بدأت الاحتفالات التحضيريّة لتطويب الأبوين ليونار وتوما بسهرة صلاة مع العائلة الفرنسيسيّة التي تضمّ الرهبنات الرجاليّة الثلاث، والراهبات الفرنسيسكانيات على مختلف جمعيّاتها، والرهبنة الثالثة للعلمانيين، وذلك يوم الأحد الواقع فيه ٢٩ أيار، الساعة السادسة مساءً، وتوزّعت على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: في دير راهبات البيزنسون
تولّى التعريف الأخ جهاد كريّم، من الإخوة الأصاغر الفرنسيسكان. أنشد الشعب ترتيلة “الروح يجمعنا”، ثمّ قرأت الأخت محبّة حنّا، من الراهبات الفرنسيسكانيات، ملخّص عن سيرة حياة الأبوين ليونار وتوما؛ والأخ نيكولاس أبو عنّي، من الإخوة الأصاغر الديريين، مقطعًا من إنجيل يوحنا:
وكان يوحنا المعمدان في الغد أيضًا قائمًا هناك، ومعه اثنان من تلاميذه. فحدّق إلى يسوع وهو سائرٌ وقال: “هوذا حملُ الله”. فسمع التلميذان كلامه فتَبِعا يسوع. فالتفتَ يسوعُ فرآهما يتبعانه فقال لهما: “ماذا تريدان؟” قالا له: “رابّي، أي يا معلّم، أين تُقيم؟” فقال لهما: “هلُمّا فانظرا!”
فذهبا ونظرا أي يُقيم، فأقاما عنده ذلك اليوم، وكانت الساعة نحو الرابعة بعد الظهر. وكان أندراوس أخو سمعانَ بطرس أحد اللذَين سمعا كلامَ يوحنا فتبعا يسوع. ولقي أوّلاً أخاهُ سمعان فقال له: “وجدنا المشيح” ومعناه المسيح. وجاء به إلى يسوع فحدّق إليه يسوع وقال: “أنتَ سمعانُ بنُ يونا، وستُدعى كيفا”، أي صخرًا. كلام الربّ. (يوحنا ١ : ٣٥-٤٢)
بعد قراءة الإنجيل تُلي التأمّل التالي:
إلك المجد يا ربنا السماوي يللي بتشرق شمسك على الأخيار والأشرار، يللي بتحبّ كلّ إنسان، وبتفرح بكلّ إنسان، وبتعطي كلّ إنسان. إنت يللي عينيك بيقشعو فينا مش بس حاضرنا بل إمكانيات مستقبلنا. قادر تشوف بكلّ شخص كلّ الخير والحبّ والجمال يللي قادر يتحققو فيه إذا تجاوب مع نعمتك. بتتطلع في وبتحبّو وبتدعي ليمشي وراك، ويتعرّف عليك، ليكون فرحك في، وفرحو كامل.
اليوم بدنا نشكرك بشكل خاصّ على دعوة ليونار وتوما اللي دعيتن من عيلتين بيشبهو عيالنا: عيلتين مسيحيتين عم بعيشو بخوفك بحسب إمكانياتن المتواضعة، ثابتين بمحبتك، وعم بمارسو حياتن المسيحيّة لآخر نفس بتعطين يا.
مع ليونار وتوما منصليلك يا ربّ لتحفظ عيالنا المسيحية، وتعطين قوّة الثبات تيضلّو المكان اللي بتسكن في. باركنا وبارك شبابنا وتضلك تدعي منّا أشخاص تنجذب قلوبنا لمحبتك، ونتبعك لكلّ محلّ بترسلنا إلو. بالمسيح ربّنا. آمين.
بعد التأمّل، أنشد المشاركون ترتيلة “أترك كلّ شيء واتبعني” ثمّ تلت الأخت ليليان باز، من الراهبات الفرنسيسكانيات، صلوات على نيّة لبنان والشرق، وردّد الحاضرون “إسألوا أطلبوا تجدو إقرعوا يُفتح لكم”، وهي كما يلي:
- نرفع صلاتنا إليك يا أبانا السماوي على نيّة شرقنا الجريح، وبخاصّة وطننا لبنان، وكلّ العائلات المسيحيّة. فليكن يا ربّ رجاؤنا بك كبيرًا على الرغم من كلّ الصعوبات التي تعترضنا، بشفاعة الشهيدين الطوباويين توما وليونار. أعطنا قلوبًا تفيض فرحًا من فرحك، وحكمة في عقولنا تنبع من حكمتك، وسلامًا في بلدنا.
نسألك يا ربّ.
- نرفع صلاتنا إليك يا أبانا السماوي من أجل بلدة بعبدات التي تستقبلنا اليوم، وتستعدّ لعيش هذا الحدث العظيم مفتخرة بأبنائها الذين شقوا لنا درب القداسة، وزرعوا فينا المبادئ والقيم بعيشهم الخدمة والتضحية حتّى الاستشهاد حبًّا بك. هبنا بشفاعتهم أن نقتفي آثارهم على دروب السماء.
نسألك يا ربّ.
- نرفع صلاتنا إليك يا أبانا السماوي على نيّة الرهبنات الفرنسيسيّة، وخاصّة الرهبنة الكبّوشيّة التي لطالما كانت منبتًا للقدّيسين. أعطهم يا ربّ، بشفاعة الشهيدين الطوباويين ليونار وتوما، أن يعيشوا جذريّة تكرّسهم، ساعين دومًا أبدًا إلى الاتحاد بك أيّها القدّوس، فيكونوا منارة تهدي الناس إليك.
نسألك يا ربّ.
- يا يسوع، يا ابن الله، أنت تدعو المعمّدين إلى اتباع طريق القداسة. إزرع في قلوب الشباب الرغبة في أن يكونوا شهودًا في عالم اليوم لقوّة محبتك. إملأهم من روح القوّة والحكمة، فيكتشفوا الحقيقة الكاملة عن ذواتهم وعن دعوتهم.
نسألك يا ربّ.
- جاء في إحدى رسائل الأخ ليونار: في كلّ الأحوال وضَعنا ذواتنا كلّيًّا بين يديّ الله، فلتكن مشيئته القدّوسة. كان عارف الأخ ليونار أنّو الخلاص الحقيقي هو فقط من الربّ يسوع، كرمال هيك سَلّم ذاتو كلّيًا إلو. كان عارف أنو التلميذ الحقيقي مَنّو أبدًا أفضل من معلمو. إذا يسوع حمل الصليب، على كلّ مسيحي أن يحمل الصليب بشجاعة وفرح. كان الأخ ليونار مؤمن أنّو الربّ اللي حَوّل صليب العار لصليب مجد وانتصار، مشيئتو قادرة تصنع من الموت قيامة، بقوّة المحبّة.
عطينا يا يسوع نتمسك بمشيئتك، ونحمل صلباننا بشجاعة وفرح، بشفاعة الشهيدين الطوباويين الأخ توما والأخ ليونار.
نسألك يا ربّ.
ثم تلا الأخ إيلي رحمه الكبّوشي قراءة من سفر إرميا النبي:
فكانت كلمة الربّ إليّ قائلاً: قبلَ أن أصوّرك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قَدّستك، وجعلتك نبيًّا للأمم. فقلتُ: آه أيّها السيّد الربّ، هاءنذا لا أعرفُ أن أتكلّم لأنّي وَلد. فقال لي الربّ: لا تقل إنّي ولد، فإنّك لكلّ ما أُرسلُك له تذهب، وكلّ ما آمرك به تقول. لا تخف من وجوههم فإنّي معك لأُنقذك، يقول الربّ.
ثمّ مدّ الربّ يده ولمس فمي وقال لي الربّ: هاءنذا قد جعلتُ كلامي في فمك. أُنظر، إنّي أقمتك اليوم على الأُمم وعلى الممالك لتقلع وتَهدم وتُهلك وتضنقض وتَبني وتَغرس. كلام الربّ. (إرميا ١ : ٥-١٠ )
وبعد القراءة تُلي التأمّل التالي:
إلك المجد يا ربّي يسوع على حبّك اللي بيجذب القلب وبملّيه حبّ وعطاء وشجاعة، حتّى يصير المدعو قادر يترك كلّ شي ويتبعك إنت المحبوب الوحيد.
ليونار وتوما، بالرغم من حبّن لعيالن وبلدتهن وبلدهن، كانو مستعدّين يتركو كلّ شي متل الرسل تيتبعوك لآخر العالم حتّى ولو هيدا الشي عَنَى لإلن أنّو ما يعودو يقدرو يرجعو ع بلدتهن لعشر سنين. وبالفعل، توفى والد الأب توما بغيابه، وما قدر يرجع يودعو. ولكن، مَن وضع رجله على المحراث لا ينظر إلى الوراء.
فمع هالطوباويين منصلّي حتّى دايمًا تملّي قلوبنا بمحبتك، وتعطينا القوّة والشجاعة لنتبعك بكلّ وقت، ولكلّ مكان، حاملين صليبنا اليومي وراك، ونحنا مليانين ثقة ورجا وحبّ أنّو هيدا الصليب هو صليب خلاص، هو صليب حياة لإلنا ولكلّ أحباءنا. بالمسيح ربّنا. آمين.
ثمّ غادر الحاضرون ساحة دير راهبة البزنسون متوجهين إلى ساحة كنيسة القدّيس انطونيوس البادواني حيث ستبدأ المرحلة الثانية، وهم ينشدون الترانيم الروحيّة.
المرحلة الثانية: في ساحة كنيسة القدّيس انطونيوس البادواني
تولّت راهبات الصليب وشبيبة مار فرنسيس إدارة هذه المرحلة حيث جرى تمثيل بعض المحطات في سيرة حياة الأبوين، قام فيه الشاب شربل ساسين بدور توما، والشاب وسيم داغر بدور ليونار، والإثنين من شبيبة البترون، وقد تمّ على الشكل التالي:
قارئ: من بعد ما تعرّفنا شوي على طفولة ودعوة الأبوين توما وليونار، صار وقت نروح معن على ماردين، المدينة التركيّة اللي فيا عاشو وشهدو للمسيح بكلامن وأفعالن وحتّى لحظة استشهادن.
العودة إلى بعبدات
قارئ: رجعو رجعو! توما وليونار رجعو على لبنان بعد ما خلّصو دراستن، وقبل ما يلتحقو برسالتن، ومتل ما شفتو استقبلون أهلن، وعمّت الفرحة على الضيعة كلّها.
زلغوطة: يا توما ويا ليونار، اهلا فيكم بهالدار، نحنا جايين نلاقيكن، ببعبدات كبار وصغار
ياعدرا قولي ليسوع، خلي ايدينا يضلّو طلوع، على طول نقول الابانا، حتى راسنا يضل مرفوع
مبروك للكبوشية، ولكل اللبنانيي، مشيو ع خطى يعقوب، وخدموالرهبنة العلمانية
سوق عكاظ
ليونار: وصلنا على ماردين بعد رحلة كتير طويلة، ودغري بلّشنا خدمتنا، وخاصّة أنّو منحكي اللغة العربيّة. هالشي يللي ساعدنا على التواصل السريع مع الشبيبة والأهل والأطفال.
توما: أنا ورفيقي الأب ليونار كنّا نخترع وسايل كتيري لنجذب العالم للربّ، ومنّا لعبة سوق عكاظ مع الرهبنة التالتي ليحفظو الإنجيل. وهلّق رح نعيشا سوا، أنا رح بلّش وإنتو بتردّو بآية.
ألف
آمنوا بالله وآمنوا بي
ياء
يا أولادي وصيّة جديدة أعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا
ألف
إنّ حبّة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمت طبقة وحيدة
تاء
توبوا إلى ربّي إنّ ملكوت قريب
باء
باركوا ولا تلعنو
واو
واظبوا على صلاة ساهرين فيها بالشكر
الرهبنة التالتي
ليونار: وهيك نحنا كنّا نعلّم الرهبنة التالتي الإنجيل، وإنتو فيكن تعملو متلنا، وتحفظو بهالطريقة كلام الربّ. وكمان كنّا مرشدين للرهبنة التالتي اللي ازدهرت وصارت تضمّ أكتر من ٤٠٠ شخص.
ماردين مدينة أسيزي التاني
توما: إذا بتطلعو على مدينة ماردين بتفَكروها مدينة أسيزي، مش بس لجمال الطبيعة وهندسة البيوت بس كمان لوجود عدد كبير من الأشخاص اللي صارو يتبعو روحانية مار فرنسيس. ماردين صارت أسيزي التاني بالشكل والروح، ومن هون راح يطلع كتير شهدا وقدّيسين.
وعظ وإرشاد
قارئ: إرتدّ كتير من المسيحيين من ورا شهادة الأبوين توما وليونار اللي اشتهرو بوعظاتن الحلوي وبإرشادن وبجلوسن لساعات طويلي بكرسي الاعتراف.
تعليم بالمدارس
ليونار: مكفايين بمدارسنا نعلّم التعاليم المسيحية للولاد اللي صار عددن ألف (١٠٠٠) بين صبيان وبنات. ومَثَّلنا مع التلاميذ مسرحيّة الشهيد القدّيس ترسيسيوس. وبالحقيقة منشوف كيف كلّ يللي شاركو بهالمسرحية، من بعد سنوات عديدي، جَسَّدوا حياة هالقدّيس واستُشهدو كلُّن.
مع الشبيبة
قارئ: مع الشبيبة، انعرف الأبوين ليونار وتوما بهالشَبَّين اللي جايين من الشرق، واللي ما تركوا بيت بماردين إلاّ ما زاروا وتعرّفوا على الكلّ وشاركون بأفراحن وأحزانن. صحيح إنن من الشرق ومن لبنان بالأخصّ، شعب الضيافة والكرم، والمليان بالتقوى، وولاد رهبنة لقّبوا العالم بـ “إخوة الشعب” ونشاطاتن بتعبّر عنن. (هنا يتقدّم شبيبة مار فرنسيس ويؤدّون مشهد موسيقي)
مرض ليونار والاضطهاد
قارئ: سنتين للأب توما في ماردين وأربع سنين لرفيقه الأب ليونار يعلّمو ويرشدو ويفجرو مواهبن الكتيري بالموسيقى والمسرح والفنّ. بس سنة ١٩١٠ بلّش الأب ليونار صراع مع وجع راسو، متل كتير غيرو بهيك الإيام وهيك منطقة. نصحوا الأطباء ما يقوم بمجهود فكري ولا جسدي.
ومع المشاكل والحرب بهالفترة وصلت رسائل الأبوين اللي عَبَّرو فيا عن المخاطر اللي عم يتعرّضو إلا.
توما: وضعنا دقيق وما منعرف شو ناطرنا. السلطة بالبلد عم تفكّر كيف تخلص من المسيحيي ومنّا. بالآخر منشكرك يا ربّ ولتكن مشيئتك.
قارئ: وهيك بتكفّي مرحلة صعبة جدًّا من المصاعب واضطهاد السلطنة العثمانية للمسيحيين اللي نتج عنها الكثير من الشهداء.
وفي النهاية دعا القارئ الجمهور للانتقال إلى الكنيسة حيث ستجري وقائع المرحلة الثالثة، وذلك على وقع ترتيلة “ليونار علّمنا”.
المرحلة الثالثة: الذبيحة الإلهيّة
وفي الختام، شارك الحاضرون بالذبيحة الإلهيّة التي احتفل بها الأب روجيه كويومجيان، من الإخوة الأصاغر الديريين، وألقى العظة الأب فراس لطفي، من الإخوة الأصاغر الفرنسيسكان، وشارك أيضًا الأب عبد الله النفيلي، من الإخوة الأصاغر الكبوشيين. وهكذا اجتمعت العائلة الفرنسيسية بأجمعها. وخدمت الذبيحة جوقة أرزة لبنان للآباء المرسلين اللبنانيين. وفيما يلي العظة التي ألقاها الأب فراس لطفي:
“إنّ حبة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمتْ تبقَ وحدها. وإذا ماتت أخرجت ثمرًا كثيرًا” (يوحنا 12، 24).
حضرات الآباء الأجلّاء والأخوات الراهبات الفاضلات،
الأخوات والأخوة الأحباء،
تجتمع العائلة الفرنسيسيّة في لبنان اليوم، استعدادًا لحدثٍ روحيٍّ عظيم في الأسبوع المقبل: تطويب أخوين من عائلتنا الفرنسيسيّة الكبوشيّة: الأب ليونار ملكي والأب توما صالح. راهبان لبنانيّان من بعبدات. شهيدان سترفعهما الكنيسة على مذابحها يوم السبت في 4 حزيران المقبل ليكونا أنموذجًا، ليس فقط للعائلة الفرنسيسيّة في لبنان والعالم، بل للكنيسة الجامعة. مثالان يحتذى بهما في عيش إنجيل ربّنا يسوع المسيح في الفقر والطاعة والعفّة. طوباويّان آخران يضافان لكوكبة القديسين والطوباويين اللبنانيّين. إبنان روحيّان للقديس فرنسيس الأسيزيّ الذي ألهَمتْ روحانيّتُه، على مدى ثمانمائة عام، قديسين وقديسات، شرقًا وغربًا.
فمن هما هذان الراهبان الفاضلان؟ وكيف وصلا إلى مجد التطويب؟ وما الرسالة التي يرغبان إيداعها لنا، نحن الذين نعيش في لبنان والشرق في ظلّ أزماتٍ وحروبٍ واضطرابات عدّة؟
الطوباويان في سطور
إذا تأمّلنا حياة هذين الطوباويّين وجدنا أنّ كلَّ شيء بدأ من هنا، من بعبدات. العائلة، والرعية، والمدرسة، والرهبنة. وكأنّ مصيرهما كان مرسومًا منذ البدء: الوطن الواحد والتكوين المشترك والرسالة في جغرافيا مشتركة، وأخيرًا، مصيرَ الشهادة والمجد. هما إذًا، لبنانيّان من بعبدات التي ودّعتْهُما، منذ ما يقارب مائة عام، عندما انضما لرهبنة مار فرنسيس، وأرسلتهما الرهبنة الكبوشيّة إلى آسية الصغرى. ها هي بعبدات اليوم تعود لاستقبالهما في عرسٍ روحيٍّ مَهيب، بعد أن أمضيا مسيرةٍ حافلةٍ من البذل والعطاء وخدمة المحبّة حتى الرمقِ الأخير: «ما من حبٍّ أعظم من هذا، أن يبذل المرء نفسه في سبيل من يحبّ» (يو 15، 13).
يمكننا الوقوف طويلًا عند دور العائلة والرعيّة والمدرسة في تنشئة الأبناء على القيم والأخلاق. فبمجرّد قراءة وتأمّل ما كُتب عنهما خلال فترة الطفولة والشباب، نعرف مدى تأثرهما بالعائلة وكيف تربّيا على ثقافة الخدمة وعمل الخير والانتماء للكنيسة وممارسة الأسرار المقدّسة. فنقلا بأمانةٍ، خلال رسالتهما التي أرادها لهما الربّ، التعاليم والقيم والأخلاق نفسَها التي تلقَّناها من هنا، من البيت والرعية والمدرسة.
ما أحوجَنا اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن نعيد للبيت والرعية والمدرسة دورهم الجوهري في تنشئة الأجيال وتربيةٍ نشءٍ، لا متعلّمٍ وحاملِ شهاداتٍ فقط، بل حاملُ قيمٍ وأخلاق وفضيلة. على البيت أن يكون “كنيسةً مصغّرة” يغرس في أبنائه قيم الاحترام وتقبُّل الآخر والمحبّة. وعلى الرعيّة أن تكون البيت الأبويّ الواسع الذي يحتضنُ الجميع: صغارًا وكبارًا، فقراء وأغنياء، متعلّمين أو غيرِ متعلّمين، فيختبروا الحياة الروحيّة الحقيقيّة التي تقودهم إلى القداسة من خلال محبّة الله والقريب. أما المدرسة، فهي اليُنبوع الذي يرتشفُ منه الطلاب، المعرفة وثقافة الانفتاح على الآخر المختلف والآداب وحبّ الوطن. وفي حالة الشهيدين الأب ليونار ملكي والأب توما صالح، نجد أنّ هذا “المثلّث الفاضل” (triangle vertueux): البيت والمدرسة والرعيّة؛ قد تحقّق عندهما بامتياز.
كيف وصلا مجد التطويب؟
أما سؤال كيف بلغا هذان الراهبان من بعبدات مجد التطويب، فلا بدّ منه.
وصلا، بدايةً وقبل كلِّ شيء، من خلال الطاعة. إذا ما قرأنا سيرتهما، وجدنا أنّ كلمة السرّ هي الطاعة لمشيئة الله، من خلال الرؤساء الروحيين والكنيسة. الطاعة لمَّا تركا البيت الأبويّ والأحباء والبلد الذي أحبّاه، إلى إرساليّةٍ بعيدةٍ جغرافيًا وثقافيًا. كان بإمكانهما قول “لا”. فلبنان وطنُهم وهم يعرفون جيدًا لغته وعاداته وتقاليده. لكنّهما آثرا خوض مغامرةٍ هيّأها لهما الربّ. فوجدا عائلةً جديدةً وثقافةً مختلفة وحقلُ بشرى يتقدّسان من خلاله. فالرسائل التي بعثاها للرؤساء الروحيين كانت تبيّن صراحةً الصعوباتِ الحقيقيّةَ في تعلّم اللغة الأرمنية والتركيّة. فبدون هاتان اللغتان يتعذّر عليهما القيام بالمهام الروحيّة والتربويّة والإداريّة المطلوبة. مع ذلك، بقيا ثابتين عازمَين في وضع حياتهما كلّيًا بين يديّ الربّ.
التواضع . كلمةٌ أخرى في قاموس القداسة تعلّماها من خلال اختبار الحياة اليوميّة والقيام بالواجب في التنشئة المسيحية والاهتمام بالوعظ والإرشاد والعناية برهبنة مار فرنسيس للعلمانيين والكثير من الخدمات التي أُوكلت لهما.
التواضع في مواجهة الهراطقة ومروّجي التعاليم الخاطئة. بل
التواضع في تقبّل الإهانات والشتائم والتعنيف وظلم سلطةٍ قرّرت للأسف إلغاء المكّون المسيحي، وهو مكوّنٌ أصيل في نسيج المجتمع؛ بالضغط عليهم تارةً، وبالتعذيب والترهيب والعنف الجسدي، وصولًا إلى القتل والمذابح، طورًا. «كحملٍ سيقَ إلى الذبح لم يفتحَ فاه» (أش 53، 7؛ أع 8، 32 ). الإنسان المسيحيّ، والراهب على وجه الخصوص، ينبغي أن يتحلّى بفضيلة
التواضع على مثال المعلّم الإلهيّ: «إنّ المسيحَ يسوع، من أنَّه في هيئةِ الله، لم يعدّ مساواتَه لله غنيمةً، بل تجرّدَ (أخلى نفسه kenosis)، وأطاع حتى الموت، موتِ الصليب» (فل 2، 8).
لقد تكلّلت حياة الأب ليونار ملكي بالشهادة. فقد رافق المطران الطوباويّ مالويان أسقف ماردين، مع كوكبة من 415 من الشهداء. فلم يُنكروا قطّ إيمانهم المسيحي، رغم الاضطهاد وقساوة التعذيب والإهانات على أنواعها. أما الأب توما صالح، فقد اضُطرّ لترك الدير في دياربكر لأنه حُكم عليه بالإعدام، بسبب أنه خبّأ كاهنًا أرمنيًا حاول الهرب من بطش العثمانيّين وظلمهم. فأسلم الروح، بعد أن تعرّض لمرضٍ شديدٍ أثناء رحلة الموت. طريق طويلٌ سلكه بإيمانٍ وصبرٍ وتسليم لإرادة الله. يشبه الطريق نحو الجلجلة الذي سلكه من قبل مخلصنا يسوع متمّمًا مشيئة الآب.
يمكن اختزال فضيلتي الطاعة و
التواضع ، بالتسليم الكامل والتّام لمشيئة الله. في ليترجيا الكلمة لهذا اليوم سمعنا استفانس، أوّل شهداء الكنيسة، يتفوَّه يهذه العبارات: «يارب، لا تحسبْ عليهم هذه الخطيئة» (أع 7، 60)، «أيُّها الربُّ يسوع تقبّل روحي» (لو 23، 46). عباراتٌ نفسُها تفوّهَ بها يسوع على الصليب.
فهنيئًا للعائلة الفرنسيسيّة تطويبَ الأبوين الشهيدين الكبوشيّين ليونار ملكي وتوما صالح. هنيئًا للبنانَ، الوطن-الرسالة، الذي يلتحقُ في رحابه طوباويَّين جديدين وشفيعين آخَرَين يضافان لقافلةِ القديسين والأبرار.
نسأل الله بشفاعتِهما أن يمنّ على الرهبنة في لبنان والعالم بقديسين جُدد، وأن يعبرَ لبنان، من حالة الأزمات الحادّة التي تعصفُ به، إلى برّ الأمان والاستقرار والتعافي.