مذكرات الأب ريتوريه
غلاف الكتاب، النسخة العربيّة
في بداية الحرب العالميّة الأولى، وقع الراهب الدومينيكي جاك ريتوريه (Charité-sur-Loire، 21 نيسان 1841 – الموصل، 14 آذار 1921) وزميلاه الأب ماري دومينيك بِرّيه والأب ياسنت سيمون أسرى في يد العسكر التركي في الموصل، وتمّ ترحيلهم إلى ماردين التي وصلوا إليها في 26 كانون الأوّل 1914. هناك، وبفضل تعاطف متصرّف ماردين، حلمي بك، والاستقبال الأخوي الذي خصّهم به مطران السريان الكاثوليك أغناطيوس تبوني، تسنّى لهم البقاء سنتين في المطرانيّة قبل أن يتمّ ترحيلهم مجدّدًا إلى كونيا، في 18 تشرين الثاني 1916. في طريقهم إلى كونيا، أُصيب الأب سيمون بداء التيفوئيد، فاضطر إلى البقاء في حلب لتلقّي العلاج اللازم، فيما أكمل زميلاه طريقهما إلى كونيا التي بلغاها في شهر كانون الأوّل 1916.
عاد الأب بِرّيه إلى فرنسا، فيما اختار الأب ريتوريه المكوث عند إخوته الرهبان الدومينيكان في استنبول. وبعد فترة من الزمن، غادرها إلى ديره في الموصل التي وصلها في 1 شباط 1920، فرأى مدينة جديدة يهيمن عليها البريطانيون، وفيها سيقضي باقي أيّام حياته، حتّى العام ١٩٢١. توفي الأب سيمون في تموز ١٩٢٢، والأب بِرّيه في نيسان ١٩٢٩، والثلاثة يرقدون معًا في ديرهم في الموصل 1
صفحة من مخطوط الأب ريتوريه حيث يذكر الأب ليونار
من مقرّه في مطرانيّة السريان الكاثوليك في ماردين، كان الأب ريتوريه يتابع مجريات الأحداث، يدوّن ويحلّل. ترك لنا مذكرات قيّمة لم يتمّ نشرها إلاّ مؤخرًا، في العام 2000، باللغة الإيطاليّة، وفي العام 2005، باللغة الفرنسيّة، وفي العام 2006، باللغة العربيّة. 2 وقد تمكّنا من الحصول على نسخة كاملة من المخطوط قبل نشره، وذلك بفضل الآباء الدومنيكان في مكتبة السولشوار.
من هذا الكتاب، ننقل بعض المقاطع التي تتكلّم عن استشهاد الأب ليونار ورفاقه، بالإضافة إلى مقاطع أخرى مفيدة. وقد عملنا على مراجعة الترجمة نظرًا لوجود بعض الكلمات والمقاطع التي لم يتمّ نقلها بالطريقة المناسبة، وحذفنا بعض الاستنتاجات الشخصيّة التي أضافها المترجم على النصّ الأصلي، ولا لزوم لها.
الإعتداء على المسيحيين في ماردين، مجزرة الرجال الأولى مع المطران مالويان والأب ليونار
(ص. 79 – 87)
بعد اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ المذابح من دون عوائق، باشر رشيد باشا هجومه على ماردين. بداية، أَمر بنزع سلاح المسيحيين الذين لم يكن لديهم سوى بنادق الصيد لحراسة بساتينهم وحقولهم، فسَلَّموا ما لديهم من تلك الأسلحة البسيطة. إلاّ أنّ السلطات اتهمتهم بإخفاء أسلحة أخرى فتّاكة، فأَطلقت يد الشرطة والدرك الذين عاثوا خرابًا في كنيسة الأرمن، التحفة القديمة في عمارتها وذكرياتها، وبحثوا عنها في المنازل والكنائس. لدى السريان، بلغت بهم الوقاحة إلى نبش قبر المطران الأخير الذي توفي منذ بضعة سنوات. نهب المفتشون كلّ ما وقع تحت يدهم، لكنّهم لم يعثروا على أيّة أسلحة، لأنّه لا وجود لها في الأصل. اعترى الخجل حلمي بك [متصرّف ماردين] بسبب هذه التصرفات البربريّة، وتجاسر على الاحتجاج أمام اللجنة التنفيذيّة، فردّوا عليه: «لا تتدخل بما نعمل، وإلاّ ستدفع حياتك ثمنًا لها».
رغم أنّه لم يُكتشف شيء في تلك التحريات، من مستندات أو أسلحة، تَدين المتهمين المسيحيين، استمرّ رشيد باشا [والي ديار بكر] في تصرّفه التعسفي ذاك، وأَعلمَ حلمي بك بأنّه وجب عليه القيام بذبح المسيحيين، وقد أعطت الحكومة موافقتها على هذا الأمر. ردّ حلمي بهذا الجواب الذي يشرّفه: «أكون بلا ضمير إنْ أنا تعاونتُ معكم في ذبح مواطنين عثمانيين أعرفُ جيّدًا بأنّهم أبرياء وأمناء للدولة». وبعد يومين، جاء أمر نقله. وانصرف سعيدًا لانسحابه من محيط مسعور، لا يستطيع فيه عمل أيّ شيء.
في الخامس من حزيران 1915، أُلقي القبض على جميع نبلاء الأرمن الكاثوليك والسريان الكاثوليك والكلدان والبروتستانت، وزُجّوا في السجن، كما أُوقف سيادة المطران مالويان، أسقف الأرمن الكاثوليك، مع ستة من كهنته، وكاهنان سريان كاثوليك، وكبّوشي أجنبي، هو الأب ليونار البعبداتي. والكهنة الأرمن الستة هم: بوغوص كاسباريان، من الرهبنة المخيتاريّة، واغناطيوس شاهاديان، وأوغسطين باغديان، وليون نازاريان، وأتناس باطانيان، وانطوان أحمريان. أمّا الكاهنان السريانيان فهما: الخوراسقف روفائيل بردعاني، والأب بطرس عيسى. بلغ عدد السجناء 410، بينهم عشرة من الإكليروس، 230 من الأرمن الكاثوليك، 113 من السريان الكاثوليك، 30 من الكلدان، 27 من البروتستانت.
لم ينل اليعاقبة [السريان الأرثوذكس] شرف المشاركة في معاناة إخوتهم. يبدو أنّهم لم يُمسّوا بسوء، في حال كانوا في المدن، وفي حال كانوا في القرى، نالوا نصيبهم من دون رحمة.
خضع السجناء للاستجواب ليستلوا منهم اعترافات عن السياسة المعادية للدولة التي كانوا يتهمونهم بها. وبما أنّه لم يكن لديهم شيء يقولونه في هذا الصدد، استمرّ الجلاّدون في التنكيل بهم في السجن. وبعد مرور ثلاثة أيّام على اعتقالهم، تمكّن صديق أحد النبلاء الكبار من زيارته في الحبس، لكنّه لم يتعرّف عليه، إذ كان وجهه مكدرًا بسبب العذابات، وملابسه في حالة يُرثى لها.
كان جميع السجناء في الحبس على الوضع ذاته، ولم يكن المطران والكهنة بمنأى عن الإهانات والمعاملات الخشنة، لكنّهم كانوا مثالاً في التضحية، ناسين عذاباتهم، ليُدخلوا العزاء إلى قلوب رفاقهم، ويمدّونهم بالمساعدة الروحيّة، لأنّ الجميع كان على قناعة بأنّهم، بعد السجن، سيواجهون الموت حتمًا، وكانوا يستعدون له.
بين السجناء مَن عاد إثر هذه المحنة إلى ربّه تائبًا مستسلمًا لإرادة الخالق، من ضمنهم أحد الأثرياء الذين أَهملوا واجباتهم الدينيّة مدّة عشر سنين، تاب وتغيَّر سلوكه حتّى أنّه، عند مغادرته السجن إلى المقصلة، التفت إلى الحارس ليقول له: «قبل أن أسلم روحي لخالقي سأغفر لجميع مَن عذَّبوني هنا».
في 10 حزيران، سيق السجناء الــــ 410 باتجاه ديار بكر، كما قيل لهم. ولتجنّب قيام مظاهرات احتجاج، أَمرت اللجنة بتسفيرهم تحت جنح الظلام، ومُنع سكان المدينة من التجمهر على طرق مرور موكب السجناء، تحت طائلة الإعدام. لحسن الحظ، كانت السماء في تلك الليلة صافية، فتمكّن الناس من مشاهدة موكب السجناء، مربوطين كلّ اثنين إلى بعضهما، مغلولين بالقيود والأصفاد، شاهدوهم من فوق سطوح المنازل، ومن خلال النوافذ المشرّعة. وكان يلاحظ بعضهم يتلكأ في مشيته منهكًا، وبعضهم يسير حافي القدمين، لا تستر أجسامهم إلاّ خرق بالية، فالحرّاس، لقاء أتعابهم معهم، سرقوا أحذيتهم وخير ما لديهم من ثياب. رفض أحد كبار الأثرياء، السيّد نعوم جنانجي، ركوب العربة التي سعت زوجته باستحصالها له، وقال: «أَخجل أن أُسافر راكبًا بينما مطراني يسير مشيًا على قدميه».
كان الأب ليونار الكبّوشي يسير على رأس القافلة بين أخوين من رهبنة مار فرنسيس الثالثة للعلمانيين. ولَــمّــا مَرَّ من أمام ديره، رفع رأسه محييًا للمرّة الأخيرة ذلك المقام المقدّس، حيث عاش سعيدًا يزرع الخيرات. وفي الحال، وَجَّه الحارس ضربة من عصاه الغليظة على رأسه، مصحوبة بشتائم بذيئة ومهينة: «أيّها الفرنجي [الفرنسي] القذر، هَيّا تَقدّم»، وصاحب المأثرة هذه هو بذاته سرد هذه الحادثة متفاخرًا، مضيفًا: «أَمَرني رئيسي بأن لا أتهاون مع هذا الفرنجي».
كان الآباء الكبّوشيون قد أَسَّسوا إرساليتهم في ماردين منذ مئتي سنة، وتشتمل على كنيسة ودير ومدارس. واستعانوا بالراهبات الفرنسيسكانيات الفرنسيّات للإهتمام بتعليم البنات الكاثوليكيّات في ماردين. وكانت مدرستهنّ مزدهرة متألّقة. عند نشوب الحرب، اضطرّ المرسلون الرهبان والراهبات من حاملي الجنسيّة الفرنسيّة إلى مغادرة تركيا، وسُمح لحاملي الجنسيّة العثمانيّة، أو غيرها من الجنسيّات، بالبقاء. لذلك مكث في ماردين كلاًّ من الأب دانيال، أحد الرهبان من أصل إيطالي، والأب ليونار، من أصل لبناني، وراهبتين ماردينيات. واستولت الحكومة على جميع مباني المرسَلين، بما فيها الكنيسة، بالإضافة إلى مباني الراهبات التي استعملتها الحكومة مدرسة للبنين تارة، وطورًا مستشفى، بعد أن باعت أثاثها ومحتوياتها. وهدمت البلديّة بناءً صغيرًا ملاصقًا لدير الراهبات للحصول على حجارته.
كنت تشاهد في القافلة منظرًا مؤثرًا: كاهنًا شيخًا طاعنًا في السنّ مربوطًا مع كاهن شابّ يسنده في سيره العسير. الكاهن الشيخ هو الخورأسقف روفائيل، والشاب هو الأب بطرس عيسى، والإثنان من طائفة السريان الكاثوليك.
وهناك منظر آخر يثير الشفقة أيضًا: شيخ يناهز الخامسة والسبعين من عمره يرافقه أولاده وأحفاده، كلّهم مقيّدون إلى بعضهم البعض بالسلاسل.
كان مطران الأرمن مالويان في مؤخرة القافلة، وكان قبل توقيفه يفكّر مرعوبًا في الكارثة التي ستحلّ به، وكان بحاجة إلى صداقة ترفع من معنوياته. ولَمّا أَمسى رهين السجن، أَدهش الجميع بسلامه الداخلي، وقوّة شجاعته. كان يسير في المؤخرة، بقدم ثابتة، حافي القدمين، مقيّد اليدين كالمجرم، لكنّه بَدا فخورًا بهذه الإهانة، مباركًا بنظراته وقلبه أبناءه الروحيين الذين تركهم وراءه في ماردين، ضارعًا إلى الله أن يلهمهم الإيمان والشجاعة الضروريين لمجابهة العاصفة الرهيبة التي يتوقّعها. وكان كهنته الستة يسيرون إلى جانبه، مقيّدين كلّ اثنين ببعضهما. لم يصل أحد من هؤلاء السجناء الــ 410 إلى ديار بكر.
منذ المحطة الأولى، فُصل عدد منهم من القافلة، وقبل ابتعادهم عن الآخرين، أرادوا الحصول على بركة أخيرة من مطرانهم. ثمّ قسموهم مجموعات صغيرة، توجّهوا بها إلى أمكنة مختلفة، حيث ذبحوهم كلّهم، وكان الأغنياء فيهم هم أوّل مَن نُفِّذ بهم الحكم بالموت. وكان ممدوح، رئيس الشرطة، يتعقبهم ليسلبهم ما تَبَقّى لهم، بعد أن يصرعهم قتلى. وقد ارتوت من دماء أولئك المسيحيين الأبرياء الأبطال منطقة أَخْرَشكه، وقلعة زرزوان، ومغاور شيخان بشكل خاصّ.
لَــمّــا أَصبحت القافلة على بعد أربع ساعات من ديار بكر، كان نصفها قد غُيِّب. قاموا بفصل سيادة المطران عن الآخرين، وذهبوا به إلى مسافة أبعد قليلاً، إلى موضع يُسمّى قره كيبرو، على حدّ قول البعض، وتعقّـبه ممدوح كلصّ محترف، لا يسمح أن تفلت منه فريسته، آملاً بأنّ المطران ربما سيفدي نفسه بطريقة ما، فصرخ كالوحش الضاري في وجهه قائلاً: «اعترف بأنّ للأرمن أسلحة مخبأة وستخلص…» أجابه الأسقف: «إنّك تعلم جيّدًا بأنّ الأرمن لا يملكون أيّ سلاح، ولو كان بحوزتهم شيء من هذا القبيل لَما تركوك تقتل إخوتهم».
هذه الكلمات، نقلها أحد الذين سمعوها من ممدوح نفسه.
بعدها بثوان، بإشارة من ممدوح، أُطلقت رصاصة أصابت مؤخرة رأس المطران، فسقط على أثرها. ولم يعرف أحد ما الذي حلّ بجسده، لا بدّ أنّ قتلته أَخفوه لئلا تقوم عظامه وتلقي التهمة عليهم.
واختفى ما تبقى من القافلة، عند ذلك الموضع، ولم تُعرف تفاصيل نهاية أولئك المساكين إلاّ بعد مرور سنة، وبعد أن قام بعض المسلمين بتقديم روايات متناقضة للأحداث، ونحن نعلم بأنّهم اقسموا اليمين بالكذب على المسيحيين بشأن ما حلّ بإخوتهم. المؤشرات الوحيدة الشاهدة على الجرم كانت ثياب الشهداء التي سُلبت منهم، وقد ارتداها الأكراد من بعدهم. فما أن انقضى شهران على الحدث حتّى شوهد كردي يبيع الفحم في أزقة ماردين وهو يتدثّـر بجبّة الخورأسقف روفائيل، السرياني الكاثوليكي، ذات الأزرار الليلكيّة اللون. سبق وذكرنا أنّ الخورأسقف المذكور كان في قافلة الموت تلك.
بعد أن قتل ممدوح سجناء القافلة الماردينيّون، واصل طريقه إلى ديار بكر حيث قدّم تقريرًا مسهبًا لرشيد باشا عن مآثره الجليلة في المجزرة التي ارتكبها. وقد سمعنا أنّهما، بغية تبرئة ساحتهما من تهمة قتل المطران مالويان، رغم براءته الجليّة عن كلّ ما اتُهم به، فقد جَنَّدا أطباء أتراكًا ليشهدوا، من دون تردّد، بأنّه مات ميتة طبيعيّة بنوبة قلبيّة. وزاد رشيد باشا وزميله في الجرم ممدوح على أكاذيبهم أكذوبة أُخرى حين طَيَّرا إلى ماردين برقيّة نصّها: «لقد وصل مالويان ورفاقه في القافلة إلى ديار بكر بسلام وأمان».
بتلك الأكاذيب اعتقد هؤلاء الجزارون الجبناء أنّهم في مأمن من المساءلة، وغير مسؤولين عن الجرم الذي ارتكبوه بحقّ الأبرياء الــ 410.
شجاعة الياس كسبو، أحد الإخوة الثالثيين
(ص. 111 – 112)
آن لنا أن نحيي بإعجاب الشجاعة المسيحيّة. سيقت قافلة من مسيحيي ماردين باتجاه نصيبين، وكان بين أفرادها شاب وسيم اسمه الياس كسبو، تَميّز بأنّه مسيحيٌّ صالحٌ، ومفخرة الإخوة في رهبنة مار فرنسيس الثالثة للعلمانيين. لَــمّــا دَنَت ساعة ذبح مَن في القافلة، ورأى رفاقه يُنحَرون الواحد تلو الآخر، تَمَلَّكه الرعب أمام ذلك المشهد، فانهار من شدّة الخوف، وارتعدت فرائصه، وبدأ بالبكاء المرّ. ولَــمّــا حان دوره، سخر منه الجلاّدون الذين رأوه على تلك الحال، فدفعوه بازدراء وهم يقولون له: «يا غبي، إجحد مسيحك، واعلن إسلامك، وإلاّ تَلقى مصير زملائك».
في تلك اللحظة، هَبَّت في قلبه نفحة شجاعة عارمة، فأجاب الجند بجرأة: «لن أجحد المسيح أبدًا لأصبح مسلمًا».
وقيل لنا بأنّ جلاّديه تلذذوا في التنكيل به، وبدأوا يقطعون أعضاءه الواحد تلو الآخر. أثناء ذلك لم يُسمع من فم المسيحي البطل إلاّ هذه العبارات: “من أجلك يا يسوع”. وأَسلم الروح في غمار تلك العذابات الهائلة. واقتنع جلاّدوه بأنّ القدرة الإلهيّة وحدها هي التي سندت هذا الشاب الذي كان مرتجفًا أمام الموت ليتغلّب عليه بهذه الشجاعة النادرة.
عذابات المساجين
ص. 44-47
أَسرد فيما يلي ما سمعته من عدد من السجناء غير الأرمن، أحدهم تمكّن من الاطلاع عن كثب على نظام السجون في تركيا، في تلك الفترة. أُعفي عنه بعد شهر من اعتقاله، إلاّ أنّه لم يُفرج عنه إلاّ بعد عشرة أشهر، لَـمّـا تمكن من إيجاد المبلغ المطلوب لنيل موافقة سجانيه على إخلاء سبيله. بقي إذن رهين السجن أحد عشر شهرًا.
حدّثنا هؤلاء وقالوا: «كنّا محشورين ومكدَّسين فوق بعضنا البعض، في عزّ صيف ديار بكر الحارّ، وكدنا نختنق من جراء احتباس الهواء، يلتهمنا العطش والهوام. وعلاوة على ذلك، كانت تنهال علينا الصفعات والركلات واللكمات كالبَرَد، دونما موجب. وحين كنّا نُساق إلى زنزاناتنا المعتمة كان حراسنا يستلذون في إهانتنا وضربنا. مجرّد كلمة أو حركة تخرجهم عن طورهم، فيهجمون على السجين الذي تجاسر بالقول، ويلقونه أرضًا يمرغونه ويطأونه بأحذيتهم أو ينهالون بالعصي على أقدامه الحافية أو على أي عضو من جسمه دون تمييز.»
كان هذا الخبز اليومي لجميع السجناء. وإنْ أراد السَجّان معاقبة أحد هؤلاء المعتقلين يطعنه بخنجره عدّة طعنات، وأحيانًا أُخرى يَغرس سفودًا حادًّا في لحمه. وهناك مَن سُمّروا على حائط السجن، والبعض الآخر أُحرقوا أَحياء بالنار، ومنهم مَن نُزعت أَسنانه. وقد قُطّع أحد الكهنة الأرمن إربًا إربًا.
أمّا المرخّص، أو النائب البطريركي للأرمن، فقد أُذيق أَشنع العذابات: غُرزت مسامير حديديّة حادّة تحت أظافيره، وتَعرّض لعمليّة الشنق عدّة مرّات، بإحكام حبل المشنقة حول رقبته، وتعليقه بالسقف، ثمّ فكّه عند إشرافه على الاختناق، وإعادة الكرة المرّة تلو الأخرى. ثمّ نزعوا جميع أسنانه، وبعد ذلك صبّوا النفط على ثيابه، وأَشعلوا فيها النار، في الجامع الذي يجتمع فيه المسؤولون عن المجازر، ورموا جسده في الخارج.
حاول هؤلاء الأنذال أن يبرّؤا أنفسهم من تلك الجريمة، فأتوا بطبيب شرعيّ ليشهد في تقريره أنّ الفقيد مات بعد أن صبّ النفط على نفسه وأَشعله. إلاّ أنّ ذلك الطبيب أَبى أن يُلطّخ ضميره بهذه الكذبة المجرمة، ما دفع رئيسه إلى تعنيفه على رفضه ذلك. ولكي يتخلّص من العواقب التي كان يخشى أن يتخذها رئيسه بحقّه، هرب من ديار بكر. أمّا بالنسبة للنساء المسجونات فكنّ يتعرضن لنهش أثدائهنّ بمخالب حديديّة خاصّة.
أمّا عمليّة الخنق الجزئي، فكانت تجري بطريقة مختلفة، بواسطة حبل المشنقة. يُلقى على صدر المغدور به حجر ثقيل مدبّب الأطراف بمخارز حديديّة توشك على خنقه تحت ذلك الثقل، وما أن يحاول التنفس رافعًا صدره حتّى تنغرس المخارز عميقًا في لحمه، ويبقى على هذه الحالة مدّة ساعتين، ثمّ يقلبونه على ظهره ليمارسوا عليه نفس العمليّة، للمدّة ذاتها.
أرادوا أن يكشف لهم أحد الأرمن أسرارًا كانوا متيقنين من أنّه مطّلع عليها. في حال كشَفَها، سوف يقع بسببه ضحايا كثيرون، فآثر عدم البوح بها، وتحمّل العذاب بدل الإفصاح عنها. حاولوا عبثًا أعمال الكمّاشة الحارقة التي تقتطع أشلاء لحمه، وما أَفلحت معه تقطيع أصابيعه وثمّ يديه. أثناء تعرّضه لذلك التعذيب، سمعوه يردّد هذه الكلمات: «يا ربّ ساعدني». في الأخير سُمِّر على جدار السجن، وتُرك على هذا الوضع حتّى فاضت روحه.
واستُجوب أرمنيّ آخر، لم يبح لهم بمكنونات سرٍّ قد اطلع عليه. عندئذ شرعوا في تعذيبه بالماء الساخن جدًّا، على هذا النحو: ربطوا حبالاً تحت أبطيه، ورفعوه بها إلى سقف السجن، وغطسوه على مهل في مرجل من الماء الفائر غليانه. في بادئ الأمر غطسوه حتّى كعبيه، وقال له الجلاّد: «لم تبح بشيء، وهذا شأنك، أمّا الآن فإننا نطالبك بأن تنكر المسيح وإلاّ سلقناك في هذا الماء المغلي». ردّ المسيحي: «لن أنكر المسيح الذي لم أَلقَ منه إلاّ الخير». فغطسوه في الماء إلى حدّ الركبتين، وبقي صامدًا. ثمّ أَنزلوه في الماء إلى حدّ الصدر من دون أن يتزعزع ويلين، وتركوه في ذلك الماء الحارّ حتّى انسلق ذلك القسم السفلي من جسده، وفارقته روحه وهو يعاني ببطولة نادرة من دون أن ينكر إيمانه، ولا أن يبوح بالسرّ. إلاّ أنّ الجلاّد الذي قام بهذه المهمّة البربريّة زُهقت روحه بعد أيّام محترقًا بالنار، ونال جزاءه العادل.
أمّا الڤارتابيد جلغاديان فقد طافوا به في المدينة واضعين مسحوقًا أسوَدًا على وجهه، مغلول الرقبة بالسلاسل، يسوقونه كالبهيمة بينما العصي تلهب ظهره، ثمّ صبّوا عليه الزيت وأحرقوه، وأخيرًا خنقوه.
ما حصل في سجون ديار بكر حصل أيضًا في سجون أُخرى من البلاد، لأنّ هذه الفئة من الأتراك الأوباش يتجرّدون من كلّ شعور إنساني تجاه أولئك الذين يسمّونهم أعداءهم.
لماذا لم يلتحق المسيحيون العثمانيّون بالجيش التركي؟
ص. 253-257
إنّ القوات العسكريّة التركيّة لم تهو إلى هذا المستوى المتدني من الانحطاط والإحباط، طوال تاريخها، كما بلغته في هذه الحرب، رغم إنّها تلقّت التدريب الفائق، واستلم قيادتها ضباط ألمان اعتبروا أنفسهم سادة الحرب. وكان هذا الجيش يمتلك عصب الحياة في الحرب، وهو المال، المال الذي ابتزوه من فرنسا خصوصًا. كما كان على رأس هذا الجيش زعيم محنَّك هو أنور بك، القائد العامّ للقوّات المسلّحة، الفتى المغوار الذي غزا قلب ابنة السلطان، ونال شرف مصاهرته، ولذلك زحف إلى درجات العرش العثماني المفخم، وتسلّق سلّم المراتب العليا. ما الذي كان يستطيعه الجنود المغلوبون على أمرهم في ظروف مماثلة؟ لم يحقّقوا شيئًا سوى استعراض بائس للتحلّل والفوضى.
لا إدارة. لبلوغ الهدف، كانت تُدفع الجيوش في اتجاهات مختلفة، ليعيدوهم إلى مكان انطلاقهم، ويوجهونهم إلى نفس الهدف من جديد، مصطحبين معهم المدافع والذخيرة في الذهاب والإياب.
لا تنظيم. فعلى سبيل المثال: وصل فوج إلى رأس العين، من دون آمر فوج على رأسه، ومن دون أن يُعرف إلى أيّ كتيبة ينتمي. وحين أَوصلت الشرطة الفوج إلى ماردين، بقي فيها، فكان الإداريّون العسكريّون يتساءلون: من أين المال لإعالة هؤلاء؟ من الأرجح أنّهم كانوا من الفارين من جبهات القتال، الهائمين على وجههم في الأرياف والحقول، والذين فضّلوا العودة إلى صفوف الجيش لضمان معيشتهم، وكان استعادة مَن هو على هذه الحالة أمر بسيط. في شهر أيلول 1916 اختفت كتيبة بكاملها من الجيش المتمركز في الموصل ليُعثر عليها في ديار بكر.
لا تنسيق ولا تدبير. في منطقة أرضروم، مات مئات الألوف من الجنود بسبب الجوع والبرد والنقص في الملابس، مع أنّ المؤن الغذائيّة متوافرة، إلاّ أنّها لم توزَّع جيّدًا أو سُرقت.
لا خدمات طبيّة منظمة. كان الأطباء متواجدون بأعداد قليلة، ويؤدّون واجبهم على ما يرام، إلاّ أنّ العدّة والأدوية كانت تنقصهم لمعالجة مرضاهم الذين كانوا يفترشون الثرى، ويفارقون الحياة وليس من مستجير. لا سيارات إسعاف للجرحى الذين كانوا يتهالكون على أنفسهم مشيًا على الأقدام ليصلوا مراكز التطبيب، أحيانًا على بعد أيّام. وعند وصولهم، ما كان لديهم سوى الأرض ليفترشوها، والماء للشرب، والموت في المرصاد يحصد منهم كالمنجل المسنون. في أيلول 1916، في ديار بكر، كان الموت يخطف 250 جنديًّا، كلّ يوم، من طوابير المرضى. وفي الشهر نفسه، أُرسل 5 آلاف مريض إلى ماردين. كان عليهم أن يقطعوا المسافة مشيًا على الأقدام، فمات منهم 4 آلاف، وهرب 600، ولم يصل غير 400 فقط. وفي تشرين الثاني، أُرسل ألف جندي مريض آخر إلى ماردين، لم يصل منهم غير 150 نفر.
في شتاء 1915 هلك في أرضروم 250 ألف جندي من جراء وباء التيفوس . وما تبقى من المصابين بالمرض، والميؤوس من وضعهم، فقد أُهملوا كلّيًّا أو أُعطوا علاجًا يساعد على التخلّص منهم بسرعة، أو كانوا يُدفنون أحياء، كما حدث ذلك في أماكن عديدة. قيل أنّه في أرضروم حيث تفشى طاعون التيفوس الذي حصد الكثير من الجنود، كانت عمليّات تطهير المكان تجري كما يلي: يُحشر المصابون الذين نصفهم قد فارق الحياة في قاعة فسيحة، ويبدأ المسؤول عن القاعة بالصياح عاليًا: “لينهض الأحياء المتبقون بينكم وينصرفوا، فنحن نسمح لهم أن يذهبوا ليتعالجوا لدى ذويهم”. من الطبيعي أن يكون الكثيرون منهم لم يسمعوا ما قيل لهم، أو لم يكن بوسعهم التحرّك من مكانهم. تمكّن البعض من التخلّص من هذا الجحيم، وما أن ينجو مَن استطاع على النجاة حتّى تُشعل النار في البناية، ويحترق فيها مَن تَخلَّف من الأحياء والأموات.
رهيبة هي الرواية الكاملة للعذابات التي عاناها هؤلاء المرضى والجرحى في الجيش التركي. في ساحات القتال، كان الجنود يعيشون في حالة من القذارة بحيث أنّ القمل كان يرعى في أجسامهم، ويخلق فيهم أمراضًا مقرفة، وأحيانًا قتالة. وكان الفارّون ينقلون أمراضهم إلى مناطقهم، فغدت قرى ماردين وديار بكر موبوءة، لفترة ما، وتَفَشّى فيها مرض القمل. وأخبر الجنود الأتراك الذين كان يأسرهم الجيش الروسي، عند رؤيتهم إيّاهم على تلك الحال، يشمئزون لمنظرهم، ويقولون لهم باحتقار شديد: «أيّها العثمانيّون القذرون، عودوا بقملكم إلى وطنكم».
في الأشهر الأربع الأولى من سنة 1915، موسم البرد والثلوج في البلاد الأرمنيّة، أخذ عدد الوفيات من الجنود يرتفع بشكل هائل من جراء الجوع والمرض والقمل وسوء الملبس. بانت جثثهم التي غطاها الثلج عند ذوبانه في موسم الربيع، مبعثرة على مدى الطرقات والحقول، بين جيفات الحمير والبغال المعدّة للنقل. ولكي يَقتاتوا، كان الجنود يَبيعون أَمتعتهم، وذخيرتهم وحتّى سلاحهم. أَعرف كنيسة استُعملت مخزنًا عسكريًّا، واختفت منها الأرضيّة الخشبيّة والطاولات والمقاعد المدرسيّة وأشياء أُخرى سرقها الجنود المقيمون على حراسة المخزن، وباعوها بسعر مئة ليرة عثمانيّة للحصول على ما يحتاجونه من القوت. ولم يبقوا على شيء مما في المخزن، فسرقوا البزّات العسكريّة والمؤن والذخائر وباعوها.
أخذ اليأس كلّ مأخذ من هؤلاء الجنود المعامَلين أسوأ معاملة، والذين كانوا يتساقطون بأعداد كبيرة تحت رصاص الروس، من دون أن يُحرزوا أيّ انتصار. كان هاجسهم الأوحد الهروب من جبهة القتال: كانوا يفرّون أثناء المسير، أو من ثكناتهم، أو من ساحات القتال. وكانت أفواج العسكر بل حتّى فرق بكاملها ترفع العلم الأبيض مستسلمة للروس.
الأوامر بقتل جميع المسيحيين
ص. 9- 10 ، 23
في حزيران وكانون الأوّل 1916، مرّ أيضًا أَنور باشا، القائد العامّ للقوّات التركيّة، وأَوعز إلى جميع السلطات المحليّة بذبح ما تَبَقّى من المسيحيين، كتدبير وقائي، بعد أَن رأى الروس يتقدمون في ساحة القتال. كانت هذه الفكرة من وحي أسياده الألمان، فاتح بها والي ماردين بواسطة برقيّة قال له فيها: «إذبح جميع الكلاب عندك»، وكان يقصد بهم المسيحيين…
صرّح الماريشال الألماني- التركي ليمان فون ساندرز باشا، في أحد الأيّام، فيما كان جالسًا في مقهى توقطان الشهير في القسطنطينيّة، مع شلّة من الأصحاب: «لو كان الأمر لي، لقتلتُ جميع المسيحيين، فهم جميعهم خونة بحقّ الحكومة العثمانيّة».
مسؤوليّة الماسونيّين في المجازر المرتكبة بحقّ المسيحيين
ص. 15، 29-30، 95
إنّ الثقافة الإسلاميّة الحديثة جعلت الماسونيّة تدخل في الإسلام…
رأينا رؤساءهم الروحيين [رؤساء المسيحيين غير الأرمن] ، وبكلّ سذاجة، يمدّون يدهم إلى الأتراك الفتيان الماسونيين الذين كانوا يَعِدُونهم بكلّ شيء وفي الأخير يذبحوهم…
لقد وُلدت هذه الحكومة مستعبدة للماسونيّين، وعليها أن تسير في إثرهم كما يتبع الكلب المُطيع سيّده، وكان عليها أن تخضع لتأثيرهم لتحصل على رضاهم، كما السقّاية الساكنة والمتمتعة بدفء أشعة الشمس…
اعترف أحد المسلمين العقلاء بقوله: «أجل! إنّكم مضطهَدون بسبب ديانتكم، لأنّ الأتراك الفتيان هم ماسونيون، ولا يريدون أيّة ديانة، حتّى ولا ديانتنا الإسلاميّة التي يدمرونها بمثالهم الرديء وكفرهم».
كيف كانت تتمّ المجازر؟
ص. 49-50، 157-158
لم تكن السلطات تنفّذ المجازر في داخل المدن لتتجنّب إثارة القلائل بين السكان. فكان المسؤولون يشكّلون، من هؤلاء المسيحيين البؤساء، قوافل قليلة العدد نوعًا ما، ينقلونها على التوالي بعيدًا عن المدن، ويقتلون كلّ مَن فيها في الموضع المعيّن على أيدي الجنود الأتراك الذين ساقوهم، أو على يد الأكراد الذين كان الجنود يدعونهم للمساعدة ولتقاسم الغنائم.
كان المنفذون يستعملون سلاحًا بلا صوت يُذكر، وكانوا ملزمين بالصمت التامّ عن جميع أعمالهم، بحيث أنّ الجمهور يبقى مدّة طويلة جاهلاً بما جرى لقوافل المسيحيّين والمسيحيّات المنقولة من المدن. وبفضل هذا التعتيم الإعلامي، والصمت المطبق، كانت المجازر تأخذ مداها الزمني من دون أن تتعرّض لسوء التنفيذ بسبب الاستعجال، كما حدث ذلك في المجازر الحميديّة. حينها، عمل القتلة في قلب المدن، مستعجلين الفراغ من مهمتهم، فاقتحموا المنازل حيث كانوا غالبًا ما يلاقون حتفهم على يد الذين كانوا يريدون قتلهم…
إنّ الكرديّ، كما سبق وذكرنا، هو ذئب جائع أبدًا، ولا يفوّت مناسبة للنهب والافتراس. يعرف الأتراك ذلك حقّ المعرفة، منذ أمد طويل، لذلك كانوا يستعملون الكردي أداة لتحقيق ما لا يجرأون هم على القيام به. ما أن يُعطى الكردي الضوء الأخضر حتّى ينطلق، ويقوم بالتدمير والنهب والقتل. وبما أنّه نهم وبخيل بطبعه، فهو يحمل معه ما يستطيع حمله مما سلبه، حتّى أطر الأبواب والنوافذ، والسكك المثبتة في الجدران، والأوعية المهشمة. إنّه يجرف كلّ شيء، ولا يترك سوى الفراغ بين الأنقاض. إلى جانب هذا، فالكرديّ مخلوق يميل إلى الملذات الجنسيّة بطريقة وحشيّة، لذلك فهو لا يخجل من القيام بأمور مشينة مع الآخرين. وفي حال أَنهى فعلته، ولاقى استنكارًا من الرأي العامّ، أو حتّى من التركي الذي لا يتضايق من خيانة الذي كلّفه بالأمر، فهو يعمد إلى سحب الأوامر الخطيّة من جيبه، أو من تحت قلنسوته، ويقول: هل أنا هو المذنب؟
هذا بالضبط ما فعله إبّان مجازر العام 1896، وهذا ما سيفعله أيضًا مع الذين سنتكلّم عنهم. وأحيانًا يقوم التركي بشنق الكردي العميل كي لا يبوح بشيء، كما سنراه الآن، وهذا من شأنه أن يعطي الدروس إلى إخوة الشخص المشنوق، لكنّهم لا يتعلّمون. تستملكهم طبيعتهم الجشعة والشرسة، وهم كالذئب في سجيته، رغم الرصاصات التي تلقاها في جسده، والخسارة التي يذهب فيها أشكاله.
منذ مستهل أحداث حزيران 1915 تمّ الاستعانة بالأكراد لتنفيذ المجازر في قرى سنجق ماردين. ومنذ اليوم الأوّل من حزيران وحتّى الخامس عشر منه، هاجموا مسيحيي بيخايري، البعيدة ساعة عن ماردين، ثمّ جيليس، البعيدة 8 ساعات، ثمّ بافاوا، البعيدة سبع ساعات، ثمّ معيصرتي، البعيدة ستّ ساعات، ثمّ دارا، البعيدة ثماني ساعات، والمنصورية الواقعة في بساتين المدينة. بمرافقة وحدات الحرس الوطني وتعاونهم، نهبوا القرى، وأحرقوا المنازل، وذبحوا الرجال، إذ أوعز إليهم أن يبدأوا بتصفية الرجال أولاً، ولكنهم ذبحوا النساء والأطفال أيضًا، فأياديهم كأنياب الذئاب بحاجة إلى إراقة الدماء. ولكنّهم، في معظم الأحيان، كانوا يستحوذون على الفتيات والأطفال في أعمار معيّنة، من الذين يأملون منهم أن يعاونوهم في تنفيذ أعمالهم الشخصيّة، أو يتوقعون الربح المادي من بيعهم كالرقيق. أكثر من ثلاثة آلاف شخص هلكوا في المجازر التي حصلت في القرى السابقة الذكر…
1 اسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى ، 1919، ص. 463-466 ؛
جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش ، ترجمة الأب عمانوئيل الريّس، كنيسة القديس ميخائيل للكلدان في ألكاجو (كاليفورنيا)، 2006، ص. 303-306 ؛
Yves Ternon, Mardin 1915, Anatomie pathologique d’une destruction, Annales du Centre d’Histoire arménienne contemporaine, Tome IV, 2002, p. 270.
2 Marco Impagliazzo, Documenti inediti sulla stage degli armeni 1915-1916 , Angelo Guerini (Milano), 2000.
P. Jacques Rhétoré, Les Chrétiens aux bêtes, Cerf, Paris, 2005, 398 pages.
جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ترجمة الأب عمانوئيل الريّس، كنيسة القديس ميخائيل للكلدان في ألكاجو (كاليفورنيا)، 2006، 430 صفحة.