قام البطريرك الماروني بشاره الراعي بزيارة إلى بعبدات، يوم الأحد ٥ حزيران صباحًا، للاحتفال بقداس الشكر، وذلك بمناسبة تطويب الأبوين البعبداتيين ليونار عويس ملكي وتوما صالح.
إستقبله المؤمنون في كنيسة مار جرجس الأثرية، على وقع الزغاريد والهتافات، وتحت وابل من الورد والأرز.
في هذه الكنيسة التي يعود تاريخها إلى العام ١٦٦٠، نال توما (جرجس) صالح سرّ العماد، ومع رفيقه ليونار (يوسف) عويس ملكي، نالا سرّ التثبيت.
بما أنّ بعبدات تتبع أبرشيّة بيروت المارونيّة، تقدّم المستقبلين
رئيس أساقفة بيروت، المطران بولس عبد الساتر و كاهن رعيّة بعبدات، الخوري طانيوس خليل. وكان أيضًا رئيس عام الآباء الكبّوشيين في الشرق، الأب عبد الله النُفَيلي؛ ورئيس المجلس الماروني العام، الشيخ وديع الخازن؛ والنائب السابق، إميل إميل لحود؛ والأستاذ نصري نصري لحود؛ ورئيس بلدية بعبدات، الدكتور هشام لبكي؛ ومختار بعبدات، الأستاذ صباح قرباني؛ وجمع من الراهبات والكشافة.
رافق البطريرك رئيس مجمع دعاوى القديسين، الكردينال مارتشيلو سيميرارو؛ وعميد مجمع الاساقفة، الكردينال ماريو غريك؛ والنائب البطريركي الماروني العام، المطران حنا علوان؛ ووفد من الأساقفة والكهنة. دخل الجميع إلى الكنيسة، وجلس الأحبار في الأماكن المعدّة لهم في الخورس، ورحّب الخوري طانيوس خليل بالأحبار والحضور، وقال:
فرحة كبيري ببعبدات تطويب الأبوين ليونار وتوما الكبّوشيين، وبركة للبنان وللكنيسة. والفرحة بتزيد ببركة وجودكن بيناتنا اليوم يا صاحب الغبطة ببعبدات.
أبونا ليونار بيقول: وضَعنا ذواتنا كلّيًّا بين يدي الله، فلتكن مشيئته القدّوسة. أمثولة لإلنا اليوم لنرجع نعرف أهميّة الرسالة والتبشير بحياتنا كمعمدين.
أبونا توما بيقول: طلبت من يسوع القربان أن يأخذ آلامك، آلام الكاهن المسجون معو، ويمنحني إيّاها. أبونا صالح بعلّمنا اليوم أهميّة القربان بحياتنا، وأهميّة التضامن بين بعضنا البعض والأكثر تهميشًا خاصّة بهالظروف الصعبة.
من كنيسة مار جرجس مطرح ما تعمد توما، وتثبّت ليونار وتوما، منجدّد إيماننا بالربّ، ومنتمنالك يا صاحب الغبطة دوام الصحة لتضلّك بخدمة الشراكة والمحبّة، لمجد الآب والإبن والروح القدس. آمين.
ثمّ تقدّم الطفل ناصيف الياس ضاهر لبكي، ٩ سنوات، وقدّم باقة ورد إلى البطريرك الراعي؛ والسيّدة نورما شرباتي قدّمت باقة مماثلة إلى الكردينال سيميرارو.
ثمّ تقدّم رئيس البلديّة، وقال:
باسمي وباسم المجلس البلدي وباسم كلّ بعبدات بدّي إتأهل فيكن بهالنهار المميّز... فرحة كبيري.
حابب خبّركن شوي عن شو بتمتاز كنيسة مار جرجس اللي نحنا موجودين فيها غير إنو تعّمد الأب توما صالح فيها.
حجار هالكنيسة تعمّرت من حجار فينيقيّة، ليش فينيقيّة؟
لأنّو كان في حدّها للكنيسة مركز استطلاع (برج) عسكري فينيقي، ومع قدوم الرّومان للمنطقة وإحتلالها، تحوّل هيدا البرج العسكري سنة 64 قبل الميلاد لبرج عسكري روماني.
سنة 555 بعد الميلاد وبعد زلزال كبير، تدمّر هالبرج كلّيًا، لوقت سنة 1660عمّروا جدودنا هالكنيسة من حجار هالبرج المدمّر، وفيكن تشوفوا بالحيطان محلّ لقواص القوس والنشاب، وهيدا الشّي منّو بالفنّ الكنسي الماروني، متل ما هنّي لمّوهن من الأرض وحطّوهن بحيطان الكنيسة.
أمّا الدرج اللولبي لي بيوصِّل على السطح فهو فريد من نوعه لأنّو محفور بالصّخر شقفة وحدة، وهالشي UNIQUE لأنّو بكلّ الشّرق الأوسط ما في هيك درج إلاّ هَون بكنيسة مار جرجس وبقلعة صليبية بسوريا (حلب).
أما إمتيازها الأكبر، فصار بعجيبة لمّا كان الخوري جرجس سرور الهاشم عم يحتفل بالقدّاس، ولَمّا رفع القربانه، شافو الحاضرين الطفل يسوع بين إيدَي، فصاروا يعيطولو للخوري “خوري القربانه” فتحوّل كلّ بيت الهاشم الى بيت القربانه، وهالشي صار سنة 1667.
أهلاً وسهلاً فيكن ببيتكن، ومنتشكّر حضوركن.
ثمّ تقدّم البطريرك إلى المذبح وألقى كلمة من القلب ولّدت تأثرًا بالغًا فيه وبين الحضور فقال:
لَمّا دخلنا عالكنيسة حسّينا بشعور عميق وقلت بنفسي: لَو كانوا الطوباويين الشهيدين الجديدين فَكّروا يومًا ما، هنّي ع كلّ حال كانوا أطفال، بس ما حدا كان يعرف إلاّ هالحجار، أنّو رح يكونو (هنا توقف البطريرك واغرورقت عيناه بالدموع)... ولا يوم أهلن وعرّابينن والكاهن اللي مَنَحن المعموديّة والميرون، ولا مرّة فكّرو أنّو مصيرن (هنا أيضًا توقّف البطريرك واغرورقت عيناه بالدموع)... مصيرن الاستشهاد، ويُرفعوا بين الطوباويين في السما، واعتزّي يا بعبدات الحبيبة.
وفي الختام انتقل الجميع إلى كنيسة القدّيس أنطونيوس البادواني للاحتفال بالذبيحة الإلهية. وكان لافتًا تأثّر الراعي خلال إلقاء كلمته، حيث توقّف عن الكلام ثلاث مرّات متتالية، ماسحًا دموعه قبل أن يكمل بغصّة.
وفي حديث سريع خصّ به جريدة «نداء الوطن»، أوضح الراعي سبب تأثّره قائلاً: «كيف إنو الله بيكون حاطط عينو من البداية على أشخاص معيّنين، وكيف إنو التربية كفيلة توصّل هودي الأشخاص لعند الله»، مشيراً أيضًا في هذا السياق إلى تواضع الكنيسة التي نال فيها الطوباويّان سرّ التثبيت، إضافة إلى الاستقبال العائلي الحارّ الذي لمسه من أهالي بعبدات. وعن سؤال حول معنى الحدث التاريخي وكيف أنه لا يعني حصرًا الكنيسة اللاتينية، أجاب الراعي: «القداسة ليست حكرًا على طائفة ولا على وطن وإنما هي للعالم أجمع». أما عن رأيه بتوقيت إعلان التطويب في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الوطن، لفت إلى أن الحدث جاء في وقته وأن «الربّ يكلّمنا بطريقته على الدوام من خلال طوباويّيه وقدّيسيه، ليقول لنا إنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من دونه وأنه ما زال موجودًا ليعيد إلى لبنان ما أضاعه بعض السياسيين وبعض من ابتعدوا عن طريقه». ودعا الراعي الشعب اللبناني إلى التحلّي بالإيمان والقوة لتخطي المرحلة وألّا يتركوا لبنان كما أن الله لن يتركهم، لينهي كلامه لنا قائلاً: «لا تخافوا، فلِكي نحظى بالمجد علينا أن نسير في طريق الآلام».
وفي كنيسة القدّيس أنطونيوس البادواني، ترأس البطريرك قداس الشكر لتطويب الأبوين الكبوشيين ليونار عويس ملكي وتوما صالح، وذلك عند الساعة ١١،٣٠، بعد أن انضمّ إليه السفير البابوي، المطران جوزف سبيتيري؛ والرئيس العام للرهبنة الكبوشية في العالم، روبرتو جنوين؛ والنائب الرسولي لطائفة اللاتين، المطران سيزار أسايان؛ ومطران انطلياس على الموارنة، انطوان أبو نجم؛ والنائب البطريركي العام، المطران سمير مظلوم؛ ولفيف من المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات، وفي حضور فاعليات وحشد من المؤمنين. تولّت جوقة القدّيس انطونيوس خدمة القدّاس.
وقبل اعتلائه المذبح الرئيسي لإقامة الذبيحة الإلهيّة، توجّه البطريرك إلى المذبح الجانبي حيث أيقونة الطوباويين، يرافقه الكرادلة، لتلاوة صلاة التبريك، فقال:
أيّها الربّ الإله، خالق جميع البرايا العقليّة والحسيّة، وصانعُ السماويّين والأرضيّين وما تحت الأرض، يا من تمّمت كنيستَك على مثال بيعة الأبكار المكتوبين في السماء الّذين يخدمونك ويخدمون ابنك الوحيد وروحَك الكليّ قدسُه، إرتضِ أن تظلّل يمينُك (+) القويّة صورة الطوباويين توما صالح وليونار عويس ملكي الكبّوشيين، وتباركها (+) وتقدّسها (+) لعبادة اسمك المكرّم، حتّى إنّ جميع الّذين يدعونَك بإيمان حقّ، ويطلبون إليك بقلبٍ نقيّ، ينالون طلباتهم الصالحة، ويقرّبون النذور والقرابين، فيكسبون علاجًا وشفاء لأجسادهم، وخلاصًا لنفوسهم.
نعم أيّها الربّ الإله، نتوسّل إليك، أتمّ كلمتك، وأنجز وعد روحك القدّوس بأن تستقرّ الكلمة الإنجيليّة، وتنفذ وتُعنى في كلّ عمل أو قول يتمّ على اسم هذه الصورة المقدّسة، بنعمة ابنك الوحيد ربّنا يسوع المسيح، ورحمته ومحبّته للبشر الذي معه ومع روحك القدّوس المسجود له والمحيي والمساوي لك في الجوهر، يليق لك المجد الآن وكلّ أوان وإلى الأبد. آمين.
وعلى وقع ترتيلة “الروح يجمعنا” توجّه البطريرك ومرافقوه، وجلسوا عند المذبح الرئيسي، فتقدّم المطران إسايان وألقى كلمة توجّه فيها الى الراعي قائلاً:
يسعدني أن أرحب بكم اليوم لنحتفل سويًا بالذبيحة الالهيّة بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية الموقرة، على مذابح كنيسة القديس انطونيوس البدواني اللاتينية، في بلدة بعبدات، التابعة لرهبانية الإخوة الأصاغر الكبوشيين. معًا نرفع صلاة الشكر لإلهنا القدير على نعمة التطويب التي وهبها للكنيسة في لبنان، من خلال الراهبين الفرنسيسكانيين الكبوشيين ليونار ملكي وتوما صالح اللذين عاشا إيمانهما بالله بحسب نهج الحياة الرهبانية الفرنسيسية، استجابة للصوت الذي قال: لا تخف لاني فديتك، دَعَوتك باسمك، أنت لي.
حملهما إيمانهما إلى خارج حدود لبنان، فاستُشهدا من أجل الحقيقة الكاملة التي هي الله، ثقة منهما بأن كلام الربّ صادق، ووعد الربّ صحيح، وترؤسكم اليوم لهذه الافخارستية إنما هو تعبير عن اشتراكنا بكهنوت المسيح الواحد، وغنى الكنيسة في تنوّع الطقوس الليتورجية فيها.
إنّ علاقة العائلة الفرنسيسية بالموارنة هي علاقة قديمة موثقة تاريخيًا، ومشهود لها في بلادنا، علاقة فاح منها عطر قداسة الطوباوي أبونا يعقوب، والإخوة المسابكيين، والطوباويين الجديدين.
صاحب النيافة، إنّ هذا التطويب يحيي في داخلنا دعوة قديمة تعود إلى بدء التكوين “كونوا قديسين”، دعوة موجهة لكلّ مؤمن بمفرده، ولكن مفاعيلها تتحقق وتنعكس ضمن جماعة الكنيسة الحيّة التي تشهد وتستشهد كلّ يوم في سبيل الايمان.
إنّ القداسة هي الله، والانسان نسمة من روحه، حتّى ولو ضلّ الطريق، تبقى دعوته واحدة وهي القداسة، ليس عن استحقاق منه بل بنعمة الذي دعاه، لأنّ الله إذا دعا صدق، وإذا وعد وفى، فهو القائل: وكلّ مَن ترك بيوتًا أو إخوة وأخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مئه ضعف، ويرث الحياة الأبدية.
وكأن به اليوم والآن يجدّد هذه الدعوة لكنيسته في مسيرتها السينودسية لكي تسير مع بعضها البعض درب القداسة، بايمان ثابت، وشراكة كاملة، ولكي يقول لأبناء الكنيسة الجامعة إنّ القداسة، إذا أشرق نورها في واحدة من كنائسنا فهي ليست حكرًا على تلك الكنيسة، بل هي فعل شراكة يشرق نوره كما من المنارة ليرشد الناس إلى النور الحقيقي الذي لا يغيب، وهو سيّدنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي به صرنا كلّنا أبناء لله، وورثة للملكوت.
صاحب الغبطة، إنّنا نرفع اليوم كأس الخلاص معكم، طالبين من الله أن يمنّ على بلادنا وشعبنا بما يراه مناسبًا من النعم، وسعة العيش، وعلى حكامنا بالحكمة وحسن التدبير، خاصّة بعيد العنصرة في هذا اليوم، وعلى كنائسنا بدعوات مكرّسة رهبانيّة وعلمانيّة، فنكون جميعًا قلوبًا سخيّة تعمل في حقل البشارة، على مثال شهدائنا الطوباويين، بدون تعب وملل، وتكون شهادتنا حقّة، تعود بالخير على شعب الله، وخلاص النفوس.
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة تحت عنوان “أنا أطلب من أبي أن يعطيكم باراقليطًا آخر... روح الحقّ” ( يو 14: 16-17)، قال فيها:
1. اليوم عيد العنصرة، عيد حلول الرّوح القدس على الكنيسة، على رعاتها وشعبها، على أبنائها وبناتها، فيكون لها ولهم باراقليطًا، مؤيّدًا ومحاميًا، هو بطبيعته “روح الحقّ” الّذي يعلّم الحقيقة، ويدافع عنها فينا، وينتزع بها من القلوب كلّ خوف. بهذا العيد يبدأ زمن الرّوح القدس الّذي يحيي الكنيسة ويقودها.
فكم هو جميل ومعبّر تزامن هذا العيد مع قدّاس الشّكر لله على عطيّة الطّوباويّين الشّهيدين الأب ليونار عويس ملكي والأب توما صالح، إبني بعبدات العزيزة، ورهبنة الإخوة الأصاغر الكبّوشيّين الجليلة! الطّوباويّان هما هبة نفيسة لكنيسة لبنان الّتي تنضمّ إلى هبة أخيهما الطّوباويّ أبونا يعقوب حدّاد الغزيريّ الكبّوشيّ، مؤسّس دير الصّليب وراهبات الصّليب الفرنسيسكانيّات، فضلًا عن القدّيسين شربل ونعمة الله ورفقا، والطّوباويّ الأخ إسطفان، أبناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة.
ذبيحة الشّكر هي في آن ذبيحة تكريم روحيّ وليتوَرجيّ للطّوباويّين الجديدين اللّذين رفعهما أمس إلى مرتبة الطّوبايّين بإسم قداسة البابا فرنسيس نيافة الكردينال مارتشيللو سيميرارو، رئيس مجمع دعاوى القدّيسين، لأنّ المسيح الإله “أشركهما في مجده، مثلما أشركهما في آلامه” (راجع روما 8/ 17). إنّنا نهنّئ رهبنة الإخوة الأصاغر الكبوشيّين، بشخص رئيسها العامّ الحاضر بيننا، قدس الأب روبرتو Genuin، ورئيس إقليمها الشّرق أوسطيّ عزيزنا الأب عبدالله النّفيلي. كما نهنّئ بلدة بعبدات بالطّوباويّين من أبنائها. نصلّي ملتمسين شفاعتهما من أجل نموّ وازدهار هذه الرّهبانيّة، وسواها من الرّهبنيّات، الرّجاليّة والنّسائيّة، بدعوات مقدّسة. ونستشفعهما من أجل كامل صحّة قداسة البابا فرنسيس.
2. بتطويب راهبين لبنانيّين، يخاطب الله مرّة أخرى اللّبنانيّين، مسؤولين وسياسيّين وشعبًا، في الظّرف العصيب الّذي نعيشه من كلّ جانب، ويدعونا لننفتح لعمل الرّوح القدس: نفتح له عقولنا لنقبل الحقيقة الّتي يعلّمنا ويقودنا إليها؛ نفتح له قلوبنا ليملأها من المحبّة، لقد آن الأوان لنصغي لما يقول لنا الله. فلنضع جانبًا أصوات مصالحنا الشّخصيّة والفئويّة والحزبيّة والطّائفيّة، لكي نتمكّن من سماع ما يقول لنا الرّوح. عندما نخرج كلّنا من ذواتنا، يجمعنا الرّوح من جديد واحدًا، بشريعة المحبّة والحقيقة والحرّيّة والعدالة والسّلام، في وطن نستطيع عندها أن نعتبره حقًّا “وطنًا نهائيًّا لكلّ أبنائه” (مقدّمة الدّستور، أ).
3. إنّ العناصر الثّلاثة الّتي ظهرت في حدث العنصرة تدلّ إلى عمل الرّوح القدس في داخل الإنسان: الرّيح العاصف يدلّ إلى الرّوح القدس الّذي يهزّ كيان الإنسان الدّاخليّ ويجتذبه إلى الله؛ الألسنة من نار هي كلام الله الّذي يعلّمنا إيّاه الرّوح، ويحرق فينا كلّ كذب وضلال ونفاق؛ اللّغات الّتي فهمتها الشّعوب المتنوّعة ترمز إلى لغة الرّوح القدس الّتي يفهمها الجميع، من كلّ لون وعرق، وهي لغة المحبّة.
4. بقوّة الرّوح القدس، روح الحقيقة والمحبّة الّتي تلقيّاها، لبّى الطّوباويّان ليونار (بالمعموديّة يوسف) وتوما (بالمعموديّة جرجس) الدّعوة لاتّباع المسيح على طريق المحبّة الكاملة في رحاب رهبنة الإخوة الأصاغر الكبّوشيّين الأحبّاء. أرسلتهما السّلطة مع غيرهما إلى إكليريكيّتيها الصّغرى والكبرى في تركيا. وبعد اثنتي عشرة سنة من التّنشئة، نالا سرّ الكهنوت معًا في 4 كانون الأوّل 1904. وحصل كلّ واحد منهما على شهادة “مرسل رسوليّ” في 5 أيّار 1906. وانطلقا للعمل الرّساليّ في إرساليّة أرمينيا وبلاد ما بين النّهرين للآباء الكبّوشيّين المنتشرة في سبع مدن تركيّة. فمارسا رسالتهما المتوّزعة في الأديار والمدارس بين الرّئاسة وتعليم الشّبيبة وإرشاد رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين والرّاهبات الفرنسيسكانيّات، مع الاحتفال بالأسرار المقدّسة وبخاصّة سرّ التّوبة. وبذلك أدّيا شهادتهما للمسيح الّذي مات فداءً عن خطايا البشر وقام لبثّ الحياة الجديدة في النّفوس.
5. كلّل الأبوان الشّابّان رسالتهما بشهادة الدمّ دفاعً عن الإيمان المسيحيّ بوجه مبغضي المسيحيّة، ديانة المحبّة والأخوّة. فطُعن الأب ليونار بعد تعذبيه بخنجر في قلبه في 11 حزيران 1915. واستشهد الأب توما في 18 كانون الثّاني 1917، بعد تعذيبه في السّجن وإصابته بالتّيفوس في كلّ جسمه. صمدا بقوّة الرّوح القدس في الإيمان ولم يتزعزعا، فكانا زرعًا يانعًا للمسيحيّة في لبنان وهذا الشّرق.
6. أعطي الرّوح ليكون نار محبّة ونور حقيقة لكلّ إنسان يولد على وجه الأرض. “فلا يطفئنّ أحد هذا الرّوح!” (راجع 1 تس 5/ 19). لا تطفئه يا شعبنا فهو قوّة الرّجاء والثّبات فيك بوجه الأطراف الرّسميّة والسّياسيّة الّتي لا تقيمُ أهمّيّةً لك في حساباتِها ومصالحها. إنّها بكلّ أسف لا تبالي بالشّعب أجَاعَ أم افْتقَر. أذُلَّ أم أُهين. أبقيَ أم هاجَر. أبَكيَ أم تَوجَّع. أمَرِضَ أم مات. ما كنّا نتصوّرُ أنَّ اللّامبالاةَ واللّامسؤوليّة تصلُ إلى هذا الحدّ. إنّها نزعةُ التّعطيلِ وذهنيّةُ الهدمِ. أجل شعبنا يعيش الكارثة: الدّولار أطاحَ حدودَ المعقول! أسعار المحروقاتِ تَحرُق! ارتفاع أسعارِ السّلعِ يَفوق قدراتِ الأفرادِ والعائلات! فِقدان الأدويةِ يعرّض المرضَى لخطرِ الموت! إقفال مدارسَ ومستشفيات وجامعات يزيد عدد العاطلين عن العمل! سقوط المصارفِ مع وقفِ التّنفيذِ واحتجازِ أموالِ النّاسِ مهدّد! نِسَب الفَقرِ والأمّيّةِ والبطالةِ والهِجرة ترتفع! أعداد اللّاجئينَ والنّازحين فاقَت نِصفَ عددِ شعبِ لبنان؟ مَنْ، مَنْ يصدِّقُ أنَّ لبنانَ زهرةَ الشّرقِ، منارةَ الشّرقِ، سويسرا الشّرقِ، كوكبَ الثّقافةِ في الشّرقِ يَبلُغُ هذا القَعْر!
7. وآخر تجلّيات هذا الواقعِ السّيّء هو ما آلَ إليه القضاءُ الّذي يشكو من انحرافِ بعضِ قضاتِه وتحوِّلِهم أداةً بوليسيّةً في يدِ السّلطاتِ الحاكمةِ والنّافذين. صار الانتقامُ والكَيدُ المحرِّكَ للاستدعاءِ والملاحقاتِ والتّوقيفات. ويشكو القضاءُ أيضًا من تعطيلِ قراراتِه. والملفّاتُ الكبرى تظلّ مجمَّدةً وفي مقدّمتها تعطيل التّحقيق العدليّ في جريمة تفجير مرفأ بيروت بشتّى الوسائل، وكانت أحدثها إحجام وزير عن توقيع مرسوم تعيين الهيئة التّمييزيّة. ما يُشجعُّ الخارجين على الدّولةِ والعدالةِ من الاسترسالِ بجرائمِهم وتعدّياتهم. ألا يخجلُ هؤلاء جميعًا من أهلِ شهداءِ المرفأ؟ ألا يوبّخ ضميرهم هؤلاء الشّهداء الّذين تمتزج دماؤهم مع دماء الشّهيدين الطّوباويّين الجديدين؟ كيف لسلطةٍ أن تحظى باحترام الشّعب إذا لم تكن في نصرة الحقّ والعدالة؟ لذا، واجبُ الشّعب، وهو يشاهد لعبة المصالح تتجدّد بعد الانتخابات النّيابيّةِ أن يستعدَّ للنّضالِ من أجلِ استعادةِ الحقِّ ومنعِ سقوطِ لبنان ومن أجلِ إنقاذِ الحياةِ الوطنيّة.
نحيّي بالمناسبةِ تضحياتِ الجيشِ اللّبنانيِّ في مواجهةِ المجموعاتِ الخارجةِ عن القانون، ونعزّي بالشّهيدِ الّذي سقط في منطقةِ بعلبك، وندعو بالشِّفاءِ للجنودِ المصابين. إنّ دور الجيش أساسيُّ كلّ يومٍ لاسيّما في هذه الأيّام. ونتمنّى أن يواصلَ الجيشُ مع القوى الأمنيّة دورَه الأمنيّ الوطنيّ، فيزيلُ كلَّ ما يسيء إلى صورةِ لبنان الحضاريّة البهيّة، وحيث توجد شعاراتٌ تسيء إلى هويّته الفريدة. إنَّ محبّةَ اللّبنانيّين لجيشهم هي القوّة الأساسيّة لهذه المؤسّسة السّاهرة على أمن لبنان.
إنَّ عنصرَ نجاحِ أيِّ حوارٍ وطنيٍّ، أتَمَّ برعايةٍ خارجيّةٍ أم بلقاءٍ داخليٍّ أوّلويٍّ، هو التّسليمُ المسبَقُ بهذه الثّوابتِ الّتي لا تحتاجُ إلى إعادةِ تحديدٍ يوميّةٍ. فمَن لم يَفهَمْها عبرَ مئةِ سنةٍ لن يَفهَمَها الآن. توجد في لبنانَ أطرافٌ رسميّةٌ وسياسيّةٌ تُنكرُ هذه الثّوابت وتسعى لخلقِ لبنانَ مقطوعٍ من تاريخه. وهو أمرٌ يعطِّلُ الحوار سلفًا مع أنّنا نتمنّاه وندعو إليه ونَعتبرُه اللّغةَ الوحيدةَ الّتي يَجب أن تَسودَ بين اللّبنانيّين للخروج من مأساتهم.
8. لا يجوز أن تبقى الدّولةُ أضعفَ حلقاتِ الوطن. فمن غير المقبول أن يكونَ إضعافُ الدّولة الجامعَ المشترَكَ لأكثريّةِ القوى السّياسيّة. . ومن غير المقبول للقِوى السّياسيّةِـــ القديمة والجديدةـــ أنْ تتغنّى بالتّغييرِ وتمارسُ سياسةً تؤدّي إلى تغيير في الوطن لا إلى التّغييرِ في الدّولة. ومن غير المقبول أن يَنظرَ الأفرقاءُ السّياسيّون إلى بعضهم بعضًا نظرةَ عداء فيما البلادُ بأمسِّ الحاجةِ إلى المصالحةِ على أُسسٍ وطنيّةٍ واضحةٍ تَنطلق من ثوابت لبنان. عسى دماء الشّهيدين الطّوباويّين اللّبنانيّين الجديدين تغسل كلّ رواسب الشّرّ في النّفوس.
9. فيا ربّ، نسألك بشفاعة الشّهيدين الطّوباويّين اللّبنانيّين الجديدين الأبوين الكبّوشيّين ليونار وتوما، أن تحفظ لبنان أرض قداسة، أرضًا لك تسبّحك وتمجّدك، أيّها الآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.”
وفي ختام القداس كانت كلمة للأب جنوين، قالها بالإيطالية وردّدها
الأب طوني حداد مترجمة إلى العربيّة كما يلي:
القداسة أجمل وجه للكنيسة كما يذكرنا البابا فرنسيس في ارشاده الرسولي حول الدعوة الى القداسة في العالم المعاصر.
لقد سررتُ باكتشاف وجه القداسة هذا في وطن القديسين كما تدعونه انتم، أنا سعيد جدًّا لأنّ هذا البلد الصغير لبنان الذي أزوره للمرّة الاولى قد اعطى ثلاثة طوباويين للرهبنة الكبوشية: سنة 2008 الطوباوي يعقوب، رسول الصليب، والبارحة الطوباويين توما وليونار، ابني هذه البلدة حيث نحن الآن.
أعرف ان بلدكم يمر بأزمة لا مثيل لها وانه سبق أن عاش سنوات عديدة من الحرب، لهذا السبب أعطانا الربّ اليوم هذين الطوباويين ابني ارضكم. خلال حياتهما الرسولية عاشا هما ايضًا في مناخ من الانعدام المستمر للامن على جميع المستويات، ومن الحروب المتواصلة، وعلى الرغم من ذلك كانا يكتبان أنّهما وضعا ذيتيهما كليًّا بين يدي الله، وكانا يرددان دائمًا في كتابتهما: لتكن مشيئته.
خلال الحرب العالمية الاولى عرفا إبادة جماعية كبرى او بالأحرى كانا من ضحاياها لأجل ايمانهما، احدهما بطريقة مختلفة عن الآخر. أمام خطر وشيك كتب الطوباوي توما باللغة العربية “حياتي من عند الله وهو يقدر ان يأخذها متى يشاء”، ثقة كاملة بالله على الرغم من كل شيء. أن يكون لنا طوباويان جديدان فهذا ليس سببا للافتخار كما يذكرنا القديس فرنسبس بل هو علامة وحافز، فتطويب توما وليونار، كما هو الحال في كل تطويب وتقديس، هو علامة على ان الرب لا يزال يهتم بأبنائه وانه لا يتخلى عنهم ابدا وهو بالتالي علامة تعزية وتشجيع. من ناحية أخرى، الطوباويان الجديدان هما حافز للاقتداء بأمانتهما اليومية لله حتى بذل الذات، وبمحبتهما للقريب أخفى أحدهما كاهنًا مضطهَدًا، وبقي الآخر لأجل أخيه الراهب المسنّ، وهما حافز للاقتداء أيضًا بمحبتهما لله وخصوصًا بثقتهما به، كان الطوباوي توما يردّد على فراش الموت: لن يتركنا الربّ.
أفرح معكم بهذين الطوباويين الجديدين، وهما من أبناء وطنكم، ومن ابناء بلدتكم هذه. أتقدّم بالتهاني إليكم جميعًا، وبنوع خاصّ إلى كنيسة لبنان، وإلى حراسة الشرق الأدنى للإخوة الأصاغر الكبوشيين الذين سيحتفلون، بعد ثلاث سنوات، بالمئوية الرابعة لوجودهم في الشرق الاوسط. فليكن مثال توما وليونار حافزًا لنا جميعًا ورجاءً جديدًا للبنان.
ثم قدم إسايان وجنوين درعًا للراعي، كما قدّم رئيس بلدية بعبدات هشام لبكي، للراعي وللكرادلة والاساقفة، دروعا تذكارية مصنوعة من خشب البلدة.
وفي الختام، أقام الآباء الكبّوشيّون مأدبة غداء، في الصالة الكبيرة المجاورة للكنيسة، دُعي إليها السفير البابوي، والمطران إسّايان، وبعض الأحبار المشاركين في القداس، وجمع من الرهبان الكبّوشيين، وعائلتَي الطوباويين.
تخليدًا لهذا الحدث الاستثنائي، قامت بلدية بعبدات بإصدار
ڤيديو كليب عن الزيارة.