السفّاحون الأكراد
(Les Missions Catholiques, N° 2612, 27 juin 1919)
1- قافلة الموت: قافلة الحياة الأبديّة
قام ممدوح وأعوانه بتحديد المواعيد لإعدام السجناء، وتنظيم عدّة قوافل، نظرًا لعدد السجناء الكبير، والانطلاق بها إلى خارج المدينة حيث سيتولى القضاء على كلّ مَن فيها.
إنطلقت القافلة الأولى المؤلّفة من 417 رجلاً يوم الجمعة 11 حزيران، يقودها حوالي مئة جندي وفرد من ميليشيا «الخمسين»؛ والقافلة الثانية المؤلّفة من 266 رجلًا، يوم الثلاثاء 15 حزيران؛ ثمّ قافلة ثالثة مؤلّفة من 600 رجل، يوم الجمعة 2 تموز.
بدأت استعدادات الرحيل يوم الخميس 10 حزيران مع انتشار شائعة تقول بأنّ جميع هؤلاء الناس ذاهبون للعمل في إصلاح الطرق. وبكلّ سخرية ودم بارد، طُلب من الأهالي تأمين الكساء والغذاء والمال. وبما أنّ الطمع بالدمّ يتوافق مع الطمع بالربح المادي، سيتمّ تجريد الضحايا من كلّ شيء قبل الإجهاز عليهم.
ما أن غادرت القوافل ماردين، لم يعد أحد يعرف ما حصل لها. الشهود الوحيدون هم القتلة الأكراد وعناصر ميليشيا «الخمسين» الذين سيروون تفاصيل ما جرى أمام بعض المسيحيين الناجين من المجازر.
من بين الذين كتبوا عن تلك المجازر، تبرز روايات الشهود العيان الأربعة وهم: القسّ إسحق أرمله السرياني الكاثوليكي، والآباء الدومينيكيون الثلاثة ياسنت سيمون، وجاك ريتوريه، وماري دومينيك بِرّيه. سوف نحاول التأليف بين الرويات الأربع، وتقديم الرواية الأكثر كمالاً.
2- الإسلام أو الموت
في العاشر من حزيران، عند منتصف الليل، وقبل ساعة واحدة من رحيل موكب الجنازة الأوّل، لم يستغرب السجناء الموثوقون رؤية شيخ مسلم يتبعه خمسة وعشرون من الملّا [أصلها المولى] يتوجّهون إليهم، شاهرين سيوفهم. هذا، ولم يفكّر الأسقف ورفاقه قط بأن يقضوا في ماردين نفسها.
- اختاروا بين الأسلمة والموت، قال لهم الشيخ…
- إختيارنا قد تمّ، أردف السجناء بصوت واحد، الموت…
وقد عرفوا الموت، فعلاً، بعد ساعات، في الجبل.1
3- مسيرة محزنة تَعبر المدينة
كانت ليلة الخميس عاشر حزيران ليلة عصيبة مشؤومة… كنت ترى في تلك الليلة السوداء التاعسة جنود الظلمة صاعدين إلى القلعة ونازلين مهرولين حاملين أغلال الحديد والحبال الضخمة والزناجير إلى السجن والثكنة. فكانوا يدعون زوجًا زوجًا، ويربطونهم ربطًا محكمًا لئلا يفرّوا من بين يديهم. يا للخبث واللآمة! ثمّ أفرزوا منهم الذين كانوا منضمين إلى الجمعيّة الأرمنيّة المزعومة، وكبّلوا رقابهم بالأغلال، وأَوثقوا معاصمهم بالسلاسل. وتشاغل الخصوم بالربط والشدّ والغلّ حتّى الهزيع الأخير من الليل، كذئاب هجمت على خراف، أو بواشق انقضّت على حمام، أو نمورة نشبت براثنها بفريستها.
وبعد أن رتبوهم زوجًا زوجًا، أخرجوهم من باب السجن والثكنة، وتكوكبوا عليهم من كلّ صوب، مشهرين فوقهم الأسلحة والسيوف، وأمروهم أن يلزموا الصمت التام. وبعثوا من فورهم مناديًا ينادي في المدينة: «مَن مِن النصارى خرج من داره مُثل به وأُضيف إلى أصحابه».
فساروا في الجادة العموميّة غلس [ظلمة آخر الليل] الخميس، وعددهم أربعمائة وسبعة عشر، من إقليرس وشيوخ وشبان أرمن وسريان وكلدان وبروتستان.2
سارت القافلة الطويلة بقيادة ممدوح بك، برفقة رجال الدرك والشرطة والميليشيات، واجتازت شارع ماردين الرئيسي. وكان المطران مالويان في القافلة، موثوقًا مثله مثل الآخرين، ومعه اثني عشر كاهنًا من أبرشيّته، وأربعة كهنة سريان كاثوليك، والأب ليونار ملكي الكبّوشي. ولَمّا مرّت القافلة في حيّ المسلمين خرجت النساء تصيح وتصرخ وتستهزئ بالموقوفين، ويرعدن عليهم بالويلات، وكان الأولاد يرجمونهم بالحجارة، ويسخرون بهم بأعلى أصواتهم.
4- مراثي أهل ماردين
إختلط صراخ هؤلاء المهووسين ووعيدهم بعويل الابتهالات الصادرة عن النساء المسيحيّات اللازمات بيوتهنّ، أو الواقفات على السطوح مع الأطفال، يبكين الفراق، ويطلبن من الله تخفيف العذابات عن أحبائهم، فكانوا كمريم العذراء التي ترافق ابنها الحبيب إلى الجلجلة، وهم يرافقون أحبّاءهم، ولو بنظرات بعيدة، حتّى الخروج من المدينة.
أمّا المسيحيّون فكانوا يسيرون صامتين نظير فاديهم وربّهم المحبوب، لا يُسمع لهم صوت ولا تمتمة، موثوقين ومحاطين بالعسكر الذي لا يتردّد عن معاقبة المتأخرين بالضرب الوحشي، ولو كانوا من الشيوخ أو المرضى أو الجرحى.
وحين وصولهم إلى باب المدينة الغربي، خرج كلّ من الرهبان الإفراميين والمرسلين الأمريكيين إلى سطحَي معهديهم لينظروا إلى أصحابهم النظرة الأخيرة، ويقرأوا عليهم آيات الوداع. فألقوهم في حال كئيبة مرعبة تجمد الدماء في العروق، وتلقي الرعشة في الأبدان.3
5- أيّها الفرنجيّ القذر
يتوقّف الأب ريتوريه الدومينيكي، الشاهد العيان، عند سلوك الأب ليونار ويقول:
كان الأب ليونار الكبّوشي يسير على رأس القافلة بين أخوين من رهبنة مار فرنسيس الثالثة للعلمانيين. ولَــمّــا مَرَّ من أمام ديره، رفع رأسه محيّــيًا للمرّة الأخيرة ذلك المقام المقدّس، حيث عاش سعيدًا يزرع الخيرات. وفي الحال، وَجَّه الحارس ضربة من عصاه الغليظة على رأسه، مصحوبة بشتائم بذيئة ومهينة: «أيّها الفرنجي [المواطن الفرنسي وبالتالي الأوروبي والكاثوليكي] القذر، هَيّا تَقدّم»، وصاحب المأثرة هذه هو بذاته سرد هذه الحادثة متفاخرًا، مضيفًا: «أَمَرني رئيسي بأن لا أتهاون مع هذا الفرنجي».4
6- موكب مهيب
يقدّم الأب ياسنت سيمون، الشاهد العيان، رواية مماثلة ننقلها ها هنا ولو كان فيها بعض الترداد عن رواية زميله السابقة:
نحن في يوم الخميس، العاشر من حزيران، والساعة تُشير إلى الواحدة صباحًا. كان الموكب الحزين يتقدّم، في بطء وصمت، في شوارع المدينة. غير أنّ الكهنة والمؤمنين الماردينيين، وقد تنبَّهوا منذ العشيّة، ظلّوا متيقظين ساعات طويلة، يرصدون الرحيل، ويترقبون: الكهنةُ لحلّ الخطايا، والمؤمنون لإلقاء التحيّة للمرّة الأخيرة.
كانوا يمشون، مربوطين الواحد إلى الآخر بحبال كبيرة. البعض منهم يحمل السلاسل في الذراع، والبعض الآخر أُخضعت عنقُه لحلقات من الحديد، يُحيط بهم مئة من جنود الميليشيا.
ما من كلمة في صفّ المساجين: فحكم الموت كان حاضرًا لكلّ مَن يعلو صوته. أمّا نحن، فكنّا نسمع، من خلال حفيف السيوف، صوتَ طرق القلوب من جهة، وصراخَ النساء والأطفال ووداعَهم من جهة أخرى.
كانت ليلةً لا مثيل لها… وزادت العتمة في إضفاء مشهد عزاء عميق، وفي إخفاء ما كان لهذا المشهد من قلّة شفقة. لكنّ العين العربيّة، المتمرّسة على رؤية الظلال، تمكّنت من ملاحظة التفاصيل التالية:
كانت كلّ مجموعة مؤلّفة من أربعين سجينًا وكاهنًا، والقصد من هذا الترتيب إذلالُ الكهنوت من خلال إشراكه بالجرم المزعوم، لكن ما حصل ساهم بتقريب الدين من المصيبة.
شوهد سجينٌ يبلغ الخامسة والسبعين من العمر، محاطًا بأولاده وأصهرته، يساعده في مشيه الوَرَعُ البَنَويّ، وإيمانُه الدينيّ.
وشوهد أيضًا الأب ليونار الكبّوشي يُضرَب بعنف لدى مروره من أمام ديره… وكان له شرف افتتاح الموكب، محاطًا باثنين من الثالثيين الفرنسيسكان.
وشوهد، أخيرًا، سيادة المطران مالويان، مكشوف الرأس، حافي القدمين، والأغلالُ في عنقه، ينهي المسيرة، ويُحيط به شرطيّان. واستطاع الحبر، على الرغم من السلسلة التي كانت تربط إبهامَيه، أن يُلقي بركة أخيرة على مدينته الأسقفيّة…
وامتلأت كاتدرائيّة السريان الكاثوليك سريعًا بالمؤمنين المذعورين. ففي الملمّات العامّة، يبقى المذبح مكان ملتقى وعزاء. وعرفت الكاتدرائيّة مشاهد لا تُنسى: نساءٌ تجتاز باحة الكنيسة على الرِكب، والرِكبُ تتدمّى؛ أمّهاتٌ تصلّي باكيات؛ أطفالٌ يُتّموا منذ ساعة يتوسلون، لا انتقامًا، بل أعجوبة.
وقد حصلوا على الأعجوبة، وكانت الأحلى بين الأعاجيب: إنّها أعجوبة ثبات المساجين في إيمانهم.5
7- « ننال ننال جزانا في السماء »
باستطاعتنا القول إنّ القافلة الأولى من السجناء، كما القافلة الثانية التي انطلقت من ماردين بعد أربعة أيام، ردّدت ترتيلة الأب الطوباوي يعقوب الغزيري الكبّوشي، المستوحاة من ترتيلة فرنسيّة تقليديّة لمريم العذراء عنوانها “سوف أذهب لرؤيتها يومًا”، كان الأب ليونار أتى بها من لبنان أثناء زيارته إلى بعبدات، العام ١٩٠٦ أو ١٩١١، ولقائه الأب يعقوب، وتقول:
ننال ننال جزانا في السماء، ننال ننال جزانا في السماء
جزانا في السما لم تسمع به أذن، ولا رأته عين جزانا في السما
جزانا في السما هذا من الإيمان، وضيق ذا الزمان لا يوازي الجزاء6
8- « سنموت في سبيل يسوع المسيح »
أثناء هذه المأساة السريعة، كانت قافلة المسيحيين تُكمل طريقها، وقد عَرفت المصير الذي خُصِّص لها. وصلَت شيخان، وهي قرية كرديّة تقع على مسافة ست ساعات من ماردين، حيث أَوقف ممدوح بك القافلة، وبدأ بقراءة فرمانًا إمبراطوريًّا مزعومًا، رُكِّب كالتالي: «إنّ الحكومة الإمبراطوريّة قد غمرتكم بإنعاماتها: حريّة، مساواة، أخوّة، عدل، وظائف هامّة، مراتب شرفيّة؛ ومع ذلك فقد خُنتموها. وبسبب خيانة الوطن العثماني فإنّ حكمًا بالموت قد صدر عليكم جميعًا. مَن منكم يُشهر إسلامه يعود إلى ماردين سالمًا مكرَّمًا. سيتمّ تنفيذ الإعدام فيكم بعد ساعة من الآن. تهيّأوا واتلوا صلاتكم الأخيرة…» ثمّ أضاف، جامعًا السخرية بالكذب: «لقد أعطتكم الإمبراطوريّة، في الماضي، ألف امتياز، وهي تعطيكم، اليوم، ثلاث رصاصات…»
عندها، انتصب سيادة المطران مالويان في وجه شتيمة الخيانة التي وُجِّهت إليه وإلى رفاقه، بالرغم من ضعف قلبه ووهن صحته، ينوء تحت ثقل التعب والحزن، وقام بالواجب الذي تمليه عليه أسقفيّته ومواطنيّته. بصفته الأسقفيّة، رفض الارتداد المقترَح، وبصفته الوطنيّة، أَكَّد إخلاصه لوطنه. وأجاب باسم الجميع، وبإجابته وَقَّع مرسومَ موته وموت رعيّته، لكنّه خَلّد اسمه وأعماله، واسم إخوته في يسوع المسيح وأعمالهم. قال الحبر:
- «نحن بين أيدي الحكومة، أمّا بالنسبة إلى الموت، فسنموت في سبيل يسوع المسيح…»
- «في سبيل يسوع المسيح»، ردّد رفاقه الأربعمئة والأربعة.
ثمّ أردف: «لم نكن قطّ خونة للأمّة العثمانيّة، ولسنا، اليوم، خونة لها. أمّا أن نصبح خونة للدين المسيحي، فذلك مستحيل…»
- «مستحيل»، أعاد رفاقُه الأربعمئة والأربعة القول.
وأضاف الأسقف أخيرًا: «سنموت، ولكنّنا سنموت في سبيل يسوع المسيح».
- «في سبيل يسوع المسيح»، كرّر رفاقُه الأربعمئة والأربعة.
وخرج من الصفوف، فجأة، أحد العلمانيين واسمه رزق الله مرشو، ومدّ يديه، وقال للجنود: «أقتلوني، وستعرفون كيف يموت المسيحي…» ولكنّ ساعة الإعدام لم تكن قد أزفت بعد.7
9- « العشاء الأخير »
وأراد الكاثوليكيّون إثبات إيمانهم في لحظات حرّيتهم الأخيرة، فجرى مشهدٌ لا يوصف، وهو شبيه بالمشهد القديم الذي كان فيه الشهداء مجموعين في حلبات روما ينتظرون النمور والفهود. لكنّ المدرّج، هنا، كان أكثر من واسع، والوحوش أكثر من مفترسة، والوِحدة كبيرة جدًّا.
وتحرّك الأسقف والكهنة بين صفوف المؤمنين، وأعطوهم الحلّة الأخيرة، والتعازي الفائقة. ثمّ أخذ الأسقف خبزًا وقدّسه، ووزَّع الكهنةُ أجزاءَه المقدّسة لكلٍّ من المؤمنين. وحكى فيما بعد جنديٌّ كان حاضرًا أنّه، أثناء التقديس والمناولة، غطّت غمامة سميكة كتيبة المناضلين، وأخفتها تمامًا عن أعين المسلمين. فالله خاط فجأة ستارًا حجب الأمور المقدّسة عن فاقدي الإيمان.8
ولَمّا كان المسيحيون راكعين يناجون الله مولاهم، هبط عليهم غمام نوري غطّاهم أثناء الصلاة، وفاحت في تلك البقعة روائح زكيّة طاب عرفها، وحلا شذاها مما لم يستنشقوا مثلها قط، ولاحت على محياهم أنوار عجيبة باهرة استلفتت أبصار القساة الواقفين، ولكنّها لم تؤثر في أنفسهم لشديد حنقهم واسترسالهم في الخبث. على أنّهم، كما أقرّوا على نفسهم، لم يروا في غابر حياتهم، ولن يروا أيضًا رؤية كذا عجيبة غريبة. ثمّ أنّ المسيحيين وراعيهم وأقسّتهم ابتسمت ثغورهم، وعلت سمات الجلال جباههم، وأحسّوا بتجديد قواهم، ورقصت أنفسهم طربًا، وخُيّل لهم أنّهم في نعيم السماء يحبرون، وقد ثملوا بحميا الغرام نحو فاديهم العطوف الحنون.9
وما أن انتهت ولائم المحبّة الأخويّة الأخيرة، حيث تمّ كسر خبزِ الحياة، اختفت الغمامة، وغدا في مقدور المناضلين السير نحو الموت. ولم يُسجَّل أيُّ تخلُّف…10
10- إستشهاد الأب ليونار ورفاقه
بعد هذا المشهد المهيب، بدأ ممدوح بك تنفيذ خطته الإجراميّة، وأطلق العنان لجنوده المتوحشين. بدأ بالفرز الأوّل. أخذ مئة من المبعدين الأربعمئة والخمسة، وقادهم إلى المكان المعروف باسم «مغارات شيخان»، حيث لم تترك الكهوف العميقة التي قضت على الضحايا مجالاً لسماع تضرّعاتها الأخيرة.
وما إنْ عاد الجلاّدون، إختار ممدوح بك مئة شهيد آخر، اقتيدوا على بعد ساعة من هنا، إلى المحلّة المعروفة بـ «قلعة الزرزوان»، حيث قُتلوا فيها جميعهم، أربعة بعد أربعة، بضرب الحجارة، والخنجر، والسيف القصير، واليطقان، والهراوة، وأُلقي بهم في الآبار. وتحتفظ القلعة القديمة، إلى عظام أبطالنا، سرَّ لحظاتهم الأخيرة. وحدهم الجلاّدون، الصامتون اليوم، في إمكانهم أن يردّدوا، غدًا، كلمات إخوتنا الأخيرة، وثباتهم في الإيمان.
بقي المسيحيون المئتان والخمسة، ومنهم المطران مالويان. ولم يكن من الحكمة إعدامهم حيث هم، فاقتيدوا في اليوم التالي إلى مكان أبعد بقليل، وهي طريقة بارعة في إطالة عذابات كاثوليكيينا الجائعين، المعرّين، المقيَّدين، السائرين حفاةً عبر حجارة الطرق وأشواك الحقول. وقد مشوا ساعتين، ولَـمّـا بلغوا أحد الأودية العميقة، على بعد أربع ساعات من ديار بكر، قُضي عليهم جميعًا، في الحادي عشر من حزيران، وكان يوم جمعة، عيد قلب يسوع الأقدس.
وحظي موت الشهداء بإعجاب الأكراد أنفسهم الذين سارعوا ليتوزّعوا حصّة الكلاب من الصيد، فقال أحدهم: «لم نرَ أبدًا ثباتًا دينيًّا كهذا. لو أنّ المسيحيين انقضّوا علينا، لأسباب مماثلة، لتحوّلنا جميعنا، بطلب منهم، إلى المسيحيّة».11
سوف يجد القارئ، في الملحق، القائمة النهائية للأشخاص المعروفين الذين قُتلوا في ماردين، العام 1915، في شهر حزيران والأشهر التالية.
11- المطران مالويان، الضحيّة الأخيرة
بَيد أنّ المطران مالويان لم يُعدم في تلك الأثناء، إذ إنّ الشرطة، لزيادة آلامه، أَجبرته على امتطاء جوادٍ وتقدّم القافلة، ليموت مفصولاً عن رعيّته. وهكذا، وصل وحيدًا إلى قَرَه كَبرو، على مسافة 3 ساعات من ديار بكر، حيث كان يجب عليه أن يموت. وعندما أُبلغ النبأ الكئيب، سأل وقد انشغل فكره: «أين هم أولادي؟»، فأُجيب: «سيموتون…».
عندها، وبدون أيّ اضطراب، بدأ الأسقف تهيئة نفسه للمثول أمام ربّه. لكنّه وجب عليه الإجابة على سؤال ممدوح بك الأخير:
- «قُل لنا، هل تملكون قنابل أم لا؟».
وأجاب الأسقف:
- «لو أنّه كانت لدينا قنابل لما جعلتم أبنائي يتحمّلون ما أضمرتموه لهم…».
- «هذا جيّد…».
وفجأة، أُطلقت رصاصةٌ في عنق الحبر، فسقط مضرّجًا بدمائه، ومات…
كان رئيس أساقفتنا العزيز والشجاع في السادسة والأربعين من عمره، وفي العام الرابع لولايته الأسقفيّة. وثمّة، بعد، تفصيلٌ نموذجيّ: فقد أسرعت الشرطة إلى ديار بكر وجعلت الأطباء يوقّعون على «أنّ وفاة المطران مالويان، أثناء الرحلة، حصل بفعل انسداد في شرايين القلب».12
12- تفاصيل إضافيّة عن الأب ليونار
في هذا الموقع المخصّص للأب ليونار، لا بدّ لنا من إيراد جميع التفاصيل المتعلّقة باستشهاده، الآتية من روايات الشهود وإخوته في الرهبنة الكبّوشيّة:
• كانت كتيبة المرسَلين الكبوشيين مدعوّة، هي الأخرى، إلى تقديم ضحية من ضحايا المحرقة. ففي حزيران 1915، انطلقت من ماردين قافلة كبيرة من المعتقلين المُبعدين، مؤلّفة من 780 رجلاً [نظرًا لعدد المعتقلين الكبير، قسمهم السفاحون إلى قافلتين : الأولى، مؤلّفة من 417 رجلاً، انطلقت في 11 حزيران، وكان فيها المطران مالويان والأب ليونار؛ والثانية، مؤلّفة من السجناء الباقين، انطلقت في 15 حزيران]، وتضمّ الأسقف الأرمني [المطران مالويان] و17 كاهنًا من طائفته، وواحد من آبائنا، أصله من لبنان [الأب ليونار]. معظم أولئك الأبطال، الذين فضّلوا الموت على الارتداد، أُعطوا المناولة من يد الأسقف، قبل الذهاب إلى الذبح. كُـبّلوا أزواجًا وقَطَعوا، صامتين ومستسلمين، رحلة طويلة انتهت في مذبحة جديدة. تحيد عين الإيمان عن ركام الجثث المشوّهة لتبحث عاليًا عن الأرواح التي تحلّق في حلّتها الأرجوانيّة.13
• كان في هذه القافلة، أحد المرسَلين الممتازين، الأب ليونار البعبداتي الجليل، اللبناني الجنسيّة. كان لم يزل في مركز الإرساليّة في ماردين، وتمّ طرده من مكان إقامته، فحلّ ضيفًا عند أحد المسيحيين البواسل في المدينة، ومعه القندلفت. وسرعان ما أُلقِيَ القبض على الثلاثة، ووَضعوا لهم الأغلال، وسُجنوا مع اثنين من المعلّمين في مدرستنا، وقد لقوا حتفهم جميعًا، فاستحقّوا، عن جدارة، إكليل الشهادة.14
• في تلّ أبيض، كانت تُقيم فرقة من السينيغاليين، التقينا فيها اثنين من تلامذتنا في ماردين. كان الأوّل رئيس المحطّة، والثاني عامل تلغراف. وكان من بينهما أحد أبناء معلّم اللغة العربيّة الممتاز الذي خدم في الإرسالية لأكثر من ثلاثين عامًا، والذي تمّ قتله في القافلة التي قُتل فيها الأب ليونار.15
• إنّ مجلّدًا كبيرًا لا يكفي لوصف المشاهد الدمويّة التي تتالت في تلك المناطق القاحلة. باستطاعة القارئ تكوين فكرة موجزة عن الذي حصل فيها بالاستناد إلى ما كتبه رئيس الإرساليّة، الأب آنج دوكلاميسي، إذ يقول:
الأب ليونار ملكي
(P. Clemente da Terzorio, Le Missioni dei Minori Cappuccini, Vol. VI, p. 485)
فيما نذكر، بشكلٍ خاصٍّ، أولئك الَّذين سقطوا في الوادي الصَّغير في البرّيّة، الواقع على أطراف ماردين، ونعرفه جيِّداً، حيث كانت تنتظرهم فصيلةٌ من الجنود الأتراك وعصابات الأكراد النهّابة لقتلهم في مجموعاتٍ صغيرة، لا يمكننا إلاّ الاعتقاد أنَّهم ماتوا وهم ساجدين، في موقف المعترفين بالإيمان. لأنَّه، في هذه القوافل الطَّويلة الَّتي كانت تُفرغ المدينة من سكَّانها، والَّتي كانت تجرُّ السُّكان المسيحيِّين إلى مكان الإعدام، كان هناك أسقفٌ أرمنيٌّ كاثوليكيٌّ مقدام ، وكهنته، وجمعٌ من المسيحيِّين؛ وبينهم عددٌ كبير من الثَّالثيِّين التَّابعين لأخويّاتنا وعددهم حوالي المئة رجلٍ وأكثر من ثلاثمائة امرأةٍ؛ من ثمَّ، وبدون شكٍّ، نساءٌ وفتياتٌ من مشاغل أخواتنا راهبات الفرنسيسكان لونس لوسونييه: وبكلمة واحدة، إنّهم جميع الَّذين كانوا يقصدون هذه المائدة المقدسة، حيث كنَّا نعطي أكثر من 25،000 قربانة في العام الواحد.
أخيرًا، وفي يوم من الأيَّام، وفي إحدى القوافل التي تضمّ المحكوم عليهم بالموت، كان هناك واحدٌ منَّا، هو الأب ليونار البعبداتي ، المرسل الكبّوشيّ الشابّ، ولا معلومات لدينا أكثر من ذلك. مثله مثل الآخرين، تمَّ قتله، ولمرةٍ أخرى، تلطَّخ الثَّوب الفرنسيسيّ بدم الشُّهداء.
كلُّ هذه التَّفاصيل العاجلة، وصلتنا من الأب دانيال الجزيل الاحترام، أحد المرسَلين في ماردين، الشيخ الجليل الذي يناهز عمره الثمانين عامًا، قضى منهم 55 سنةً في الرِّسالة. وقف شاهدًا عاجزًا على نهب كنيسته وديره. أُلقي في السجن، ثمّ نُفي إلى كونيا، وبقي فيها حتّى إعلان الهدنة، حين تمكن مفوّض فرنسا في القسطنطينيَّة إرساله إلى مقرِّنا في ليون.16
• غير أنّ الأماكن المهجورة لم تَفرَغ، إذ بقي فيها أحدهم وهو حبيبنا الأب ليونار. كان لا يزال في ماردين، مع أنّنا دعوناه للمجيء إلينا. كتب لنا قائلاً بأنّه يرغب في الخروج من بين هؤلاء المتوحشين، وبأنّه لا يريد أن يموت قتلاً. وكان قد عمل على ترحيل الراهبات، لكنّه بقي هناك، لأنّه، في اللحظة الأخيرة، قال له الأب دانيال، باكتئاب، وهو ٱبن الثمانين سنة الذي لم يُطق فكرة الرحيل: «حسنًا، أتريدون أن تتركوني لوحدي؟» ولساعته، قرّر الأب ليونار البقاء، بدافعٍ من المحبّة لهذا الراهب الجليل، ليس إلاّ.
فيما بعد، رُحِّل الأب دانيال إلى قونية. أمّا الأب ليونار، فقضى ضحيّة محبّته. وأوضح الأب أتال، في رسالةٍ وصلَتنا حديثًا من أورفا، بتاريخ ٢١ كانون الأوّل ١٩١٩ : «تَسنّى لنا أن نعرف من القسّ يوسف، وهو كاهنٌ من ماردين، أنّ الأب ليونار قُتل، في ١١ حزيران ١٩١٥، في زيرزوان، بالقرب من ديار بكر، بعد أن كرَّر رفضه الدخول في الإسلام، وبعد تَعرُّضه للجَلد، بسبب رفضه هذا، وبعد أن تَمكَّن من مَنح المسيحيّين المساقين معه الحَلَّةَ السريّة».17
• لم يعلم رؤساء الرهبنة الكبّوشيّة مصير المرسَلين إلاّ بعد ثلاثة أشهر، وذلك من خلال رسالة مشفرة كتبها الأب لويس ميناسيان من خربوط، وأرسلها بواسطة الأب بنوا دوميدباخ الكبّوشي الألماني، وتقول:
صديقي العزيز
الشكر للّه، نحن بصحّة جيّدة. قولوا للسيّد كلامسي [الأب آنج دوكلامسي، رئيس إرساليّة ما بين النهرين] وراف [الأب رافايل ديزيتابل، الرئيس الإقليمي] بأنّ النعاج [المسيحيون] الموكول أمر العناية بها إلى بازيل [الأب بازيل تشيليبيان من ديار بكر] ولويس [الأب لويس ميناسيان من خربوط] ماتت في الجبال. إنّهم متأسفون للأمر، ويريدون مغادرة مركزهم.
إنّ النساء [الراهبات] الساكنات في كرم السيّد راف [دير الإرساليّة] هنّ معنا، ويهدونكم السّلام. صلّوا دوبروفونديس [من الأعماق: صلاة من أجل الموتى] من أجل جميع أصدقائكم.
إنّ ليونار [الأب ليونار البعبداتي] وأخته مارديسا [راهبات ماردين] غادرا البيت مع العائلة [تمّ نفيهم من الدير مع سكّان المدينة] ولا ندري إلى أين ذهبوا.18
• بعد خروج الأب بونافنتورا فاضل من السجن في أضنه، وعودته إلى لبنان، بعث برسالة من بيروت إلى زميله الأب بولس كنج البعبداتي الكبّوشي يقول فيها:
… أنتَ وحيد غربتي الذي بقيت لي من بعد إخوتنا الذين ذهبوا ضحيّة الحرب. بل راحوا شهداء اشتهدتهم خناجر البرابرة بقساوة يندر مثالها. أمّا لونردوس [الأب ليونار] فقتلوه في ماردين في مَنْ قتلوه من الأرمن، وأمّا توما فقد توفّي في الحبس حيث كنتُ أنا. رحمة الله على ذينك الأخين اللطيفين رحمةً واسعة.19
• يقول الأب آتـال دوسانتيتيان الكبّوشي الذي تمّ ترحيله إلى فرنسا مع باقي المرسَلين الفرنسيين، في رسالة إلى رئيسه العامّ بعث بها من بيروت بعد عودته إليها:
أدّت المجازر وعمليّات الترحيل التي حصلت إبّان الحرب إلى انخفاض ملموس في عدد المسيحيين الكاثوليك في هذه المدينة. وبالرغم من حزننا على خسارة هذا العدد الكبير من الكهنة والمسيحيين، لنا عزاء أكيد لمعرفتنا بأنّهم ماتوا حقًّا شهداء إيمانهم. من بينهم، يضيء الوجه الجميل لأخي العزيز ورفيقي الأب ليونار البعبداتي الجليل.20
• بناء على طلب مجمع الكنائس الشرقيّة في روما، قدّم الأب آنج دوكلاميسي، رئيس إرساليّة الكبّوشيين في بلاد ما بين النهرين، تقريرًا إلى المجمع عن أوضاع الإرساليّة أثناء الحرب وبعدها، يقول فيه:
لاقى الأب ليونار البعبداتي، من الجنسيّة اللبنانيّة، أبشع معاملة في السجن، وكان في عداد الأرمن الكاثوليك الذين ذُبحوا في ماردين، في حزيران العام 1915، مع رئيس الأساقفة إغناطيوس مالويان وكهنته.21
• يروي الأب ريتوريه هذه القصّة التي تشرّف رهبنة مار فرنسيس الثالثة للعلمانيين التي كان الأب ليونار مرشدها، ويقول:
آن لنا أن نحيي بإعجاب الشجاعة المسيحيّة. سيقت قافلة من مسيحيي ماردين باتجاه نصيبين، وكان بين أفرادها شاب وسيم اسمه الياس كسبو، تَميّز بأنّه مسيحيٌّ صالحٌ، ومفخرة الإخوة في رهبنة مار فرنسيس الثالثة للعلمانيين. لَــمّــا دَنَت ساعة ذبح مَن في القافلة، ورأى رفاقه يُنحَرون الواحد تلو الآخر، تَمَلَّكه الرعب أمام ذلك المشهد، فانهار من شدّة الخوف، وارتعدت فرائصه، وبدأ بالبكاء المرّ. ولَــمّــا حان دوره، سخر منه الجلاّدون الذين رأوه على تلك الحال، فدفعوه بازدراء وهم يقولون له: «يا غبي، إجحد مسيحك، وأعلن إسلامك، وإلاّ تَلقى مصير زملائك».
في تلك اللحظة، هَبَّت في قلبه نفحة شجاعة عارمة، فأجاب الجند بجرأة: «لن أجحد المسيح أبدًا لأصبح مسلمًا».
وقيل لنا بأنّ جلاّديه تلذذوا في التنكيل به، وبدأوا يقطعون أعضاءه الواحد تلو الآخر. أثناء ذلك لم يُسمع من فم المسيحي البطل إلاّ هذه العبارات: «من أجلك يا يسوع». وأَسلم الروح في غمار تلك العذابات الهائلة. واقتنع جلاّدوه بأنّ القدرة الإلهيّة وحدها هي التي سندت هذا الشاب الذي كان مرتجفًا أمام الموت ليتغلّب عليه بهذه الشجاعة النادرة.22
• كان المطران إسرائيل أودو (6 آب 1859-16 شباط 1941)، مطران الكلدان في ماردين، يدوّن الأحداث وبعض الخواطر على قصاصات من الورق يحرص على وضعها في مكان آمن خوفًا من بطش العسكر التركي. وكانت أخبار المجازر في ماردين ترده من شهود عيان، وهو يدوّنها باللغة الكلدانيّة. وما أن انتهت المذابح حتّى تمكن من إرسال هذه القصاصات إلى أحد أقاربه في العراق.
منذ 15 سنة، صدر في السويد كتاب بعنوان «تأريخ» يجمع محتوى هذه الأوراق، وينشرها بعد ترجمتها إلى اللغة السريانيّة الغربيّة. وفيما يلي ما كتبه المطران إسرائيل أودو عن الأب ليونار ملكي الكبّوشي:
الأب ليونار الكبّوشي مارونيّ الأصل من جبل لبنان. هذا أُلقي القبض عليه في 5 حزيران 1915 . ولمّا وصل إلى السجن، استقبله البواب، ورفع يده، ولطمه على وجهه بشدّة. واجتمع عليه حالاً الجنود، وبدأوا يجرحون وجهه، ويرفسونه من كل جهة، وينزعون شعر ذقنه، ويبصقون على وجهه، ويرشقونه بكلام قذر ونجس، حيث لا تليق بشخصه، بينما هم، منذ صغرهم، معتادون على لفظ مثل هذه الكلمات. ثمّ علّقوه من رأسه لمدة ساعتين. واجتمع الجنود عليه وضربوه بالسوط والعصي بضراوة. ثم أنزلوه، وبدأوا يستأصلون أظافر يديه ورجليه، ثمّ رموه على الدرج من أعلى إلى الأسفل، ووقع مغميًا. أخيرًا، سيق مع القافلة الأولى من شهداء ماردين، وقُتل معهم.23
• يقول الأب آنج دوكلاميسي، رئيس إرساليّة الآباء الكبّوشيين في بلاد ما بين النهرين ما يلي:
أخيرًا، وفي يوم من الأيَّام، وفي إحدى القوافل التي تضمّ المحكوم عليهم بالموت، كان هناك واحدٌ منَّا، هو الأب ليونار البعبداتي ، المرسل الكبّوشيّ الشابّ، ولا معلومات لدينا أكثر من ذلك. مثله مثل الآخرين، تمَّ قتله، ولمرةٍ أخرى، تلطَّخ الثَّوب الفرنسيسيّ بدم الشُّهداء.24
• وإلى الذين يسألون: ما هي الطريقة التي استعملها الجنود الأتراك لقتل الأب ليونار؟ إنّ الشخص الوحيد الذي تكلّم عن هذا الموضوع هو الأخت مريم الانتقال، الراهبة الكلدانيّة الماردينيّة الفرنسيسكانيّة التي روت ملابسات الجريمة وقالت:
أخيرًا، أتى اليوم السعيد، إذا جاز لي أن أطلق عليه هذه التسمية، وكان يوم الجمعة في الحادي عشر من حزيران، الموافق عيد قلب يسوع الأقدس، حين وصلت القافلة إلى الجبال غير البعيدة عن ماردين، وقُتل كلّ من فيها.
كيف حصل ذلك؟ ها قد مرّت أربع سنوات على تلك المجزرة ونحن لا نعرف بعد ما حصل بالضبط، لأنّ هؤلاء الوحوش حلفوا على القرآن بأن لا يقولوا الحقيقة.
وها هو أحد الأتراك الذين شاهدوا المجزرة يتكلّم. فالعديد منهم ذهب إلى هناك للاستيلاء على الملابس والساعات والخواتم وغيرها. قال لنا بأنّ العسكر لم يكلّف نفسه استعمال الخرطوش للقضاء على هؤلاء المسيحيين الكلاب (والكلاب هي الصفة الأكثر تهذيبًا التي نطق بها) بل كان يضربهم بواسطة دبابيس كبيرة كما يُضرب على اليقطين، وتقع الضربة في كلّ مكان.
وكان سيّدنا المطران [مالويان] آخر مَن تمّ قتله. لقد قطعوا جسمه إربًا إربًا. أمّا أبينا المأسوف عليه [الأب ليونار] فقد طُعن بخنجر في قلبه. ثمّ نزعوا عنهم ملابسهم، وعَرَّضوا أجسادهم للشمس نحو خمسة عشر يومًا.
لكن وجب علينا أن نعرف بأنّه، قبل استشهادهم، قال لهم ممدوح بك: تلقّيتُ الأمر بقتلكم كلّكم، لكنّنا نترك لكم حريّة الاختيار، فمن يريد أن يصبح تركيًّا [مسلمًا] أسمح له بالعودة إلى بيته.
أجابوا كلّهم بصوت واحد: نحيا ونموت على إيمان المسيح. ثمّ رسموا إشارة الصليب فيما كان سيّدنا يشجعهم بالقول: هلمّ يا أولادي، ها إنّ السماء فُتحت لنا.
حينئذ، بدأ الجنود بارتكاب جرائمهم. وفي اليوم التالي، عند الظهر، شاهدنا الحبال التي استُعملت لربطهم، وممدوح معها. كلّ شيء انتهى.25
1 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، دار نعمان للثقافة، جونية، لبنان، 1991، ص. 65-66.
2 إسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 184-185.
3 المرجع نفسه، ص. 185-186.
4 الأب جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ص. 83.
5 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 51-53.
6 إسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 213.
7 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 53-54.
8 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 54-55.
9 إسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 195-196.
10 ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، ص. 55.
11 المرجع نفسه، ص. 55-56.
12 المرجع نفسه، ص. 56.
13 مجلّة “الرسول الصغير”، العدد 272، أيار 1920، ص. 123.
14 ذكريات الأب آتال دوسانتيتيان، ص. 42.
15 المرجع نفسه، ص. 44.
16 P. Clemente da Terzorio, Le Missioni dei Minori Cappuccini, 1913, Vol. VI, p. 485.
17 تقرير الأب بونافنتورا فاضل البعبداتي الكبّوشي، 1919.
18 رسالة الأب لويس ميناسيان الكبّوشي، أورفا، 13 أيلول 1915، أرشيف الكبّوشيين في المْطَيلب، لبنان.
19 رسالة الأب بونافنتورا إلى الأب بولس كنج، بيروت، 9 أيار 1919، محفوظات الدكتور جوزف لبكي.
20 رسالة الأب آتال دوسانتيتيان إلى الأب العامّ، 5 كانون الثاني، 1922، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
21 رسالة الأب آنج دوكلاميسي إلى الأب أمين سرّ الرسالات في روما، ليون، 24 حزيران 1922، أرشيف الكبّوشيين العامّ في روما.
22 الأب جاك ريتوريه، المسيحيّون بين أنياب الوحوش، ص. 111-112.
23 رسالة الشمّاس الكلداني نوري إيشو مندو، القامشلي، سوريا، 29 نيسان 2012.
24 Revue « Les Missions catholiques », N° 2612, 27 juin 1919, Lyon ; Revue « Le Petit Messager de St. François », N° 262, juin 1919, p. 142-146
25Récit abrégé des massacres de Mardin en 1914, par une religieuse franciscaine originaire de Mardin, Archives de la Province des Capucins de Lyon, couvent S. Bonaventure.