ملاحظة: إنّ القراءات الواردة هنا مأخوذة من تقرير الأب بوناڤنتورا فاضل البعبداتي الكبّوشي الذي اعتُقل مع الأب توما والرهبان من الدير نفسه، ورافقه على طريق المنفى، لكنّه أُفرج عنه، ودوّن في تقرير طويل بالفرنسيّة ما عاناه الأب توما والرهبان من قهر وعذابات.
المحتفل (م) القارئ (ق) الجمهور (ج)
م: المرحلة الأولى
توما يُطرد من ديره في ديار بكر
ق: فَور دخول تركيّا الحرب، في تشرين الأوّل ١٩١٤، تَعرَّض مركزُنا في ديار بكر لسلسلةٍ من المضايقات، من قِبَل الحكومة العثمانيّة. فهذه، أقامت مركزًا للشرطة في مدرسة الصبيان. وكان علينا الخضوع للاستجواب، في كلّ حين. ثمّ أُمرنا بإخلاء مدرسة البنات. وأخيرًا، طُردنا من ديرنا، ولم يشأ الوالي الإصغاء إلى احتجاجاتنا، ومُنعنا من إخراج أيّ شيءٍ من الدير.
م: لنصلّي
ج: أَعطِنا يا ربّ، أن تكون صلواتُنا التي نرفعُها إليك، في ذكرى الأب توما، بمثابةِ ذبيحةٍ مقبولة، تَزيدُنا في جهادِنا نشاطاً، وفي خدمتِنا تضحية، فنؤهَّلَ وإيّاه للجَزاء الصالح، أمام عظَمتك، ونُصعِدَ إليك، جميعاً، المجدَ والشكر، من الآنَ وإلى الأبد.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
م + ج: أبانا الذي في السّماوات...
م: المرحلة الثانية
توما يقضي عيد الميلاد وهو يسير على طريق المنفى
ق: كان في رفقتنا شرطيّان يقوداننا إلى أورفا، وفقًا للأوامر، ويلزمنا ثلاثة أيّام لبلوغها. وحان عيد ميلاد سنة ١٩١٤، ونحن في الطريق إلى المنفى. وعند وصولنا إلى الخان، ليلاً، منهكين، هل يمكننا إلاّ أن نفكِّر بالمسافرين القدّيسين الذين، فيما مضى، في التاريخ عينه، جاؤوا يطلبون مأوى في خان بيت لحم؟ غير أنّهم لم يجدوا مكانًا لهم. لقد أصابنا الارتباك لأنّنا كنّا أحسن حالاً من العائلة المقدّسة، رغم أنّ هذا الخان يقدّم القليل من وسائل الراحة.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربّ يسوع، يا أمير السلام المنتظر، المولود في مزود حقير، لقد أنعمتَ على الأب توما ورفاقه الرهبان أن يعيشوا فترة الميلاد كما أنت عشتها، بالفقر والتجرّد. أعطنا أن نراك أنتَ في كلّ فقير وكلّ محتاج وكلّ مقهور، أنتَ يا ينبوع البركات، لك الحمد والعزّة والقدرة إلى دهر الدهور. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
ليلةَ الميلاد يُمَّحى البغضُ، ليلةَ الميلاد تُزهرُ الأرضُ
ليلةَ الميلاد تُدفَنُ الحربُ، ليلةَ الميلاد يَنبُتُ الحبُّ
م: المرحلة الثالثة
توما يلجأ إلى دير الكبّوشيين في أورفا
ق: إستقبلتنا أورفا بكثير من الحرارة. كان الهدوء لا يزال مخيَّمًا فيها، ولم نتوصَّل إلى فهم سبب طَردنا، بهذه الوحشيّة، من ديار بكر. وكنّا نظنّ أنّ أورفا لن تكون سوى محطّة، على طريق منفانا، بما أنّنا كنّا مطرودين من السلطنة. أمّا، في الواقع، فقد أصبحت هذه المدينة ملجأً لنا، خلال سنيّ الحرب الطويلة. وهكذا، بقينا عند الأب بنوا، رئيس المركز، والأخ روفائيل.
م: لنصلّي
ج: إِقبَلْ يا ربُّ صلاتنا، وأَمِلْ سَمْعَكَ إلى تضرعاتناِ التي نرفعها اليوم، في ذكرى الأب توما، فهو دُرّةٌ في جبين الكنيسةِ وتاريخِ الإنسانيّة. كافِئه في نعيمِكَ السماويّ خيرَ مكافأة، من أجلِ شجاعتِه في مَيدانِ الشهادة لكَ، والتضحيةِ بحياتِه، وٱمنحِ الأوطانَ والشعوبَ أمانَكَ وسلامَكَ. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
الربُّ راعيَّ فلا يُعوِزُني شيءٌ، في مراعٍ خَصيبةٍ يُقيلُني ومياهَ الراحةِ يُورِدُني.
يَرُدُّ نفسي ويَهديني، إلى سُبُلِ البِرِّ من أجل اسمِهِ.
م: المرحلة الرابعة
توما يتألّم للمجازر التي حصلت بحقّ المسيحيين في أورفا
ق: مرّت الأشهر الأولى من سنة ١٩١٥، بدون حوادث، إلى ما بعد عيد الفصح، حيث راحت تظهر للعيان خطّة جهنميّة لإبادة المسيحيين، مع وصول موفدين من اسطنبول، ٱنتشروا في سائر المدن، ومنهم اثنان في أورفا، أحدهما يُدعى خليل بك. وكانا على اتصال مباشر باسطنبول، وفي أيديهما كامل الصلاحيّات، حتّى أنّ سلطة الوالي نفسه ٱنتَفَت بوجودهما. كانا ديكتاتوريّين عن حقّ.
شَرع هذان في إصدار مذكّرات توقيف في حقّ بعض من وجهاء المسيحيّين، وراحا يُخضعانهم للاستجواب، ثمّ يطلقان سراحهم، ليعودا إلى اعتقالهم ثمّ إلى تسريحهم من جديد. وٱعتُمد هذا اللطف الماكر وسيلةً لعدم إثارة الذعر في قلوب الشعب. وظَنَّ الناس أنّ رجال الحكومة هؤلاء يريدون الحصول على بعض المعلومات، فخضعوا لهذه الشكليّات المزعجة بلا ٱرتياب. لكنّ ما جرى، في الواقع، أنّ كلّ هؤلاء الوجهاء المسيحيّين أُعيدوا إلى السجن. وفي كلّ ليلة، يتمّ ٱقتياد العديد منهم للفلق، حتّى الإغماء. وبعد جمع ما أدلوا به من ٱعترافات، كانوا يأخذونهم خارج المدينة، حيث يَربطونهم أربعة أربعة، توفيرًا للذخيرة، ثمّ يُطلقون عليهم رصاصةً واحدة تخترق صدور الأربعة معًا. وبعد ذلك، يتولّى الأكراد القَضاء عليهم بالفؤوس، ونهب ما في حوزتهم.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربّ يسوع، نورُ الحقّ وشمسُ البِرّ، يا ناصرَ المجاهدين المُحقّين، إقبَل دمَ الشهداء المسفوك، قربانًا وذبيحة، حتّى يعودَ على المضطهَدين بالنور، والضّالينَ بالهداية، والخطأة بالغفران، والمؤمنين بالثبات، فنُصعِدَ لكَ المجدَ والشكران، من الآن وإلى الأبد. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة (لحن رَمرِمَين)
كالأشجـارِ النَديّة
شُهداؤنـا الأبطـالْ
بالأثمـارِ الشهيّة
طَيَّبوا قلبَ الأجيـالْ
بالموتِ صاروا قربانْ
شُهداؤنـا الأبطـــالْ
ماتوا كي تَحيا الأوطان
أَحيَوا في النفسِ الآمال
م: المرحلة الخامسة
توما يقدّم الملجأ الأمين للكاهن الأرمني دِر ڤارتان
ق: دِر ڤارتان هو رئيس الطائفة الأرمنيّة الكاثوليكيّة. مع استمرار الاضطهاد ضد الأرمن، لم يعد يشعر دِر ڤارتان بالأمان في الحيّ الأرمنيّ حيث يقطن، فجاء يقرع باب مركزنا، ومعه عدد من الأرمن المساكين الخائفين. فاستقبلناهم كلّهم قائلين لهم: «إنْ مُتّم، فسنموت معكم».
لقد أدركنا جيّدًا أنّ وجوده عندنا سيُكتشَف، عاجلاً أم آجلاً، وأنّ العثور على رئيس الكنيسة الأرمنيّة في مركزنا سيدفع الحكومة التركيّة إلى الانتقام منّا بشكلٍ فظيع.
لم يقدر الأب بنوا، رئيس الدير، على اتّخاذ القرار لترحيل الكاهن الفارّ، خوفًا من تعريضه لأبشع أنواع الموت. غير أنّ الفطنة كانت تَقضي بعدم تعريض حياة عدد كبير من الناس، بحجّة إنقاذ حياة شخص واحد. وكان كلّ الكاثوليك العارفين بسرِّنا يطالبوننا بإلحاح بالتخلّص من هذا الضيف الخطير.
لم يستطع الأب بنوا اتّخاذ أيّ قرار بالرغم من كلّ ما كان يصل إليه من أخبار. وعندما قيل له بأنّه يُعرِّض نفسه للنفي أو للسجن أو ربّما للموت شنقًا، كان يجيب، واضعًا حدًّا للجدل: «حسنًا، سأضحّي بنفسي من أجله». أمام محبّة رئيسنا الأب بنوا، وتجرّده البطوليّ، ومجاراة الأب توما التامة له في هذا الموقف، لم يبق لدينا، نحن الحذرين، إلاّ الطاعة والقبول بالتضحية، فاستمرَّينا بإيواء دِر ڤارتان.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربُّ يسوع، العروس السماوي الذي دعا إلى وليمة عرسه الأب توما الذي اصطبغ بصبغته، وانتَشَى بخَمرته، وبَذل روحه دفاعًا عن كنيسته المقدَّسة والمقدِّسة، واستُشهد لأجل أحبائه وأمانته للإنجيل، أهِّلْنا أن نُحييَ ذِكراه دَومًا، بالفخرِ والفرح، وأَعطِنا آخرةً صالحة، حتى نَبلُغَ السعادةَ الأبديّة، ونسبِّحَكَ ونمجِّدَكَ، إلى الأبد. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
خُذ حياتي يا إلهي، إنّني أَبغي رِضاكَ، أَعطني حتّى المماتِ، أن أَسيرَ في خُطاكَ.
م: المرحلة السادسة
توما يعاني من مصادرة ديره
ق: وفي أحد الأيّام، أَمرت الحكومة بتجميع كلّ السجناء المدنيين في ديرنا، وهم الذين قبضت عليهم الشرطة من المدن التركيّة منذ أن أعلنت تركيا الحرب: إنّهم جميع الأوروبيّين التابعين الدول الحليفة، والموجودين على الأراضي العثمانيّة. كان المقدّم تقري باشا يتولّى مسؤوليّة هؤلاء، يعاونه بعض الضباط الألمان. وكان رجال الشرطة يتفقَّدون الأسرى، ويجوبون الدير طوال النهار. وقد لازموا ديرنا طيلة شهرين كاملين، حتّى بداية العام ١٩١٦.
م: لنصلّي
ج: إقبل يا ربّ عِطرَ صلواتِنا، رَفَعناها إليكَ في ذكرى شهيدنا توما الحبيب. أَعطِنا حُسنَ الشهادة في أعمالنا، وقوّةَ الكفاح في حياتنا، فندعمَ الحقّ، ونسعى من أجل تعزيز كرامة الإنسان وحرّيّته، ونَعملَ على إحلال السّلام والوِئام في مجتمعاتنا، حتّى نؤهَّلَ لمصاف قدّيسيكَ ومُختاريك، ونمجّدَكَ معهم، برفقة شهدائنا، في الملكوت السّماوي، إلى الأبد. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
تَوكَّلْنا على الله وهو مَلجانا، تَوكَّلْنا على الله لا نَخافُ السوء.
م: المرحلة السابعة
توما يتألّم عند اعتقال دِر ڤارتان
ق: في ذات يوم أحد، عند الصباح، أثناء الاحتفال بالقدّاس، حضر ثلاثة أشخاص لابسين العباءات، راحوا يكيلون الطريق ذهابًا وإيابًا أمام كنيستنا، ويتفرّسون بالداخلين إليها... ثمّ تَقدّم أحدهم إلى الساحة الداخليّة حيث مدخل الكنيسة، فدخلها ووقف بالقرب من جرن الماء المباركة، مركّزًا نظره على المذبح... حينئذ طلب أحد المؤمنين الاعتراف لدى دِر ڤارتان الذي كان في السكرستيا. فما كان منه إلاّ أن نزل إلى الكنيسة دون ريبة، متوجهًا إلى كرسيّ الاعتراف، فصادف الغريب الذي استوقفه وأَسَرّ إليه قائلاً: «لديّ شيء ما أقوله لك. تفضَّل معي إلى الخارج». أجابه دِر ڤارتان: «قل لي أولاً من أنت، وماذا تريد». فما كان من الغريب إلاّ أن أمسكه بذراعه، وجَرّه نحو الباب، دون أن يجيبه بشيء. حاول دِر ڤارتان الافلات منه، لكنّ الغريب أخرج صفّارة من جيبه، ونفخ فيها مناديًا رفيقيه الآخرين اللذين كانا في الخارج، فأسرعا إلى داخل الكنيسة، وأوقفا دِر ڤارتان، باسم القانون: إنّهم رجال المخابرات. ولم يكن بإمكان دِر ڤارتان إلاّ مرافقة الشرطيين إلى مركز الحكومة، بالرغم من كلّ الاحتجاجات التي أبديناها، وسيق معه أيضًا الأخ روفائيل. وهكذا، بدأت معنا مرحلة جديدة من المحن.
م: لنصلّي
ج: أيُّها الربّ الذي مَنَح توما الشجاعةَ والقوّة، فتحمَّل في سبيلِ أخيه دِر ڤارتان، كلَّ عذابٍ وألَم، أَعطِنا أن نكون، في أعمالِنا كلِّها، شهداءَ لوصاياك وتعاليمك، بحِفظِنا إيّاها، وممارستِنا لها، حتى إذا دُعينا إلى شهادة الدم، نكونَ مستعدّين لها، فنمجِّدك إلى الأبد. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
م + ج: أبانا الذي في السّماوات...
م: المرحلة الثامنة
توما يبدي طيبة خاصّة تجاه دِر ڤارتان المعتقَل
ق: توجّه ثلاثة شرطيين إلى الدير، وقاموا بتفتيشه رأسًا على عقب، فصادروا كلّ أوراقنا ومخطوطاتنا... وبعد الانتهاء من تفتيش الدير غادروا المكان بعد أن ألحَّينا عليهم بإخلاء سبيل الأخ روفائيل الذي بقي في السجن اثني عشر يومًا، ولم يُطلق سراحه إلاّ لقاء خمسين ليرة تركيّة (١٢٣٠ فرنكًا تقريبًا) دُفعت في الحال، ووعدناهم بدفع مبلغ مماثل عند الفراغ من محاكمة دِر ڤارتان، في حال أُعطيت لنا الحريّة للعيش بسلام في ديرنا.
هكذا كانت نهاية العام ١٩١٦. منذ شهر أيلول، فقدنا كلّ اتصال بدِر ڤارتان، إذ بقي بين أيدي العدالة، ينقلونه من سجنٍ إلى آخر: شهران أولاً في أورفا، ثمّ في دمشق، ومجددًا في أورفا، ثمّ في حلب، ومجدَّدًا في أورفا، إلى أن التقينا به في مرعش في السجن نفسه، وأخيرًا في أضنة أمام المحكمة العرفيّة التي أدانتنا كلّنا معه، وبسببه.
خلال الشهرين اللذين أمضاهما دِر ڤارتان في سجن أورفا، وقبل نقله إلى مكان آخر، أبدينا له كلّ عطف واهتمام، وبعثنا إليه بالرسائل، لمساندته وتعزيته. وكان الأب توما يبدي طيبة خاصّة تجاهه.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربّ يسوع، لقد أرسلتنا كالخراف بين الذئاب، وحذرتنا بأنّ العالم سيبغضنا من أجل اسمك. لكنّنا متكلون على وعدك، بأن لا نخاف الذين يقتلون الجسد، ولا قدرة لهم على قتل الرّوح. أعطنا الشجاعة والقوّة لنبقى أمينين لكَ في الأيّام الصعبة، ونكون مستعدين لتأدية شهادة «الحبّ الأعظم»، على ما أكّدته في الإنجيل حين قلت: «ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذلَ نفسه عن أحبّائه».
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
م + ج: أبانا الذي في السّماوات...
م: المرحلة التاسعة
توما يُلقى القبض عليه في ديره
ق: بدأ العام ١٩١٧. في صباح اليوم الثالث من شهر كانون الثاني، بينما كان الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة آخذًا مجراه في كنيستنا، هجمت مجموعة من الشرطة المسلّحة بالبنادق، ودخلت الكنيسة، وسَدَّت جميع المنافذ، واعتقلت كلّ الرهبان. أمّا الكاهن المحتفل فتمَّت مقاطعته بعنف، إذ أمسكه رجال الحكومة بالبذلة، وأمروه بالنزول عن المذبح، ومرافقتهم على الفور. وجب علينا التنفيذ بسرعة، فاقتادونا إلى السرايّ، نحن رهبان الدير الأربعة: الآباء بنوا وبوناڤنتورا وتوما، والأخ روفائيل، وأحد الخدّام؛ وسط ذعر الناس الأتقياء الذين كانوا في الكنيسة، والراهبات الفرنسيسكانيّات، تاركين الدير مشرَّع الأبواب، ومعرَّضًا للنهب على أيدي الشرطة والجنود الأتراك.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربّ يسوع، إمنح الصبر إلى أبناءك الذين يسوقونهم إلى التحقيق، والشجاعة إلى المؤمنين الذين كانوا في الكنيسة. إرحمنا حين نسلّم لكَ صعوباتنا، واجعلنا نتذكّر أنّ آلام هذا الدهر لا توازي المجد الذي سيتجلّى فينا. طوبى للمضطهَدين من أجل البِرّ، فإنّ لهم ملكوتَ السماوات.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة (لحن: قام الله من مثواه)
شُهَداءُ أنقياءُ قد أَحبّوا روحَ العدلِ
لم يَهابوا هَولَ الموتِ فيه صَدُّوا روحَ الجَهلِ
قدّوسٌ مَن قد قَوّاهم في سبيلِ الاستشهادِ
قدّوسٌ مَن قد مَلاّهم بالإقدامِ في الجهــاد
م: المرحلة العاشرة
توما يُساق إلى المحكمة
ق: بعد ثلاثة أيام من اعتقالنا، تَوجَّهوا بنا إلى مرعش بحراسة شرطيَّين. إنَّ المسافة الفاصلة بين أورفا ومرعش كبيرة، ويجب علينا اجتياز الصحراء، سيرًا على الأقدام أو على ظهور المطايا.
ففي مساء اليوم الأوّل، سُلِّم أمرنا إلى ثلاثة أو أربعة جنود قاموا بتفتيشنا بعنف. ولَمّا حاولنا الاحتجاج، صَرخ فينا أحدهم، رافعًا يده، وهامًّا بصفعنا: «اسكتوا أيّها الكفّار الكلاب، وإلاّ سأعلِّمكم كيف تَسكتون».
لقضاء الليل، زَجّونا في سجن كلّه رطوبة، ومليء بالأقذار، حُشِرَ فيه جنود أكراد فارّين من الخدمة العسكريّة، استقبلونا بشتائم نابية. لم يكن لدينا ما نأكله، فاقتسمنا ليمونة واحدة فيما بيننا نحن الخمسة. ثمَّ جلسنا على الأرض بين الأوساخ لنرتاح وسط هؤلاء البرابرة الذين حَوَّلوا قسمًا كبيرًا من الليل إلى جحيم.
وفي اليوم التالي، كان علينا الانطلاق مجدَّدًا، واضطررنا لاستئجار الحمير، بعد أن دفعنا الثمن ثلاثة أضعاف الثمن العاديّ، إذ لم يكن لدينا أيّ خيار آخر: إمّا دفع ما طُلب منّا، أو السير على الأقدام.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربُّ يسوع، لقد قدَّم الأب توما دليل محبته الحقيقية لكَ إذ حمل في جسده علامات هذا الحُب الصادِق والأمين لمُخلِّصه وفاديه الذي اشتراه بدمه الثمين. وحين يأتي الشهداء حاملين عذاباتهم، ويأتي الصِّدِّيقون حاملين فضائِلهم، يأتي ابن الله في مجده ومجد أبيه، ويُجازي كلّ واحدٍ بحسب أعمالهِ التي عملها.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة (لحن: يا أمّ الله كنز البركات)
دربَ الشهداء، يا دربَ الصليب،
يا مِلءَ العطــاء، والحبِّ الغريب
عِشتُم في وفاء، مُتُّم في جَفاء،
قُمتُم في صَفاء، في النورِ العجيب
م: المرحلة الحادية عشرة
توما يُصاب ب التيفوس
ق: كان علينا، على طول الطريق، احتمال الهزء والشتائم من قِبَل الجنود وأفراد الشرطة الفارّين الذين اقتيدوا معنا لتسليمهم إلى السلطات العسكريّة. أمطرت علينا طوال النهار، فرفضت المطايا التقدّم، ما دفع رجال الشرطة إلى التفوّه بعبارات نابية ضدَّنا. وكان الأب توما مريضًا، ما جعله يقع عن مطيته ثلاث مرّات، فسخر منه الجنود الذين ادَّعوا أنّه سكران... وحين بلغنا عينتاب، رمونا في حظيرة حَوَّلوها إلى سجن، وأَسَرونا فيها ثلاثة أيّام. وكانت حالة الأب توما تزداد سوءًا، وما من وسيلة لمعالجته.
كان الطريق، انطلاقًا من عينتاب، أفضل حالاً، إذ كان باستطاعتنا استئجار سيّارة، أقلّه واحدة للأب توما. غير أنّ أولئك الأشرار رفضوا البتّة، رغم أنّهم رأوا حالة الأب المسكين المنحدرة نحو الموت. لقد فرضوا علينا ركوب الحمير، لأنّهم رأوا في ذلك وسيلة أفضل لابتزاز مالنا.
وصلنا إلى مرعش والأب توما على الرمق الأخير، إذ تَفشّى
التيفوس في جسمه.
م: لنصلّي
ج: أيّها الربّ يسوع، واجب علينا أن نحيي ذكرى الأب توما الشهيد الذي أحبّك حتّى الرمق الأخير، وظلّ أمينًا لك ولتعليم كنيستك المقدّسة، وقدّم نفسه من أجلك. أعطنا أن نقتدي به في عيش الإيمان، وقداسة السيرة، وقوّة المغفرة، وأن نتعمّق في الفضائل الإيمانيّة، وتكون عندنا الجهوزيّة الدائمة لعيش المحبّة والخدمة، ونشر السلام. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
ربّي أنتَ طريقي، في معاثر الحياة،
ربّي أنتَ رفيقي، عند ساعةِ الممات،
أنتَ وحدَكَ دَعوتْ، أنتَ وحدَكَ رَجَوتْ،
أنتَ غايةُ المُنى، أنتَ مَصدرُ الهَنا.
م: المرحلة الثانية عشرة
توما يعاني سكرات الموت في سجن مرعش
ق: حين وصولنا إلى مرعش أصرَّينا على استدعاء الطبيب لمعاينة الأب توما، لكنّهم رفضوا، فاستمرَّينا بالمطالبة طوال ثلاثة أيّام، حتّى أذنوا لنا ذلك، بعد تدخّل الأب باتريس، رئيس دير الآباء الفرنسيسكان في مرعش الذي تمكّن من ملازمة مركزه دون قلق، لأنّه هولنديّ الجنسيّة.
شعر عزيزنا الأب توما بالموت يقترب، فطلب الاعتراف، مصمِّمًا على تسليم أمره للربّ. وإذ كنّا نشجّعه على وضع ثقته بالربّ، قال لنا: «آه نعم، أنا كلّي ثقة به، إنّ الربّ لن يتركنا»، ثمّ أضاف: «أنا لا أخاف الموت، ولماذا أخافه؟ أليس الآب الرحوم هو مَن سيديننا؟ ألسنا نتألَّم الآن محبَّة به؟» ثمَّ دعا إخوته الذين كانوا يبكون، للصلاة معه.
التقينا دِر ڤارتان في سجن مرعش، فاقترب من سرير الأب توما المنازع وقال له: «أَتذْكُر بطاقة التعزية التي أرسلْتها لي، عندما كنتُ في سجن أورفا، منذ بضعة أشهر، وكتبتَ فيها أنّك كنتَ تطلب من يسوع ـ القربان بأن يعفيني من آلامي ويسلِّمك إيّاها»؟ «نعم»، أجاب الأب توما، «أَذكر هذا جيّدًا، ولستُ بنادمٍ على شيء، فلتكن مشيئته القدّوسة».
م: لنصلّي
ج: أيّها الربُّ يسوع، نذكر أمامَك شهيدنا توما البطل الذي فاحَ عَرفُ شهادته في كلِّ الأقطار، وذاعَ صيتُه كنَشرِ الطيب في المسكونة كلِّها. إمتلئ شجاعة فلم يَهاب الأخطار، ولا خاف من مواجهة الموت، صَونًا للأرضِ ولكرامة ساكنيها. عَشِق حَقَّكَ، والبنوّةِ لكَ، وحرّيّة تمجيدِكَ، فجابه الظُلمَ والاستبداد، واستحقّ أَكاليلَ المجدِ والانتصار. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة:
خُذ حياتي يا إلهي، إنّني أَبغي رِضاكَ، أَعطني حتّى المماتِ، أن أَسيرَ في خُطاكَ.
م: المرحلة الثالثة عشرة
توما يلفظ أنفاسه الأخيرة
ق: إنّ الأب باتريس الطيّب الذكر، لم يرتح له جفن مذ عرف بوضعنا المحزن، وبحالة الأب توما. فقد عمل جاهدًا للحصول على إذن نقله من السجن إلى مستشفى المدينة، وجاء بنفسه ليساعد في نقله بواسطة المحمل. ولَمّا صار في المستشفى، سارع إلى إيجاد شخصٍ غيور، ليعالج المريض، نهارًا وليلاً. بقي بقربه معظم الوقت، كالأمّ الحنون، مظهرًا أنّه تلميذ حقيقيّ لمار فرنسيس، أبينا السرافيمي، الذي أراد بأن نتفانى في خدمة إخوتنا المرضى، ونلطف بهم كأكثر الأمّهات اهتمامًا.
فَقَدَ الأب توما وعيه، وكان يهذي قائلاً: «عَجّلوا، تعالوا بسرعة، أَحضروا لي المناولة». مَنَحه الأب باتريس سرّ المسحة الأخيرة، ولفظ الأب توما أنفاسه الأخيرة بين يديه. حدث هذا في النصف الثاني من شهر كانون الثاني العام ١٩١٧، بعد وصولنا إلى مرعش بخمسة أيّام.
م: لنصلّي
ج: إنّنا، وإذ نُحيي ذكرى شهيدنا توما البطل، نسألُكَ، أيّها المسيحُ الإله، أن تَقبلَ جهادَه وذبيحة حياته. أعطنا أن نُجاهدَ مثلَه، لنتشبَّه بكَ أنتَ، يا مَن بَذَلْتَ نفسَكَ لأجلِنا. أُعضُدنا وقَوِّنا بنعمتِكَ، نحن الذين لا نزالُ في بحرِ هذا العالم المتماوج، عُرضةً لأخطارِ الغَرَق، فنجتازَ المراحلَ الصعبة، بالثقة والإيمانِ بِكَ، إلى أن نَبلُغَ ميناءَ الأمان، ونحظى مع شهيدنا توما بإكليلِ الظَفَر، ونُعظِّمَكَ وأباكَ وروحَكَ الحيّ القدّوس، إلى الأبد. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة :
يا سرًّا سامي المقام، يسوعُ صار طعام،
إبنُ الله في القربان، كإلهٍ وإنسانْ،
في سرِّ القربانِ ربّي معي مَدى الأزمانِ (٢)
م: المرحلة الرابعة عشرة
توما يموت كموت القدّيسين... الطوبى له
ق: سَبَّب موت الأب توما لنا حزنًا عظيمًا، فبكينا بكاءً أليمًا، لدرجة أنّ الجنود الأتراك أنفسهم، رفاقنا في السجن، تأثروا لحالنا، ما دفع بعضهم إلى مؤاساتنا.
وهكذا فقدنا أخانا العزيز، على طريق المنفى، في السجن، في ظروف كم هي أليمة. لقد فقدنا رفيقًا عزيزًا، صاحب الفضائل الرهبانيّة المثاليّة، فأحسسنا أنّنا في شقاءٍ قاتم... كان الأب تومال شابًا ذكيًّا وغيورًا، مزدانًا بالفضائل الرهبانيّة، واعدًا بمستقبل زاهر، لكنّ الربّ عمل منه شهيدًا للمحبّة... مات وسط آلام مبرَّحة، لأنّه أراد إنقاذ كاهن أرمنيّ من الموت. كافأه الربّ على محبّته البطوليّة، فمنحه مجد السَّماء، مجدًا زكيًّا لإرساليتنا العزيزة في أرمينيا.
أمّا السفير البابوي في استنبول، المطران دولشي Dolci ، فقال:
لقد انتقل الأب توما إلى حياة أفضل، بعد حصوله على أسرار الكنيسة المقدّسة. ترك هذا العالم بدون أسف، بعد أن قضى
التيفوس عليه. لم يخف أبدًا من الموت، فكان موته كموت القدّيسين. الطوبى له!
م: لنصلّي
ج: يا إله الأرواح والأجساد، يا من وطئتَ الموت وأبطلتَ الشيطان ووهبتَ الحياة لعالمك، أرح نفس عبدك هذا الراقد توما في مكان نيّر، في مكان خصيب، في مكان انتعاش، حيث لا وجع ولا حزن ولا بكاء ولا صريخ، لأنك أنتَ هو القيامة والحياة، فنرسل لكَ المجد مع أبيك وروحك القدّوس الصالح والمحيي، الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين. آمين.
م: طوبى لمن يتحمّل الآلام من أجلك يا ربّ
ج: فليكن له نصيبًا صالحًا في المجد الأبدي
ترنيمة (لحن باعوت مار افرام)
ألشهداءُ الأبرار مثلُ الأرضِ المشغولة
يُؤتــونَ عَذبَ الأثمــار عندَ اللّهِ مقبولــة
نشدو الآبَ صَفْوَ الحبّ في الشهداءِ الأبطالْ
نشدو الابنَ ذاقَ الصَّلب أَذكى في الصَّدرِ الآمال
تحميل نسخة PDF