جوزبي فرانكون؛ والأب أنطوان عطالله، المسؤول عن الإعلام في أبرشيّة جبيل المارونيّة؛ والآباء الكبّوشيّون: شارل سلهب، بطرس وردة، فادي بشارة سركيس، إيلي رحمة، ريمون ندّاف، الياس سعود؛ وعدد من الإعلاميّين والمهتمّين.
جلس المؤتمرون أمام صورة كبيرة للأبوين كُتب عليها: أبونا توما الكبّوشي - أبونا ليونار الكبّوشي.
وفيما يلي الكلمات التي تُليت في المناسبة. وباستطاعة القارئ متابعة ما جرى بالفيديو على
قناة اليوتيوب الخاصّة بالموقع .
المطران العنداري
بدأ المطران عنداري كلامه مرحبًا بالحضور وعارضًا برنامج المؤتمر وقال:
بقلب مفعم بالفرح والرّجاء، يطيب لنا في هذه الأيّام العصيبة، باسم اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام والمركز الكاثوليكيّ التّابع لها، أن نرحّب بكم في هذا المؤتمر الصّحافيّ حول الإعلان عن تطويب الأبوين الكبّوشيّين الشّهيدين: يوسف عويس ملكي المعروف بالأب ليونار، وجريس أبي حنّا طنّوس صالح المعروف بالأب توما صالح، وكلاهما من بلدة بعبدات المتنيّة.
وسيعلن سعادة السّفير البابويّ الوثيقة الحبريّة حول موعد الاحتفال بالتّطويب، ويليه سيادة المطران سيزار بالكلام عن أهمّيّة حدث التّطويب على مستوى الكنيسة، وبالتّحديد على مستوى كنسيّة لبنان. أمّا الأب مغامس فيقدّم لنا نبذة عن حياة الأبوَين الشّهيدَين، ويضعنا الأب النّفيلي في أجواء برنامج الاحتفالات بهذه المناسبة.
قال لنا البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، في الإرشاد الرّسوليّ «رجاء جديد للبنان»، لا يمكننا أن ننسى أنّ لبنان مهد ثقافة عريقة، وإحدى منارات البحر الأبيض المتوسّط، دعوته أن يكون نورًا لشعوب المنطقة، وعلامة للسّلام الآتي من الله.
أجل، إنّ أرض لبنان هي أرض قداسة، الجبل السّعيد، ووطن القدّيسين، بالرّغم من العواصف والمخاطر المحدقة به. من شربل، ونعمة الله، ورفقا، والأخ إسطفان، وأبونا يعقوب، إلى المكرّمَين البطريرك الدّويهيّ والحويّك، وصولاً إلى ليونار ملكي وتوما صالح، شجرة القداسة تنمو. هكذا شبّه صاحبُ المزامير سلسلة المكرّمين والطّوباويّين والقدّيسين بقوله: «الصّدّيق كالنّخل يزهر ويسمو، ومثل أرز لبنان ينمو».
أهلاً وسهلاً بكم، والكلام الأوّل إلى سعادة السفير البابوي، فليتفضّل.
المطران سبيتيري
تكلّم السفير البابوي، المطران سبيتيري، بالفرنسيّة، وبدأ كلامه مشيرًا إلى مريم الحبل بها بلا دنس، الموافق عيدها في هذا اليوم بالذات، وإلى القدّيس فرنسيس الذي يجمع أبناءه: المطران إسّيان من الرهبان الديريين، والآباء الكبّوشيّين.
أضاف بأنّ التطويب تمّ تأكيده بواسطة رسالة وصلت من روما إلى المطران إسّيان، ونحن نرحبّ بهذا الحدث، ويبقى علينا القيام بتنظيمه، ليكون فترة من النعمة تفيض ليس فقط على الكنيسة في لبنان بل أيضًا على جميع البلدان وجميع الإخوة والأخوات في هذا البلد. وكما أشار المطران العنداري بأنّ لبنان هو بلد القدّيسين، فلنطلب شفاعتهم لمساعدتنا على الخروج من الأزمات ومن كلّ الصّعوبات الّتي تواجهنا.
ثمّ طلب من الأب نفيلي أن يتلو الرسالة الواصلة من روما والمترجمة إلى العربيّة فقال:
مِن حاضِرة الفاتيكان، 1 حزيران 2021
رقم: 534.266
حَضرة الأَب الجَليل كارلو*،
أَحرصُ على إِبلاغِكُم أَنَّ قداسةَ الحبرِ الأَعظمِ أَقرَّ بأَنَّ الاحتفالَ بِتطويبِ خادِمَي الله: ليونار عويس ملكي وتوما جرجي صالح الشَّهيدَين،ِ مِن رهبنةِ الإِخوةِ الأَصاغِرِ الكبُّوشيِّين، سيُقامُ بتاريخِ 4 حزيران 2022 في بَيروت، وسيُمثِّلُ قداسةَ الحبرِ الأَعظمِ نِيافَةُ الكاردينالِ مارشيلو سيميرارو Marcello Semeraro، رئيسُ مَجمعِ دَعاوى القدِّيسين.
أَودُّ أَيضًا أَنْ أُبلِّغَكُم بأَنَّه قَد تَمَّ إِعلامُ صاحِبِ السِّيادةِ، النَّائبِ الرَّسوليِّ للاَّتينِ في لبنان، المُطران سيزار إِسِّيان، إِلى ما سبَقَ، وأَنَّه تَمَّ تكليفُهُ أَيضًا الاتِّصال بِمجمَعِ دعاوى القِدِّيسين لِتَنظيمِ الاحتِفالِ بهذه الدَّعوى.
أَغتَنِمُ هذه الفرصة لأُعبِّرَ لكُم عَن تحيَّتي الرُّوحيَّةِ،
بمحبَّةٍ أَبويَّةٍ،
إِدغار بِينيا بارّا**
* هو الأب كارلو كالوني، طالب دعاوى الكبّوشيين في روما.
** هو المطران قائم مقام أمين سرّ دولة الڤاتيكان الكردينال پياترو پارولين.
المطران إسّيان
ركّز المطران إسّيان في كلمته على بذل الذات وقال:
الأبوان الكبّوشيّان ليونار عويس ملكي وتوما جرجس صالح هما من أبناء القدّيس فرنسيس الأسيزيّ. وكما الطّوباويّ أبونا يعقوب الكبّوشي، نذرا أن يعيشا حياتهما حسب قانون الرّهبانيّة الفرنسيسيّة أيّ أن يحفظا الإنجيل المقدّس بالطّاعة ودون أيّ شيء خاصّ وبالعفّة. توّج كلّ منهما حياته ودعوته الفرنسيسيّة بالاستشهاد، وكان ذلك منذ قرن تقريبًا.
يلتحق الطّوباويّان الجديدان بالمجموعة الّتي لا تُحصى من الشّبّان القدّيسين والشّابّات القدّيسات الّذين وهبوا حياتهم من أجل المسيح والآخرين من دون تردّد. إستشهد الأب ليونار عويس ملكي وكان في الثّالثة والثّلاثين من عمره، وأمّا الأب توما صالح فكان في السّابعة والثّلاثين من عمره.
ليس بالصّدفة أن تعلن الكنيسة تطويبهما في هذا الوقت الّذي يمرّ فيه لبنان واللّبنانيّين بأصعب المحن. إنّها مناسبة لنستقي منهما كيفيّة عيش هذه الأزمة بالعودة إلى ركائز حياتنا المسيحيّة، والتزامنا الإنجيل، وتعاليم سيّدنا يسوع المسيح. سأكتفي اليوم بنقاط ثلاث:
أوّلا: بذل الذّات في الرّسالة
عُيّن الأبوان توما وليونار في رسالة ما بين النّهرين سنة 1906. فتركا أهلهما وأصدقاءهما وبلدتهما بعبدات ليذهبا حيث ما أراد الرّبّ والكنيسة حسب دعوتهما الرّهبانيّة. نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى أن نكتشف من جديد هويّتنا المسيحيّة ومعنى عمادنا. فالخلاص يأتي من أمانتنا لكلمة الله والتزامنا الطّاعة لتعاليم الكنيسة. إنّنا نعتقد خطأ أنّ المال والثّروة يشكّلان باب خلاصنا. يذكّرنا الطّوباويّان بأولويّة البحث وطلب ملكوت الله. فباقي الأشياء تزاد لنا لأنّ الرّبّ لم يترك ولن يترك أبناءه.
ثانيًا: بذل الذّات في سبيل الآخرين
اليوم وأكثر من قبل يدعونا الطّوباويّان اللّذان بذلا حياتهما من أجل أناس لا ينتمون إليهم بأيّ صلة إلّا بالإنسانيّة، أن نعيش الأخوّة مع بعضنا البعض دون تفرقة أو تمييز. على سبيل المثال، كان بإمكان الأب ليونار أن يغادر مدينة ماردين (تركيا) حيث الاضطهادات، لكنّه قرّر أن يبقى مع كاهن كبير السّنّ. سُجن، عذّب ولكنّه كان حاضرًا لمساعدة السّجناء الآخرين، وسماع اعترفاتهم، وخدمتهم. أمّا عن الأب توما، فكان في زيارة كاهن أرمنيّ في سجن آخر فرآه مريضًا جدًّا. طلب من يسوع القربان أن يأخذ آلام الكاهن الأرمنيّ عنه ويمنحه إيّاها. ربّما نظنّ اليوم أنّ خلاصنا يأتي من إبعاد الآخرين والاهتمام فقط بأمورنا الشّخصيّة أو الدّاخليّة، أو من يظنّ أن يخلّص نفسه على حساب الآخرين وذلك بشتّى الطّرق المسموحة وغير المسموحة ولكنّها تبقى كلّها غير مقبولة عند الرّبّ.
ثالثًا: بذل الذّات إيمانًا بالمسيح
عُرض على الأب ليونار ومجموعة من السّجناء- من بينهم الطّوباويّ اغناطيوس مالويان- أن يؤسلموا. فرفضوا قائلين: نموت حبًّا بالمسيح! فاحتفلوا بقدّاسهم الأخير، واتّحدوا بالمسيح على الصّليب. ونحتفل اليوم بقيامتهم وحياتهم وقداستهم. يأتي الاستشهاد دائمًا ليتوّج حياة بذلت من أجل الرّبّ والآخرين بمجانيّة تامّة وبالإيمان بأنّ مشيئة الله هي دائمًا قدّوسة أيّ من أجل قداستنا. نحن أبناء أرض مقدّسة وأرض قدّيسين. مشى المسيح على أرضنا وطرقنا وقدّسها. وهذا هو إرثنا الأوّل والأخير، ورسالتنا الأولى والأخيرة. رسالة الطّوباويّان ليونار عويس ملكي وتوما جرجس صالح هي دعوة واضحة موجّهة إلى كلّ منّا: أن نكون قدّيسين.
لنطلب صلاة هذين القدّيسين الجديدين اللّذين نعلن تطويبهما كشعلة رجاء في بلدنا لبنان، وفي منطقة يزعزعها عدم الاستقرار، والخوف من الغد. عسى أن يمدّ الله بشفاعتهما، لبنان والمشرق بالسّلام والرّجاء حتّى يستمرّ في نقل البشارة والشّهادة للمسيح القائم من بين الأموات. هنيئًا للبنان وللرّهبانيّة الكبّوشيّة، ولكلّ مسيحيّ وكلّ لبناني في الشّرق والعالم.
الأب مخايل مغامس
عرض الأب مخايل مغامس مختصر حياة الأبوين ليونار وتوما، مرتكزًا، كما قال، إلى دراسات الأب سليم رزق الله الكبّوشي، ومن بعده الأب طوني حداد الكبّوشي، إضافة إلى موقع الرهبنة الكبّوشيّة في روما، لكنّه تناسى ما قام به عشرات من العلمانيين، من نبش معلومات ووثائق، ودراسات، وأبحاث، وترجمات، امتدّت طوال عشرات السنين، ونُشرت في هذا الموقع! جاء في كلمة الأب مغامس:
وُلد يوسف عويس ملكي في بلدة بعبدات المتنيّة في جبل لبنان ما بين أواخر أيلول وبدايات تشرين الأوّل سنة 1881، من حبيب عويس البعبداتيّ (1840-1906) ونورا بو موسي كنعان يمين من بيت شباب (1845 ـ 1917). إنّه الولد السّابع في عائلة تتألّف من 11 ولدًا.
نال سرَّ المعموديّة في اليوم الثّامن من شهر تشرين الأوّل 1881، ونال سرَّ التّثبيت في 19 تشرين الثّاني 1893. لشدَّة تأثّره بمثل وحياة الإخوة الكبوشيّين ورسالتهم قرّر أن يصبح أخًا ومرسَلاً كبّوشيًّا. في 28 نيسان من سنة 1895 دخل إكليريكيّة الكبّوشيّين الصّغرى في سان ستيفانو بجوار إسطنبول التّابع للمعهد الرّسوليّ الشَّرقيّ. وهناك لبسَ ثوب الابتداء في 2 تمّوز 1899، وأعطي له إسم ليونار، وأبرز نذوره الأولى في 2 تمّوز 1900.
في دير بودجه، بالقرب من إزمير، أنهى دروسه الفلسفيّة واللّاهوتيّة، وأبرز نذوره المؤبّدة في 4 كانون الأوّل 1904، وبعد إنجازه الامتحانات النّهائيّة، أُرسل في 23 نيسان من سنة 1906 إلى الرّسالة في منطقة بلاد ما بين النّهرين.
سنقرأ الآن رسالة كتبها الأخ ليونار إلى الرئيس العامّ يتكلّم عن رسالته في هذه البلاد:
«حضرة الأب العامّ الجزيل الاحترام،
بعد الحصول على موافقة أبوّتكم الموقرة للذهاب إلى بلاد ما بين النهرين، توجّهتُ فورًا من بودجَه إلى لبنان، حيث قضيتُ بعض الوقت بين الأهل والأصدقاء الأعزاء، بناءً على أوامر الأب لينو [هو عميد معهد الدروس في بودجه]. ومن هناك، التحقتُ مباشرةً برسالتي. عند وصولي إلى مقرّ إرساليّتنا الرئيسيّة في أورفا، أَمَرني الأب المدبّر بالمكوث هناك، ريثما يتمّ تحديد وجهتي. بعد حوالي شهر، أُمِرتُ بالتوجّه إلى ماردين. خَضَعتُ للأمر، وشكرتُ الربّ.
وصلتُ إلى ماردين في أوائل شهر أيلول، بعد رحلةٍ طويلةٍ ومتعبة. وتمكّنتُ من مباشرة خدمتي المقدّسة فورًا، بفضل معرفتي اللغة العربيّة. أَوكَلَ إليّ الأب المدبّر الجليل القيام بالأعمال التالية: إرشاد
الرهبنة الثالثة المزدهرة جدًّا والتي كَـثُـر عديد أعضائها؛ إرشاد جمعيّة جوقة الشرف للقلب الأقدس؛ إدارة مدرستنا الكبيرة، وتدريس اللغة الفرنسيّة والموسيقى؛ ومن واجباتي تقديم حديثين، شهريًّا، إلى الجمعيتين المذكورتين. كما أنّي أقوم بالوعظ في الكنيسة، من وقتٍ إلى آخَر. هنالك أيضًا الاعترافات الكثيرة، بسبب وفرة الكاثوليك الشرقيّين الذين يفضّلون كنيستنا على كنيستهم. إنّي كثير الانشغال، ومع ذلك، فأنا مسرورٌ جدًّا وأنعم بصحّةٍ جيّدة. هذا هو، باختصار، وضعي الحاليّ، أبتِ الجزيل الاحترام. معي، أيضًا، الأب دانيال، رئيس الدير، ورفيقي، الأب توما.
أخيرًا، أبتِ الجزيل الاحترام، تَفضّلوا بقبول تهانيّ الحارّة والصادقة، بالسنة الجديدة. أتقدّم منكم سائلاً، باتضاع، بركتكم المقدّسة.»
في 5 كانون الأوّل 1914 حصل الغزوّ الأوّل لكنيسة الكبّوشيّين في ماردين من قبل العساكر والجنود، تلاها أعمال عنف وتهديد وتوقيفات واستجوابات ضدَّ الإخوة مع أوامر بإخلاء الدّير. لكن، بسبب وجود أخ كبير في السّنّ وغير قادر على ترك الدّير قرّر الأخ ليونار أن يبقى معه محبّة بأخيه بالرّغم من الخطر.
في 5 حزيران 1915 تمَّ اعتقال الأخ ليونار مدَّة 6 أيّام، فسخروا منه وعذَّبوه وضربوه بغية أن ينكر إيمانه ويعتنق الإسلام. لكن في 11 حزيران من العام نفسه، كانت المناسبة عيد قلب يسوع، نفوه على رأس مجموعة من المؤمنين مؤلّفة من 416 شخصًا نحو دياربكر سيرًا على الأقدام.
من بين المنفيّين عبر طوابير الذّلّ نذكر الطّوباويّ الأسقف إغناطيوس مالويان، مطران الأرمن الكاثوليك في ماردين. بعد قطع مسافة من السّير والعذاب والسّخريّة، وبعد أن أصرَّ الجميع على عدم نكران إيمانهم بالرّغم من المحاولات الدّؤوبة لفرض هذا النّكران، أتت الأوامر بالتّخلّص منهم جميعًا وقتلهم وتمّ ذلك، ورموا أجسادهم في الآبار والمغاور. وكانوا جميعًا أعلنوا قبل تصفيتهم: «نموت في سبيل المسيح».
أنهي هذا الموجز عن حياة الأخ ليونار بالشهادة التي قالها الأخ دانيال [المقصود الأخ بوناڤنتورا البعبداتي] وهي:
«غير أنّ الأماكن المهجورة لم تَفرَغ، إذ بقي فيها أحدهم وهو حبيبنا الأب ليونار. كان لا يزال في ماردين، مع أنّنا دعوناه للمجيء إلينا. كتب لنا قائلاً بأنّه يرغب في الخروج من بين هؤلاء المتوحشين، وبأنّه لا يريد أن يموت قتلاً. وكان قد عمل على ترحيل الراهبات، لكنّه بقي هناك، لأنّه، في اللحظة الأخيرة، قال له الأب دانيال، باكتئاب، وهو ٱبن الثمانين سنة الذي لم يُطق فكرة الرحيل: «حسنًا، أتريدون أن تتركوني لوحدي؟» ولساعته، قرّر الأب ليونار البقاء، بدافعٍ من المحبّة لهذا الراهب الجليل، ليس إلاّ.
فيما بعد، رُحِّل الأب دانيال إلى قونية. أمّا الأب ليونار، فقضى ضحيّة محبّته. وأوضح الأب أتال الكبّوشي، في رسالةٍ وصلَتنا حديثًا من أورفا، بتاريخ ٢١ كانون الأوّل ١٩١٩ : "تَسنّى لنا أن نعرف من القسّ يوسف، وهو كاهنٌ من ماردين، أنّ الأب ليونار قُتل، في ١١ حزيران ١٩١٥، في زيرزوان، بالقرب من ديار بكر، بعد أن كرَّر رفضه الدخول في الإسلام، وبعد تَعرُّضه للجَلد، بسبب رفضه هذا، وبعد أن تَمكَّن من مَنح المسيحيّين المساقين معه الحَلَّةَ السريّة".»
وعن حياة الأخ الشهيد الأب توما صالح قال:
هو جرجس ابن حنّا طنّوس صالح، وأمانة جريس مرعي. وُلد في 3 أيَّار 1879 في بلدة بعبدات المتنيّة، وهو الخامس من عائلة مكوَّنة من ستّة أولاد. في اليوم الثّامن بعد ولادته، حُمل الطّفل إلى كنيسة مار جرجس المجاورة لتقبّل سرّ المعموديّة. ونال سرّ التّثبيت في 19 تشرين الثّاني 1893. تأثّر هو أيضًا بمثال وحياة الإخوة الكبّوشيّين، وقرّر أن يصبح كبّوشيًّا ومرسلاً.
في 28 نيسان 1895، دخل مع ابن بلدته، خادم الله ليونار ملكي، إلى الإكليريكيّة الصّغرى للكبّوشيّين في سان ستيفانو حيث لبس ثوب الابتداء الكبّوشيّ في 2 تموز 1899، وأبرز بعد سنة نذوره الأولى، أيّ في 2 تمّوز 1900. أنهى دروسه الفلسفيّة واللّاهوتيّة في دير بودجه حيث احتفل بنذوره المؤبَّدة في 2 تمّوز 1903. سيم كاهنًا في 4 كانون الأول 1904، وبعد إتمامه بنجاح الامتحان الأخير كمُرسَل عيِّن مع الأخ ليونار في إرساليّة ما بين النّهرين في 23 نيسان سنة 1906.
أمضى حياته الرّسوليّة في مدن ماردين وخربوط ودياربكر. باندفاع وعطاء كلّيّ خدم المؤمنين من خلال سرّ الاعتراف والوعظ والتّعليم وإدارة المدارس وراعويّة الشّباب وإرشاديّة الرّهبنة الثّالثة الفرنسيسيّة. في 22 كانون الأوّل 1914 طُرد هو وإخوته وبعض الرّاهبات من ديرهم في دياربكر إلى أورفا حيث لجأوا إلى دير الكبّوشيّين هناك.
في أورفا، واجه وتحمّل بشجاعة مدّة سنتين مضايقات الجنود ونجا على دفعتين من المجازر الّتي وقعت في حقّ المسيحيّين في المدينة. لكن في 4 كانون الثّاني 1917 ألقي القبض عليه وعلى الإخوة في الدّير بتهمة إيواء كاهن أرمنيّ محكوم عليه بالإعدام. تهمة أخرى قاضية وهي اتّهام الأخ توما بامتلاك قطعة سلاح، وهي تهمة باطلة هدفها القضاء عليه.
هاتان التّهمتان أدّتا إلى الحكم عليه بالموت. اقتيد من مكان إلى آخر محتملاً كلّ أنواع التّعذيب إلى أن أصيب بمرض التّيفوس. تمكّن من الوصول إلى مرعش، وهناك مات حوالى 18 كانون الثّاني 1917 مناجيًا إخوته والمحيطين به أن يضعوا كلّ ثقتهم بالرّبّ قائلاً: «تعالوا بسرعة، أحضروا لي المناولة.» منحه الأب باتريس سرّ المسحة الأخيرة، ولفظ الأب توما أنفاسه الأخيرة.
في لقاء دبَّرته العتاية الإلهية في مستشفى مرعش مع الأب الأرمني الذي لجأ إلى دير الكبوشيين، قال الكاهن لتوما: «أتذكُر بطاقة التعزية التي أرسَلتها لي، عندما كنتُ في سجن أورفا، منذ بضعة أشهر، وكَتَبتَ فيها أنَّكَ كنتَ تطلُبُ من يسوع - القربان بأن يَعفيني من آلامي ويسلِّمُكَ إيَّاها؟» أجاب الأب توما: «نعم، أذكرُ هذا جيِّدًا، ولستُ بنادمٍ على شيء، فلتَكُن مشيئته القدُّوسة.»
بالختام، إنَّ شهادة الإيمان وبطولة المحبّة في استشهاد الأخوين ليونار وتوما الطوباويين قريبًا تحاكي كنيسة اليوم في لبنان والعالم، وتدعونا لنلبِّي حاجة وتوق مجتمعاتنا لسماع بُشرى الإنجيل وإعلانها حتى في الأماكن الأكثر صعوبة وتحدٍّ وبالرغم من الاضطهادات والمخاطر. بفضل أمانتهما للمسيح ولتكرِّسهما ولدعوتهما كمرسَلَين قَبِل خادمَي الله ليونار وتوما أن يكونا «حنطة الله التي طحنتها أنياب الوحوش لتتحوَل قربانَ المسيح النقيًّ الطاهر» (القديس إغناطيوس الإنطاكي في رسالته إلى اهل رومة 4/1-2)
الأب عبدلله النّفيلي
عرض الأب نفيلي برنامج التطويب، وختم كلمته بشكر الآباء الكبّوشيين الذين عملوا على ملفّ الدعوى، لكنّه تناسى ما قام به عشرات من العلمانيين، من نبش معلومات ووثائق، ودراسات، وأبحاث، وترجمات، امتدّت طوال عشرات السنين، ونُشرت في هذا الموقع! جاء في كلمة الأب نفيلي:
في هذا اليوم المجيد، في عيد الحبل الطّاهر بمريم العذراء، نحن سعداء بإعلان تاريخ تطويب الرّاهبين الكبّوشيّين البعبداتيّين الأخ ليونار عويس ملكي والأخ توما صالح بالرّغم من الظّروف الصّعبة الّتي يمرّ بها لبنان والمنطقة، الرّبّ يمنح دائمًا كنيسته دعوات مقدّسة لتبقى علامة المحبّة في المجتمع.
إليكم برنامج التّطويب:
– السّبت 28 أيّار 2022: مسيرة صلاة بالشّموع، في بعبدات.
– الأحد 29 أيّار 2022: تدشين مراحل درب الصّليب مع الشّهيدين، في بعبدات.
– الاثنين 30 أيّار 2022: سهرة روحيّة مع الرّهبنة الثّالثة للعلمانيّين، في بعبدات.
– الثّلاثاء 31 أيار 2022: سهرة مريميّة، مريم سلطانة الشّهداء والمرسلين، في بعبدات.
– الأربعاء 1 حزيران 2022: سهرة روحيّة للشّبيبة، في بعبدات.
– الخميس 2 حزيران 2022: رسيتال، في بعبدات.
– الجمعة 3 حزيران 2022: سهرة روحيّة على التّلفزيون.
– السّبت 4 حزيرن 2022: إحتفال التّطويب، في دير الصّليب.
– الأحد 5 حزيران 2022: قدّاس الشّكر، في بعبدات.
نشكر الرّبّ الّذي أعطانا إخوة عاشوا في القداسة وبذل الذّات ليكونوا مثالاً وقدوة لنا في حياتنا المسيحيّة. أغتنم هذه المناسبة لأشكر الأب سليم رزق الله، رحمه الله، الّذي بدأ في البحث والكتابة عن الرّاهبين الشّهيدين. أشكر أيضًا الأب كارلو كالوني، المسؤول عن دعاوى القدّيسين في الرّهبنة، في روما، ومساعده الأب طوني حدّاد لاهتمامهم في متابعة الملفّ. نصلّي من أجل الرّهبنة والكنيسة لتبقى مشعّة بالقداسة.
الخوري عبده أبو كسم
اختُتم المؤتمر بكلمة الخوري أبو كسم الذي جاء فيها:
نشكر الله على الرّهبنة الكبّوشيّة وعلى رسالتها في هذا الشّرق، وثمرة هذه الرّسالة أن تعطي اليوم طوباويّين حتمًا قدّيسَين بذلا وزرعا بذورهما في هذه الأرض الطيّبة. ونحن نعلم أنّ الكنيسة في الشرق قائمة على دماء الشهداء، الشهداء القدّيسين الذين بمحبة استُشهدوا وليس بالمواجهة وبالعنف. ورسالة الكنيسة في هذا الشّرق هي الشهادة بالمحبّة حتّى الاستشهاد.
يطلّ علينا في مصاعب حياتنا اليوميّة في لبنان نور من أنوار طفل المغارة، وبالرّغم من حالة اليأس الّتي يعيشها اللّبنانيّون، في هذه الأيّام الصعبة، يكلّمنا الرّبّ اليوم كالعادة بلغة الرّجاء، قائلاً لنا: «لا تخافوا لا تخافوا أنا معكم، لن أترككم، ولن أترك لبنان، أرض القداسة ومنبت القدّيسين ووطن المؤمنين».
في هذه المناسبة الطّيّبة، ذكرى إعلان الطّوباويّين الشّهيدين الكبّوشيّين ليونار عويس ملكي وتوما صالح، يرسل لنا الرّبّ الإله، في هذه الأيّام، نعمة الرّحمة والرّجاء، تلك الّتي أرسلها إلى زكريّا وإليصابات في ميلاد يوحنّا، ليقول لنا، ليس عند الرّبّ أمر عسير.
نحن في لبنان علينا أن نؤمن، وفي خضمّ هذه الأزمات المتتالية والعميقة والكبيرة، بأنّ رحمة الله كبيرة، ولن يترك هذا الوطن، وسوف تزول هذه الشّدّة الّتي تضربه، بفضل القدّيسين والطوباويين ليونار ملكي وتوما صالح، نحن نؤمن بأنّ هذه الشدّة ستزول، وسيبصر لبنان النّور من جديد. وُلد المسيح هلّلويا!
وفي الختام، شكر المطران العنداري الحضور، ثمّ تناول الكلام الإعلامي طوني الصدّيق الذي عبّر عن رأيه في هذا الحدث، وقراءته له. ثمّ دُعي الحضور للانتقال إلى صالة جانبيّة للضيافة وتبادل التهاني.