الأب ياسنت سيمون الدومينيكي
(P. Jacques Rhétoré, Les Chrétiens aux bêtes, Cerf, Paris, 2005)
في بداية الحرب العالميّة الأولى، وقع الراهب الدومينيكي ياسنت سيمون (Loos-Lez-Lille ، 2 أيلول 1867 – الموصل، تموز 1922) وزميلاه الأب ماري دومينيك برّيه والأب جاك ريتوريه أسرى في يد العسكر التركي في الموصل، وتمّ ترحيلهم إلى ماردين التي وصلوا إليها في 26 كانون الأوّل 1914. هناك، وبفضل تعاطف متصرّف ماردين، حلمي بك، والاستقبال الأخوي الذي خصّهم به مطران السريان الكاثوليك أغناطيوس تبوني، تسنّى لهم البقاء سنتين في المطرانيّة.
من مقرّه في مطرانيّة السريان الكاثوليك في ماردين، كان الأب سيمون يتابع مجريات الأحداث، ويدوّن مشاهداته باللغة الفرنسيّة، ولو كان يعرف العربيّة. أنهى تقريره في حزيران 1916، أي سنة واحدة بعد استشهاد الأب ليونار.
في 18 تشرين الثاني 1916 تمّ ترحيله إلى كونيا مع زميليه اللذين بلغاها في شهر كانون الأوّل 1916، فيما بقي هو في حلب للمعالجة جراء إصابته بداء التيفوئيد. قام الأتراك بتدبير مؤامرة ضدّه، واتهموه بالتجسّس لصالح فرنسا. أُلقي القبض عليه مرّة أولى في أيار 1918 ثمّ أُخلي سبيله. وفي تشرين الأوّل 1918، أُلقي القبض عليه مرّة ثانية، وتمّت محاكمته، وإصدار الحكم عليه بالحبس سنتين. لكنّه أُخلي سبيله سريعًا، أواخر تشرين الأوّل ١٩١٨، حين دخل الحلفاء إلى حلب.
بقي في حلب مدّة من الزمن حيث ألقى خطبة في كنيسة الأرمن الكاثوليك ، بمناسبة الاحتفال برتبة جنائزية على نيّة الأرمن الذين قُتلوا في المجازر، وذلك في ١٩ كانون الثاني ١٩١٩. وفي حزيران ١٩١٩، كتب ملحقًا إلى تقريره السابق ذكره.
عاد إلى فرنسا في أواخر العام ١٩٢٠، ومكث فيها بضعة أشهر قبل أن يغادرها إلى الموصل، مع رفيقه الأب بِرّيه، في ١٩ آذار ١٩٢١، سالكين طريق البحر من مرسيليا إلى بور سعيد في مصر، ثمّ إلى عدن في اليمن، ثمّ إلى بومباي في الهند، ومنها إلى مسقط في عُمان، فالبصرة. ومن هناك سلكا طريق البرّ إلى الموصل، حيث استعادا نشاطهما في الرسالة والخدمة المقدّسة. توفّي الأب سيمون في أواخر تموز 1922، ودُفن في ديره هناك، إلى جانب رفيقه الأب ريتوريه الذي سبقه بسنة واحدة، وسيلحقهما الأب بِرّيه بعد بضع سنوات، ويرقد بقربهما. 1
قامت دار نعمان للثقافة (جونيه – لبنان) بنشر التقرير، بالنصّ الفرنسي الأصلي، ونقلته إلى العربيّة، العام 1991، وصدر بعنوان «ماردين، المدينة البطلة، مذبح أرمينيا وضريحها خلال مجازر عام 1915».
غلاف كتاب الأب ياسنت سيمون (دار نعمان للثقافة، جونيه، لبنان 1991)
من هذا الكتاب، ننقل بعض المقاطع التي تتكلّم عن استشهاد الأب ليونار ورفاقه، بالإضافة إلى استشهاد النساء اللواتي قُتلن لاحقًا، دليلاً على أنّ الأتراك لم يتركوا الخيار لأحد من الناس: الإسلام أو الموت. وقد عملنا على مراجعة الترجمة نظرًا لوجود بعض الكلمات والمقاطع التي لم يتمّ نقلها بالطريقة المناسبة.
كاتدرائيّة كاثوليكيّة في سجن تركي
(ص. 43 – 50)
كان على السجناء، إذًا، أن يتهيّأوا للتضحية الكبرى، وقد تحضّروا لها بما لستُ أعرفُه من شجاعة في القلب ناتجة من الترافق في الضيق، وبما لستُ أعرفُه من سماويّ على الجبين يجلبُه صفاءُ الضمير. كانوا كثيرين… وجميعهم، في ما عدا بعض البروتستنتيين، من الكاثوليك. وهاكم أعدادهم بحسب المذاهب:
من الإكليروس الأرمن: أسقف واحد وستّة كهنة
من الإكليروس السرياني الكاثوليكي: رئيس شمامسة واحد وكاهن واحد
من اللاتين: كبّوشي واحد
من العلمانيين الأرمن الكاثوليك: 226
من العلمانيين السريان الكاثوليك: 112
من العلمانيين الكلدان: 30
من العلمانيين المنشقين البروتستانت: 27
المجموع: 10 إكليروس و 395 علمانيّ
ها هي الضحايا، جميعها… ونحن نعتبر أنّنا كنّا أمام هذا المشهد من المساجين الذين يقبّلون قيودهم، ويحوّلون سجنهم إلى كاتدرائيّة، فكان لنا من المشاهد الفريدة التي يصعب وصفها، والتي كانت لنا من أحلى التعازي في منفانا. وما الذي كان ينقص، فعلاً، أمام الكاتدرائيّة؟ الأسقف كان هنا، وكذلك الآباء، والشمامسة، والشمامسة الرسائليون، والمؤمنون. ها هي، فعلاً، الكنيسة الكاثوليكيّة، الكنيسة العالميّة، تتربّع، أو بالأحرى تقف على أرض سجن عارية. لقد كانت الكنيستان، الشرقيّة والغربيّة، مقيّدتان بالسلاسل نفسها، تشتركان بالآلام نفسها قبل الاشتراك بالتضحية ذاتها…
وأمّنت الديانة، أثناء أيّام الأسر السبعة، جميع المعونات. فأعمدةُ السجن الأربعة تحوّلت إلى زوايا كرسي الاعتراف الأربع، واضطرّ الكاهن، نظرًا لمتطلبات خدمة هذا السرّ، إلى سماع التائب وحلّه من خطاياه، وجبهة الواحد تلامس جبهة الآخر. وقد ملأت الصلاةُ النهار، واختصرت الليل. ولم تترك سبحة الورديّة أنامل السجناء: فالماردينيّون يتعبَّدون لمريم كثيرًا…
وتمكّن الأسقف من إعفاء نفسه من الوعظ علنًا لأنّ سلوكه الشجاع والأبيّ كان أفضل من أيّ عظة. وفي حال أراد تقوية ضعفٍ ما، كان يكفيه أن يقرأ الوصيّة التي عهد بها، قبل شهر من اعتقاله، إلى المطران جبرائيل تبوني، النائب البطريركي للسريان الكاثوليك، وهو أسقفٌ شاب غدا صديق مالويان الحميم. وقد قرأتُ أصل الوصيّة العربي، وقبَّلته كما لو كان ذخيرة: « [...] أستودعكم الله أيّها الأبناء الأعزّاء طالبًا إليكم أن تصلّوا إلى الله كي يعطيني القوّة والشجاعة لأقضي هذا العمر الفاني بنعمته وفي محبّته حتّى سفك الدم».
ألا نجد أنفسنا أمام نسخة من رسائل الأساقفة القدامى الشهداء؟ يا للحزم، والهدوء، والفخر معًا… مع رئيسٍ من هذا النوع، يتوقّع موته ويعلنه قبل ثلاثين يومًا، كان في مستطاع السجناء مواجهة العذابات، مدعومين بالأسرار المقدّسة، ومحرَّضين على تسليم ذواتهم، اقتداءً بالحبر الذي سبقهم إليه.
ولم تنقص تلك العذابات. وقد استُجوب الوجهاء، بأمر من ممدوح بك، لجعلهم يعترفون بوجود مخازن أسلحة في ماردين. ضُربوا على باطن الأقدام حتّى الإغماء، فيما هذه مرفوعة في الهواء بواسطة الحبال. وكان تفريغ وعاء من الماء البارد على رؤوسهم كافيًا لإعادة الوعي إليهم قبل متابعة القرع بالعصا. وكان الدم يجري، وهي الإشارة المنتظَرة، فيتوقّف الضرب. وعندها يُنقل السجين، نصف ميت، إلى زنزانته.
وبعد التعذيب، يأتي الإذلال… ولم يوفَّر أحد. وكان بعض السجناء يحمل على مستوى الكلوة شريط (زنّار) القدّيس فرنسيس؛ واعتُبر الأمر كافيًا لممدوح بك ليجد في كلمة فرنسيس علاقاتٍ خفيّةً مع فرنسا، وفي شريط الصوف إثباتًا على نوايا الثالثيين الفرنسيسكان الخبيثة، وشعارًا لارتباطهم بجمعيّة ثوريّة. وقد أُزيلت هذه العلامة المقدّسة بالقوّة، وتركت أصابع الجلادين آثارها على لحم بعض الشيوخ من السجناء.
أَأُشير إلى الأب المحترم ليونار البعبداتي، المرسَل الكبّوشي، اللبناني الجنسيّة، الذي أُجبر على شرب كأس من الشوائن؟ ولِماذا؟ لأنّه مرشد أخويّة الدم الزكي. وقد حَصَرَ ممدوح بك معنى «الدم الزكي» بدم المسلمين، وبأنّ المرسَل المذكور يطمع به، مبشرًا ومشجعًا على سفكه بغزارة. أضف إلى ذلك اكتشاف لائحة بأسماء الأعضاء المنتسبين إلى الأخويّة كانت معلّقة على باب كنيسة الكبّوشيين، ما «ثبّت» أنّ هذه الأخويّة أكثر من عاصية وضارّة، وأنّها لا تسعى فقط إلى عمل القلائل في الإمبراطوريّة، بل إلى المطالبة بدمها. وها إنّ الأب ليونار يتعرّض للشتائم والبصق والضرب، صامدًا في إيمانه. وكلّما ضُيِّق على ليونار الكبّوشي، كان ليونار الشهيد يفرح. وفيما عمل ممدوح بك على تصفية ليونار، عمل ليونار على مباركة ممدوح بك.
واضطرّ عدد كبير من السجناء، لسبب أو لآخر، إلى المثول أمام محكمة الجلاّدين. لكنّه لم يُسجَّل أيّ ارتداد من قبلهم، وسرُّ ذلك يكمن في النفس المدعومة بفضائل ثلاث: رحمة الله، مثال الأسقف، شجاعة الكهنة؟
لكنّ السجن، مثله مثل الكاتدرائيّة، وجبَ أن يكون له خروجًا انتصاريًّا وتطوافًا. وقد كان خروجٌ مدبَّرٌ من قبل الشرطة. وقال المسلمون: «تلك هي قافلة الموت». أمّا نحن، معشر المسيحيين، فقلنا: «تلك هي المسيرة نحو الحياة…»
قافلة الموت
(ص. 51 – 57)
نحن في يوم الخميس، العاشر من حزيران، والساعة تُشير إلى الواحدة صباحًا. كان الموكب الحزين يتقدّم، في بطء وصمت، في شوارع المدينة. غير أنّ الكهنة والمؤمنين الماردينيين، وقد تنبَّهوا منذ العشيّة، ظلّوا متيقظين ساعات طويلة، يرصدون الرحيل، ويترقبون: الكهنةُ لحلّ الخطايا، والمؤمنون لإلقاء التحيّة للمرّة الأخيرة.
كانوا يمشون، مربوطين الواحد إلى الآخر بحبال كبيرة. البعض منهم يحمل السلاسل في الذراع، والبعض الآخر أُخضعت عنقُه لحلقات من الحديد، يُحيط بهم مئة من جنود الميليشيا.
ما من كلمة في صفّ المساجين: فحكم الموت كان حاضرًا لكلّ مَن يعلو صوته. أمّا نحن، فكنّا نسمع، من خلال حفيف السيوف، صوتَ طرق القلوب من جهة، وصراخَ النساء والأطفال ووداعَهم من جهة أخرى.
كانت ليلةً لا مثيل لها… وزادت العتمة في إضفاء مشهد عزاء عميق، وفي إخفاء ما كان لهذا المشهد من قلّة شفقة. لكنّ العين العربيّة، المتمرّسة على رؤية الظلال، تمكّنت من ملاحظة التفاصيل التالية:
كانت كلّ مجموعة مؤلّفة من أربعين سجينًا وكاهنًا، والقصد من هذا الترتيب إذلالُ الكهنوت من خلال إشراكه بالجرم المزعوم، لكن ما حصل ساهم بتقريب الدين من المصيبة.
شوهد سجينٌ يبلغ الخامسة والسبعين من العمر، محاطًا بأولاده وأصهرته، يساعده في مشيه الوَرَعُ البَنَويّ، وإيمانُه الدينيّ.
وشوهد أيضًا الأب ليونار الكبّوشي يُضرَب بعنف لدى مروره من أمام ديره… وكان له شرف افتتاح الموكب، محاطًا باثنين من الثالثيين الفرنسيسكان.
وشوهد، أخيرًا، سيادة المطران مالويان، مكشوف الرأس، حافي القدمين، والأغلالُ في عنقه، ينهي المسيرة، ويُحيط به شرطيّان. واستطاع الحبر، على الرغم من السلسلة التي كانت تربط إبهامَيه، أن يُلقي بركة أخيرة على مدينته الأسقفيّة.
وهكذا، أعاد لنا التاريخ، ذلك المعيد الأزلي، مشهد درب الآلام، ولكنّ هذه المرّة، إنّ السيّد والرسل والتلامذة، أي الأسقف والكهنة والمؤمنين، ساروا معًا إلى الجلجلة نفسها.
وفي حين كانت ماردين تجتاز مأساة مريعة، والدسائس الإسلاميّة تأخذ مجراها صوب النصر، ملقية إلى الموت مجموعة من الشباب العاقل، والرجال الناضجين الذين تعتمد عليهم حياة المدينة، إلى الشيوخ الذين كان عجزهم، لوحده، كفيلاً بوصولهم إلى المقبرة، وفي حين كان مستقبل المسيحيّة كلّها في تلك المنطقة يزول… كان الفجرُ الطالع يبدو مشرقًا وغير آبه بما يجري… يلقي نوره على قافلةً من الرجال صارت بعيدة عن المدينة، يأخذونها إلى القبر…
وامتلأت كاتدرائيّة السريان الكاثوليك سريعًا بالمؤمنين المذعورين. ففي الملمّات العامّة، يبقى المذبح مكان ملتقى وعزاء. وعرفت الكاتدرائيّة مشاهد لا تُنسى: نساءٌ تجتاز باحة الكنيسة على الرِكب، والرِكبُ تتدمّى؛ أمّهاتٌ تصلّي باكيات؛ أطفالٌ يُتّموا منذ ساعة يتوسلون، لا انتقامًا، بل أعجوبة.
وقد حصلوا على الأعجوبة، وكانت الأحلى بين الأعاجيب: إنّها أعجوبة ثبات المساجين في إيمانهم. تمّ التأكّد من الأمر إذ، على بعد ساعتين من ماردين، في المحلّة المعروفة باسم أَخْرَشكِه، قام ممدوح بك بفصل أربعة وجهاء أساسيين عن المجموعة وهم: سريانيّ كاثوليكيّ واحد، إسكندر حمّال أفندي؛ وثلاثة من الأرمن الكاثوليك: نعوم جنانجي، إسكندر آدم، أوغست آدم، إبنه.
- «إليّ بثمانمئة ليرة تركيّة، قال لهم ممدوح بك، وأُطلقكم حالاً».
- «لكَ ثمانية آلاف ليرة تركيّة» أجابه الوجهاء.
- «حسنًا… هيّا بنا إلى هذا المقلع القريب».
وبعد دقيقتين، في المقلع القريب، طُعن السجناء الأربعة، وقُضي عليهم.
أثناء هذه المأساة السريعة، كانت قافلة المسيحيين تُكمل طريقها، وقد عَرفت المصير الذي خُصِّص لها. وصلت شيخان، وهي قرية كرديّة تقع على مسافة ست ساعات من ماردين، حيث أَوقف ممدوح بك القافلة، وبدأ بقراءة فرمانًا إمبراطوريًّا مزعومًا، رُكِّب كالتالي: «إنّ الحكومة الإمبراطوريّة قد غمرتكم بإنعاماتها: حريّة، مساواة، أخوّة، عدل، وظائف هامّة، مراتب شرفيّة؛ ومع ذلك فقد خُنتموها. وبسبب خيانة الوطن العثماني فإنّ حكمًا بالموت قد صدر عليكم جميعًا. مَن منكم يُشهر إسلامه يعود إلى ماردين سالمًا مكرَّمًا. سيتمّ تنفيذ الإعدام فيكم بعد ساعة من الآن. تهيّأوا واتلوا صلاتكم الأخيرة…» ثمّ أضاف، جامعًا السخرية بالكذب: «لقد أعطتكم الإمبراطوريّة، في الماضي، ألف امتياز، وهي تعطيكم، اليوم، ثلاث رصاصات…»
عندها، انتصب سيادة المطران مالويان في وجه شتيمة الخيانة التي وُجِّهت إليه وإلى رفاقه، بالرغم من ضعف قلبه ووهن صحته، ينوء تحت ثقل التعب والحزن، وقام بالواجب الذي تمليه عليه أسقفيّته ومواطنيّته. بصفته الأسقفيّة، رفض الارتداد المقترَح، وبصفته الوطنيّة، أَكَّد إخلاصه لوطنه. وأجاب باسم الجميع، وبإجابته وَقَّع مرسومَ موته وموت رعيّته، لكنّه خَلّد اسمه وأعماله، واسم إخوته في يسوع المسيح وأعمالهم. قال الحبر:
- «نحن بين أيدي الحكومة، أمّا بالنسبة إلى الموت، فسنموت في سبيل يسوع المسيح…»
- «في سبيل يسوع المسيح»، ردّد رفاقه الأربعمئة وأربعة.
ثمّ أردف: «لم نكن قطّ خونة للأمّة العثمانيّة، ولسنا، اليوم، خونة لها. أمّا أن نصبح خونة للدين المسيحي، فذلك مستحيل…»
- «مستحيل»، أعاد رفاقُه الأربعمئة والأربعة القول.
وأضاف الأسقف أخيرًا: «سنموت، ولكنّنا سنموت في سبيل يسوع المسيح».
- «في سبيل يسوع المسيح»، كرّر رفاقُه الأربعمئة وأربعة.
وخرج من الصفوف، فجأة، أحد العلمانيين واسمه رزق الله مرشو، ومدّ يديه، وقال للجنود: “أقتلوني، وستعرفون كيف يموت المسيحي…” ولكنّ ساعة الإعدام لم تكن قد أزفت بعد.
وأراد الكاثوليكيّون إثبات إيمانهم في لحظات حرّيتهم الأخيرة، فجرى مشهدٌ لا يوصف، وهو شبيه بالمشهد القديم الذي كان فيه الشهداء مجموعين في حلبات روما ينتظرون النمور والفهود. لكنّ المدرّج، هنا، كان أكثر من واسع، والوحوش أكثر من مفترسة، والوِحدة كبيرة جدًّا.
وتحرّك الأسقف والكهنة بين صفوف المؤمنين، وأعطوهم الحلّة الأخيرة، والتعازي الفائقة. ثمّ أخذ الأسقف خبزًا وقدّسه، ووزَّع الكهنةُ أجزاءَه المقدّسة لكلٍّ من المؤمنين. وحكى فيما بعد جنديٌّ كان حاضرًا أنّه، أثناء التقديس والمناولة، غطّت غمامة سميكة كتيبة المناضلين، وأخفتها تمامًا عن أعين المسلمين. فالله خاط فجأة ستارًا حجب الأمور المقدّسة عن فاقدي الإيمان.
وما أن انتهت ولائم المحبّة الأخويّة الأخيرة، حيث تمّ كسر خبزُ الحياة، غدا في مقدور المناضلين السير نحو الموت. ولم يُسجَّل أيُّ تخلُّف…
قام ممدوح بك، عندها، بالفرز الأوّل. أخذ مئة من المبعدين الأربعمئة وخمسة، وقادهم إلى المكان المعروف باسم «مغارات شيخان»، حيث لم تترك الكهوف العميقة التي قضت على الضحايا مجالاً لسماع تضرّعاتها الأخيرة.
وما إنْ عاد الجلاّدون، إختار ممدوح بك مئة شهيد آخر، اقتيدوا على بعد ساعة من هنا، إلى المحلّة المعروفة بـ «قلعة الزرزوان»، حيث قُتلوا فيها جميعهم، أربعة بعد أربعة، بضرب الحجارة، والخنجر، والسيف القصير، واليطقان، والهراوة، وأُلقي بهم في الآبار. وتحتفظ القلعة القديمة، إلى عظام أبطالنا، سرَّ لحظاتهم الأخيرة. وحدهم الجلاّدون، الصامتون اليوم، في إمكانهم أن يردّدوا، غدًا، كلمات إخوتنا الأخيرة، وثباتهم في الإيمان.
بقي المسيحيون المئتان وخمسة، ومنهم المطران مالويان. ولم يكن من الحكمة إعدامهم حيث هم، فاقتيدوا في اليوم التالي إلى مكان أبعد بقليل، وهي طريقة بارعة في إطالة عذابات كاثوليكيينا الجائعين، المعرّين، المقيَّدين، السائرين حفاةً عبر حجارة الطرق وأشواك الحقول. وقد مشوا ساعتين، ولَـمّـا بلغوا أحد الأودية العميقة، على بعد أربع ساعات من ديار بكر، قُضي عليهم جميعًا، في الحادي عشر من حزيران، وكان يوم جمعة، عيد قلب يسوع الأقدس.
وحظي موت الشهداء بإعجاب الأكراد أنفسهم الذين سارعوا ليتوزّعوا حصّة الكلاب من الصيد، فقال أحدهم: «لم نرَ أبدًا ثباتًا دينيًّا كهذا. لو أنّ المسيحيين انقضّوا علينا، لأسباب مماثلة، لتحوّلنا جميعنا، بطلب منهم، إلى المسيحيّة».
بَيد أنّ المطران مالويان لم يُعدم في تلك الأثناء، إذ إنّ الشرطة، لزيادة آلامه، أَجبرته على امتطاء جوادٍ وتقدّم القافلة، ليموت مفصولاً عن رعيّته. وهكذا، وصل وحيدًا إلى قَرَه كَبرو، على مسافة 3 ساعات من ديار بكر، حيث كان يجب عليه أن يموت. وعندما أُبلغ النبأ الكئيب، سأل وقد انشغل فكره: «أين هم أولادي؟»، فأُجيب: «سيموتون…».
عندها، وبدون أيّ اضطراب، بدأ الأسقف تهيئة نفسه للمثول أمام ربّه. لكنّه وجب عليه الإجابة على سؤال ممدوح بك الأخير:
- «قُل لنا، هل تملكون قنابل أم لا؟».
وأجاب الأسقف:
- «لو أنّه كانت لدينا قنابل لما جعلتم أبنائي يتحمّلون ما أضمرتموه لهم…».
- «هذا جيّد…».
وفجأة، أُطلقت رصاصةٌ في عنق الحبر، فسقط مضرّجًا بدمائه، ومات…
كان رئيس أساقفتنا العزيز والشجاع في السادسة والأربعين من عمره، وفي العام الرابع لولايته الأسقفيّة. وثمّة، بعد، تفصيلٌ نموذجيّ: فقد أسرعت الشرطة إلى ديار بكر وجعلت الأطباء يوقّعون على «أنّ وفاة المطران مالويان، أثناء الرحلة، حصل بفعل انسداد في شرايين القلب».
الإكرام للمطران أغناطيوس مالويان! فإنْ نحن فقدنا الأمل في استعادة رفاته المقدّسة ذات يوم لتطييبها، فلنحفظ على الأقلّ اسمه ورواية نهايته البطوليّة في مَذخر التاريخ المارديني.
وعندما يُصبح الأكراد أحرارًا في التعبير، سنطّلع على التفاصيل التي تُشرِّف الكنيسة وماردين… وإلى ذلك الحين سيبقى موت كاثوليكيينا العظيم ممجَّدًا لدى الله وفي سجلاّت الكنيسة الكاثوليكيّة الماردينيّة؛ لا سيّما أنّه كان موتًا غير عادلٍ؛ ففي مذبحة الولايات الستّ، ما كان على ماردين أن تتحوّل إلى مستودع، ولا إلى مسلخ. إنّ تنفيذ الإعدام بالأرمن الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، والكلدان الكاثوليك والبروتستانت في ماردين جاء إثر دسائس رخيصة مدبّرة قبل أشهر خمسة من قِبَل المسلمين المتعصّبين في المدينة. فقد استمع هؤلاء إلى غرائزهم وتبعوها. وهذا أكبر دليل على أنّه، لدى المتحضِّر المزيَّف، الذي يبتسم لك اليوم ويلقي التحيّة، عليك أن تنتظر، غدًا، ظهور وحش فيه، يسلِّمك ويَنحرك.
وعلى الماضي الذي يُنذرُ الحاضر أن يُنير المستقبل.
راحيل تبكي لا عزاء لها
( ص. 59-64 )
حِدادٌ بعد حِداد. راحيل الجديدة، مدينةُ ماردين الكاثوليكيّة، تذرفُ دموعًا لا عزاء لها، لأنّ التوقيفات لم تنتهِ بعد.
وما كادت قافلة العاشر من حزيران الكئيبة تسير نحو النزاع حتّى بدأ التحضير لمتطوعين جدد يسوقونهم إلى الموت. ففي اليوم ذاته، عند الظهر، جاب رجال الشرطة والدرك الطرقات، واقتحموا المنازل، وخرقوا حرمة مقرّات الأساقفة، وأَوقفوا كلّ مَن وقعت عليه أَيديهم، من كهنة وعلمانيين، وشباب وعجزة، زَجّوهم في الزنزانات من دون أيّ استجواب. وهكذا اختفى اثنا عشر كاهنًا كاثوليكيًّا. فلنذكر أسماء هؤلاء الشجعان الذين ذاع صيتهم نتيجة تعرّضهم لظلم بني البشر:
- من الإكليروس الأرمني الكاثوليكي، الآباء: جبرائيل قطمرجيان، ميناس نعميان، مغرديتش قَلْيونجيان، نِرسِس تْشيرويان، ڤـارتان حَداديان.
- من الإكليروس السرياني الكاثوليكي، الآباء: لويس منصوراتي، حنّا بنابيلي، جوزف ربّاني ، متّى خريمو، جوزف معمارباشي، حنّا طبي، متّى ملاش.
إكليروس السريان الكاثوليك في ماردين العام 1910. الجالسون بدءًا من يمين القارئ: متى خريمو، انطون أرمله (عمّ اسحق أرمله)، روفائيل بردعاني، بطرس صَلبو، حنّا بنابيلي. الواقفون بدءًا من يمين القارئ: جوزف رباني (المطران لاحقًا)، متى ملاش، اسحق أرمله. (المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسِيَر، بيروت، 1986، ص. 424)
فلنحيّي أولئك الذين لن نراهم بعد الآن: الأب حنّا طبي، فيه يتجسّد التواضع والتفاني؛ والأب متّى ملاش، مثال الاندفاع الرسولي، ومُرعب اليعاقبة… وقد أَفرح الإثنان منفانا، وخَفَّفا من آلامه، الأوّل بكياسته، والثاني بمودّته، ومعًا بموتهما.
ولنحيّي، أيضًا، الأب الشاب جبرائيل قطمرجيان، أمين سرّ سيادة المطران مالويان الخاصّ. فكلّ شيء كان معدًّا له من أجل مستقبل باهر، وما من شيء كان ينذره بمصير مجيد سريع كهذا. كان أمل الأبرشيّة، فغدا حاميها.
ولنتوقّف أيضًا عند الهدوء والفرح اللذين كان يتحلّى بهما هؤلاء الآباء أثناء التوقيف. «إنّنا ذاهبون إلى العرس»، قال الأب جوزف ربّاني . أمّا الأب متّى ملاش فكان يجيب سائليه من الفضوليين، وهو يُشير إلى أغلاله: «تلك هي سلاسل القدّيس بطرس». وأخيرًا، فإنّ الأب متّى خريمو، وكيل البطريركيّة، مثال البساطة وسرعة البديهة، وَدَّع الخادمة قائلاً: «إحرصي على إغلاق الأبواب جيّدًا، واصرفي القليل من السكّر».
واستغلّت الحكومة فرصة وجود هؤلاء الآباء في السجن لإذلال كهنوت المسيح، إذ أُجبروا على تنظيف فناء قسم الشرطة، ورفع حمولات الأقذار على ظهورهم، والتحوّل إلى عمال تنظيفات عامّة. لكنّهم قبلوا بهذه الصفة، بطيبة خاطر وسرور، ما أثار إعجاب الموظفين أنفسهم. «سحقًا… قال أحدهم، يبدو أنّنا، بإذلالهم، نخدمهم».
وفي الرابع عشر من حزيران، عند الساعة الثانية صباحًا، انطلق الموكب الجنائزي الثاني سالكًا طريق ديار بكر، أو بالأحرى، طريق الملكوت. وكان مؤلّـفًـا كالتالي:
- الإكليروس الكاثوليكي: 5 من الأرمن، 7 من السريان.
- العلمانيّون الكاثوليك: 181 من الأرمن، 50 من السريان، 19 من الكلدان.
- البروتستانت: 4 .
وفي المجموع: 12 كاهنًا، و 262 علمانيّ كاثوليكيّ، و 4 بروتستانت.
وبرحيل هؤلاء السجناء المئتين وستّ وستّين، رَحَل عن ماردين الأملُ في أيّام أفضل.
وعانت هذه القافلة من الأوضاع الأقسى. فها إنّ كاهنًا موثوقًا يَغيب عن وعيه على أبواب المدينة، بفعل الآلام التي سبّبتها له الحبال المشدودة على ذراعيه. وها إنّ أحد العلمانيين يفقد عقله من الألم، فيما آخر، وقد أَضْناه التعب، يلجأ إلى القرفصة، فيُقتل برصاصة في الجبين، وذلك سيكون مصير أيٍّ كان تخورُ قواه في الطريق… وتابعت القافلة مسيرتها، زارعةً وراءها الجثث.
كانت شيخان المحطّة المعتادة لكلّ قافلة. وكان السجناء، وقد أَضْناهم صيامُ نصف نهار، ومسيرةُ ستّ ساعات، يرتاحون فيها بعض الشيء، ويأكلون، ولكن، أيّ مأكل وأيّ راحة!
أَخبزٌ؟ وكان شبه معدوم، فيُشرى فتاةٌ منه من الأكراد بأغلى الأسعار… أماءٌ؟ وكانت مكوّنة من الوحل المائل إلى الخضرة، بفعل مستنقع ضفادع مجاور، أو تُشرى نظيفةً، بواقع عشرة قروش لكلّ نصف قدح.
أمّا الإنفاق، فكان يتمّ بشكل سَخيّ، قبل أن يعمل الجنود قريبًا على تعرية الضحايا من أموالهم وألبستهم وأحذيتهم. وفي هذا السياق، نلفت نظركم ألا تتعجّبوا إذا ما رأيتم، اليوم، كرديًّا عجوزًا يرتدي سترة مطابقة لذوق العصر في باريس، أو معطف رجل إكليروس.
وفي شيخان، حزر السجناء ما ينتظرهم، وفهموا ما كان عليه مصيرُ القافلة الأولى. ففي عزّ الليل، فُصل عنهم خمسة وسبعون، ولم يعودوا قط… ومن بينهم الآباء حنّا طبي، متّى ملاش، جوزف معمارباشي، تمّ نقلهم، الطوق حول العنق، والسلاسل في الأيدي، على مسافة ساعة من هنا، إلى كهوف المنطقة الشهيرة، مَرتع الجريمة وملجإ الندم…
أمّا باقي الأسرى، فلم يخرجوا من زاوية الإسطبل الذي حُشروا فيه إلاّ بعد ساعات ثلاث، ليتمّ نقلهم إلى مسلخ آخر. وبعد ساعتين من المشي، سُمع صوت طلق ناري يُنبئ بفرار أحد السجناء. فما كان من الجنود، بالطبع، إلاّ توجيه نيرانهم إلى القافلة المتوقفة، بدل إطلاق النار على الفارّ. سقط خمسة قتلى، من بينهم الأب الشابّ المحبوب، جبرائيل قطمرجيان، بعد أن أُصيب برصاصة في عنقه، وسال دمه على جُبّة جاره، الأب جوزف ربّاني ، وصعدت روحه إلى السماء، بعد أن نالت الحلّة الأخيرة التي طهرتها. وكان الفقيد الغالي، وقد أحسّ بنهايته القريبة، قام البارحة بتقسيم ذخيرة الصليب خاصّته، وابتلعها، ليحفظها من أيّ تدنيس.
وما إنْ لفظ الأب جبرائيل نَفَسَه الأخير حتّى أُخذ رزق الله دقماق، السريانيّ الكاثوليكيّ، بحماس ربّاني ّ هائل. وأمام جثّة رفيقه، قام بإنشاد إيمانه المسيحيّ، بصوته التِينور الصادح، مرتلاً نشيد الأيّام العظيمة: «عظيمٌ، عظيمٌ، عظيمٌ هو ربُّ…» ولم يُكمل قط، إذ أَوقفته رصاصة عند هذا الحدّ، غير أنّ رفاقه أَكملوا عنه…
وسقط بقربه صديقه حبيب حلاّق الذي هبط على الأرض المتحدّرة، فكانت له فراش ميت رائعًا، وسمحت له أن يُحدّق في وجه جلاّده والموت على السواء. جُرح حبيب، ورَسم إشارة صليبٍ كبيرةً، وأَعطاهُ جارُه، الأب حنا بنابيلي، الحلّة الأخيرة. وكان ما زال يتنفّس عندما اقترب منه حارس كرديّ اهتاج من مظاهر الإيمان الظاهرة أمامه، وفَلَعَ جمجمته بضربة هراوة.
أمّا الأب حنّا بنابيلي (سيموت لاحقًا في ماردين، في التاسع عشر من تموز من العام 1916، بفعل الوساوس التي تسبّبت له بالتهاب السَّحايا) فقد تلقّى، على نحوٍ غير مباشر، الرصاصة التي أُطلقت على الأب جبرائيل قطمرجيان، فاخترقت فخذه الأيسر، واستقرّت في فخذه الأيمن. لكنّ الأب الشجاع استجمع قواه بحيث استطاع إخفاء آلامه وإسكات صرخاته، لأنّ أيّ اعتراض من قبله كان كافيًا للقضاء عليه.
وهكذا بدأت المجزرة في حقّ هذا الجزء من القافلة، وتهَيَّأ كلُّ واحد لمواجهة الساعة الأخيرة. «كنّا نلمس السماء بأيدينا…» قال لي الأب لويس منصوراتي عند عودته، وأردف «لقد فقدنا الإحساس بآلامنا المبرّحة التي تسبَّبت بها أشواك الطريق وحجارتها، نسينا مفهوم الأشياء الأرضيّة، لم يبقَ سوى الله، والله وحده…»
بَيدَ أنّ الله لم يَدْعُهم جميعًا إليه في ذلك النهار، إذ إنّ ساعيًا لدى الوالي آتيًا من ديار بكر، تمكّن من اللحاق بميليشيا ماردين، وصرخ بالجنود: «أَوقفوا إطلاق النار، أَوقفوا القتل، فقد وصل العفو الإمبراطوري…» نعم، وصل العفو، ولكن ليس بالسرعة الكافية لإنقاذ الجزء الأوّل من القافلة!
نُقلت الضحايا إلى ديار بكر أوّلاً، فإلى ماردين، هذه الضحايا التي عرفت شرف الشهادة، من دون الحصول على الإكليل والتاج. وعند وصولهم إلى مدينتنا، في الثالث والعشرين من حزيران، أَخبر كلّ واحد منهم أعمال جاره ومآثره، غير متوقفين عند أَخبار ذواتهم. وأكّدت رواياتهم، لسوء الحظّ، الإبادة التامّة للقافلة الأولى. كما رسّخ العائدون فينا فكرة أنّ ماردين، السعيدة والصامتة، ستُطلق بعد الكثير من المراثي، ولن يوجد لديها ما يكفي من الدموع لبكاء جميع أبنائها، ولا من الأكفان لدفنهم…
لن تعود ماردين قريبًا سوى مدفن لعظام موتاها…
نمورٌ وسط الـزَّنْـبَـق
(ص. 91-97)
إنطلقت القافلة المؤلّفة من مئتين وخمسين شخصًا الساعة الثانية من صباح السادس عشر من تموز، آخذةً معها مَن كانت ماردين تعدّهم الأنبل والأنقى والأصدق: نبلٌ في الاسم، نقاءٌ في العرق، نزاهةٌ في الثروة. كما أخذَت مَن تبقّى من أرستقراطيّي المدينة الذين كانوا قد أفلتوا من شباك الدهم الذي حصل في الثالث من حزيران، وهم:
- من بيت كسبو: شكري أفندي
- من بيت بوغوص: فيليب أفندي وبوغوص أفندي
- من بيت نعمي: سليم أفندي ونصري أفندي
- من بيت جنانجي: بطرس أفندي، دِكران أفندي، حنّا أفندي
- من بيت شلمي: فَتّوته، فيليب أفندي، بطرس أفندي، ميخائيل أفندي
- من بيت الله: الأب أوهانّس سَركِه، ذو التسعين من العمر، النائب العامّ لسيادة المطران مالويان.
ولا تظنّوا أنّ الخطر الذي أحسّ به المنفيّون قد ألقى الاضطراب في نفوسهم. إنّ الهدوء، والهدوء الفرح الذي يصنعه الضمير المطمئن، لم يتركهم لحظةً. والدليل على ذلك هو هذا المشهد الذي جرى بالقرب منّا. كانت عائلة جنانجي النبيلة، بجميع أفرادها، على شرفة منزلها. قرابة منتصف الليل، وبحسب إشارات ضوئيّة مُتَّفق عليها، ومنبعثة من كوّة في منزل المطران جبرائيل تبوني الأسقفي، ركعَت أرضًا، وحصلَت على الحلّة الأخيرة من سيادته. تمّ السرّ عن بعد، وبين الظلمات: سرّ التطهير والتعزية ما فوق الطبيعة. وسنفهم قريبًا، كيف ظلّ المنفيّون أقوياء حتّى النهاية، أمام الموت المحدق بهم عند أبواب المدينة.
أَويجدر بنا، أيضًا، سَرْدَ مشهد مؤثِّر في منزل آل بوغوص، يذكرنا بما حصل في أبعد العصور؟
فما إن حضرتْ السيّارات حتّى نزلَت العائلة الكثيرة العدد (38 شخصًا) درج الدار، ورأى الجنود المندهشين صفًّا مزدوجًا مؤلَّـفًـا من ستّ عشرة فتاة تتوجّهن إلى باب المخرج، وعلى رأس كلٍّ منهنّ طرحة من الموسلين الأبيض، وفي يدهنّ شمعة مضاءة.
- «إلى أَين تَذهبنَ وأنتنّ على هذا الشكل»، سألهنّ أحد الضبّاط.
- «إلى عرس السيّد المسيح»… أجابت جوقة المنفيّات.
وتَجَمّع الخطّاب السماويّون في عربات الخيل…
إنّ هذا المشهد المزدوج من الإيمان والرجاء: صمتُ تلك العائلة الجاثية على الشرفة بين يد أسقف يعطي الحلّة الأخيرة، وحماسة عائلة تسير في تطواف، تُضيء مسيرتها إلى القبر، لابسةً كفنها الأبيض، واقفةً يهدّدها سيف الجلاّد، لكافٍ للإشارة إلى الجانب الذي تقف معه الشجاعة التي لم تكن كافية لوقف الهيجان التركي، ولا حتّى التخفيف منه. فهو يبدأ بالمشهد العادي: سلب الضحايا. وهكذا، أُوقفت السيارات والعربات في الثانية والنصف صباحًا، وتَكلَّف ممدوح بك ولصوصه عناءَ تفتيش الراحلين، وتمّ نهب الذهب والمال، والمجوهرات والأحجار الكريمة، واللآلئ والأساور، وكلّ ما يلمع وله وزنه. واستمرّ النهب لمدّة سبع ساعات متواصلة. وعَرفَ شهداء الغد، المعرَّضين لأشعة الشمس ولسخرية العسكر وحقدهم، كيف يُحافظون على رباطة جأشهم، والقبول بكلّ شيء في سبيل مسيحيَّتهم.
وتحرّكت السيارات. غير أنّ الجشع التركي تجدّد، فتوقفت القافلة بعد مسيرة ساعتين، في قرية حرّين، حيث استُكمل تفتيش الصباح. أُجبر الرجال والنساء والأطفال على التعرّي بالكامل، وعملت أَيدي رجال الميليشيا الخاطفة في الثياب كلّها تبحث عن أيّ خياطة فيها قد تخفي بعضًا من المال.
وحَلَّ الليل من دون أن يأتي بأيّ نُصح: نام الهيجان، واستيقظت البربريّة.
تابعت القافلة سيرها في صباح اليوم التالي، السابع عشر من تمّوز. وتمكّن السيّد بطرس جنانجي من الإلقاء بطفله البالغ من العمر ثلاثة أعوام إلى قرويّة مسيحيّة تَبنَّته. غير أنّ الطفل، وريث ثروة كبيرة ومصائب أكبر، لم يتحمّل طويلاً هذا الحِمل المزدوج، فمات بعد أشهر ثلاثة.
ولم تعد المرحلة القاضية بعيدة. فعند الظهر، وصلت القافلة قرية عبد الإمام التابعة لقبيلة الخلجيّة، في أراضي عثمان آغا، وعلى مسافة كيلومترات ثلاثة من تلّ أرمن الشهيرة.
- «تَوقّفوا»، صرخ قائد القافلة. فتوقفت السيّارات والعربات. وكانت الساعة الثالثة مساءً.
كان ذاك هو مكان المجزرة، غير أنّ ساعة المذبحة كانت قد تأخّرت. وسُمح للضحايا بالتزوّد بالخبز والماء لأنّهم أُبلغوا عن انطلاقة مقبلة ومحطّة جديدة. وظنّ الأكراد الذين عجّلوا إلى المكان أنّه قد أُذن لهم بالقضاء على القافلة، بَيد أنّ رجال الميليشيا تلقّوا الأمر بإطلاق النار على اللصوص، وأَبعدوهم مؤقتًا…
ووصلت عندها فرقة هامّة من الخيّالة، بإمرة خليل بك، إبن إبراهيم باشا الشهير، وقد أتى شخصيًّا من ڤيرانشهر لإنقاذ آل جنانجي. فالصداقة، أو بالأحرى المصلحة، أَودت به إلى ملاقاة البؤس والشقاء، وكان قد أَقسم على ضريح والده بإنقاذ عائلة كاثوليكيّة صديقة، أيًّــا كان الثمن. بَيد أنّ توفيق بك، المساعد العسكري لوالي ديار بكر، ارتاب للأمر وقام بإفشاله، فاقترب من ابن إبراهيم باشا، وأَسرَّ في أُذنه أسبابًا متعلّقة بأمن الدولة، وأكاذيب، كانت كافية لقلب النيّة الحسنة وإفسادها…
وهكذا، لجأ هذا الرجل الذي كان باستطاعته إنقاذ القافلة كلّها بضربة واحدة من يده القديرة، كما كان في نيّته، إلى الجلوس وسط مجموعة الرجال، واعدًا إيّاهم بالأمل والأمان، لينتقل بعد لحظات إلى مساعدة الشرطة في قتل القافلة بأكملها. لقد تمّ خيانة الصداقة، وأصبح في مقدور البربريّة أن تقوم بالعمل.
كانت الساعة السابعة والنصف مساءً، والنهار إلى نهاية. فُصل الرجال المزمع إيصالهم إلى حلب، واقتيدوا إلى طريق جانبيّة، ولكن أمينة، كما قيل لهم. وتوقّفت السيارات خلف أرض متموّجة قريبة، وتَرجّل منها المنفيّون، وسقطوا جميعهم، على بعد أمتار من هنا…
وعند سماع إطلاق الرصاص وصرخات الضحايا، عرفت النساء، كما الأطفال، ما هو مصيرهم، وتهيّأنَ للصراع الأخير في هدوء رائع.
وفي تلك اللحظة الأخيرة، أرادت الشرطة أن تبدو أكثر بربريّة، مسبّبة آلامًا عميقة للنساء. فبدأت بخطف الأطفال من أحضان أمّهاتهم، ووضعهم بين أيدي الأكراد. وكان ذلك، بالنسبة إلى الأم، الموت للمرّة الأولى.
ثمّ أُجبرت النسوة على خلع ملابسهنّ بالكامل، وذلك لسببين: إمكانيّة بيع الألبسة الحريريّة من دون أيّ عيب فيها، وجعل أمر التعرّف على الجثث غير ممكن. وكان ذلك، بالنسبة إلى المرأة، الموت للمرّة الثانية.
وهنا، انتفضت المرأة والأمّ بسبب المساس بالكرامة، وتحوّلت السيّدة شَمِّه جنانجي إلى محامية عن بني جنسها وقاضية لجلاّديها، نسبة إلى أصالتها ومركزها وخصالها التي جعلتها في المركز الأوّل للقيام بهذا الدور.
- «وَيْحكم، صرختْ بهم، من الجائز أن تكون الحكومة أمرتكم بقتلنا، ولكن، أَليست وحشيّتكم هي التي تأمركم بتعريتنا؟ نحن نطلب رحمتكم، لا لحياتنا كعثمانيّات، إذ لا قيمة لها، بل لخَفَرنا كمسيحيّات، فهو ذو قيمة كبيرة. خذوا مِنّا حياتنا، ولكن، على الأقلّ، أُتركوا لنا غطاءً لنموت فيه.»
وربحت السيّدة قضيّتها، وتُرك لمنكودات الحظّ لباس أخير لن يبقى لهنّ ولو بمثابة كفن. أخيرًا، بعد أن كان الضابط القائد سرق أطفالهنّ، وخلع عنهنّ ملابسهنّ، أراد انتزاع الإيمان منهنّ، فسأل السؤال المعهود:
- «جاهِرنَ بالإسلام… صرخ فيهنّ، آمِنّ بالنبي فتَخلصنَ…»
وكان هذا، بالنسبة إلى امرأة مسيحيّة، الموت للمرّة الثالثة…
أخذت السيّدة شِمّه جنانجي الكلام مرّة أُخرى وقالت:
- «نحن؟ نتحوّل إلى الإسلام؟ أبدًا… أبدًا… نحن نعترف بالمسيح ونؤمن به وحده. إنّنا لا نقبل عَرضَكم علينا الارتداد، ونرمي به جانبًا، لأنّنا سنبقى مخلصات لربّنا وأصلنا وكنيستنا. لا نريد ديانتكم التي لا تبشّر إلاّ بالخلاعة. أنتم تلاميذ رجل لم يُعلِّم إلاّ قلّة الأدب، وقد تخطيتم معلّمكم، والبرهان هو حال التعرية التي تفرضونها علينا. لن تتوصلوا أبدًا حتّى أن تكونوا أناسًا، ما دمتم باقون مسلمون. تقترحون علينا استرداد حياتنا، ولكن، ما قيمة الحياة تحت سلطة حكومتكم؟ نحن مسيحيّات، وسنموت مسيحيّات…»
وهكذا، تمّ الانتقام للدين المسيحي وللشرف العائلي الموروث، بكلّ عزّة وبلاغة…
غير أنّه، لتحريك عواطف النمور، وجب القول أكثر من هذا بكثير، فيما، لإثارتهم، يكفي أقلّ من ذلك بكثير. وبأمر من مساعد الوالي العسكري، انقضّ النمور المغتاظين، من ذوي الوجوه البشريّة، على الضحايا، واقتادوهنّ إلى مكان غير بعيد، عشرين بعد عشرين، حيث سقطنَ مضرَّجات بدمائهنّ، بضربات الهراوات على الرأس، أو طعنات الخناجر في الثدي، أو ضربات السيوف في الحنجرة، أو ضربات العصي على البطن. ولم يستطع صوت آلات التعذيب خنق صلاة المحتضرات، أو وقفها. ولم تتمكّن ضراوة الطغاة من التسبّب بحالة ارتداد واحدة.
سقط أفراد عائلة شلمي أولاً. ثمّ جاء دور السيّدة شمّه جنانجي التي نُزع ثدياها قبل أن تُقطع رأسها. وسقطت بالقرب منها ابنتها فهيمة، ذات الأعوام الخمسة عشر، وقد خُرق جسدها بطعنات خنجر عديدة.
أمّا زوجة إسكندر آدم التقيّة، فتحقّق حلم حياتها بموتها في سبيل السيّد المسيح.
كما سقط أفراد عائلة بوغوص، وإنّ شموعهم التي أطفأتها الدماء لفترة عادت وأضاءت في نجوم السماء، للأيّام الأبديّة…
لقد سقط الجميع…
قام الجنود بحفر حفرة كبيرة رَموا فيها جميع الجثث، ثمّ قاموا بطمر تلك المقبرة الجماعيّة الحافظة لعددٍ كبيرٍ من البطلات.
وكان الأكراد قد أخذوا نصيبهم من الأطفال، وعادوا يُقيمون في جحورهم، فيما استولى رجال الميليشيا والشرطة على المغانم المكوّنة من القمصان المطرّزة، والفساتين من الحرير، قبل أن يتوجّهوا ليلاً إلى المدينة، راكبين عربات الخيل.
وبأُعجوبة، أُنقذ الصغير يعقوب، إبن غسطو إسكندر آدم، وشقيقتاه، من المجزرة، إذ أخذهم الأكراد واستردّهم بالمال المطران تبوني.
أمّا حنّة مخلوطة، زوجة شقيق المطران مالويان، التي طُعنت بستّ ضربات خنجر، فقد رُميت مع الجثث، ظنًّا من القاتلين بأنّها ماتت، لكنّها عادت إلى الحياة بأعجوبة. وهي قالت لجنديّ أتى مساءً يُفتّش الضحايا: «أَستحلفك بالله أن تنقذني». وقد نقلها الجندي إلى قرية مجاورة حيث شُفيت. ثمّ بقيت ثلاثة عشر شهرًا أسيرة الأكراد قبل أن تُعيدها العناية الإلهيّة إلى ماردين، في الخامس والعشرين من آب 1916.
وربّ سائل: أَلم يكن عند هؤلاء الوحوش شفقة ما ليُفرجوا عن بعض الضحايا؟ شفقة، لا؛ مصلحة، ربّما. وقد أَخفت أهواء الأكراد البعض منهم في الجبال، وحَمَت الصداقة العربيّة البعض الآخر تحت الخيم. إنّنا نجهل عدد هؤلاء، لكنّنا نُدرك آلامهم.
واعترف رئيس بلديّة المدينة المسلم، خوذر شلبي أفندي، بعد أشهر خمسة على المأساة الرهيبة، قال: «لقد اقترفنا جريمة كبرى، بإقدامنا على قتل عائلات ماردين النبيلة… ما كان يجب علينا نَفيُهم حتّى…».
وبعد أشهر ستة، رَوَت زيزف، إبنة السيّد أنطون كسبو، وهي في الثامنة من عمرها، شاهدةُ عيان على ما حصل، وقد أَنقذها صغر سنّها من الموت، وأَنقذتها العناية الإلهيّة من يد الأكراد، أنّها رأت والدتها العارية في ركام الجثث، وحصلت منها على قبلة الأمومة الأخيرة.
وأخيرًا، بعد أشهر سبعة، تكلّم أحد المسلمين بصراحة، معبّرًا عن رأيه، معظّمًا جميع ضحايا الظلم التركي، من خلال محاميتهم، قال: «إنّ السيّدة جنانجي هي أَشجع الشجعان».
ذاك كان المديح الذي كان الجلاّدون يُطلقونه على بعض المسيحيين من الذين كانوا يسقطون في مدرّج روما. غير أنّ المدينة التي كانت، البارحة، تحسد المدينة الأزليّة، لم تَعُد تحسدها، اليوم، على شيء…
فلماردين مدرّجان…
1 اسحق أرمله،القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 463-466 ؛ جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ترجمة الأب عمانوئيل الريّس، كنيسة القديس ميخائيل للكلدان في ألكاجو (كاليفورنيا)، 2006، ص. 303-306 ؛
Yves Ternon, Mardin 1915, Anatomie pathologique d’une destruction, Annales du Centre d’Histoire arménienne contemporaine, Tome IV, 2002, p. 270.