صفحة من مخطوط الأب بونافنتورا يتكلّم فيها عن الأب ليونار
يرتدي هذا التقرير أهميّة قصوى. كاتبه، الأب بونافـنتورا فاضل الكبّوشي (بعبدات، 7/2/1879 – دير الزور، 15/8/1936) هو رفيق الأب ليونار والأب توما. درسوا معًا في تركيا، وعُيّنوا معًا في إرساليّة أرمينيا وما بين النهرين.
أُوقف الأب بونافـنتورا، وحُكم عليه بالموت، ثمّ أُطلق سراحه. تَنكّر بزيّ كردي، وتمكّن من مغادرة تركيا والهروب إلى لبنان حيث كتب هذا التقرير 1 ، بالفرنسيّة، في العام 1919، يَروي فيه استشهاد الأب ليونار، ومراحل توقيفه مع الأب توما، وتهجيرهما من دير ديار بكر إلى دير أورفا، ثمّ من أورفا إلى المحكمة في أضنة. نعرضه هنا كاملاً، بعد أن أضفنا عليه بعض العناوين، تسهيلاً للمتابعة.
آب ١٩١٤: إرساليّة الآباء الكبّوشيّين في بلاد ما بين النهرين
عشيّة الحرب الكبرى، كانت إرساليّة الآباء الكبّوشيّين من إقليم ليون [فرنسا] في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا تشمل ستّة مراكز: أورفا، ديار بكر، ماردين، معمورة العزيز، خَرْبوط وملاتيا. وكانت تضمّ حوالي عشرين راهبًا، فرنسيّين ومن أهل البلاد.
وكان من الضروريّ، منذ أوائل آب ١٩١٤، الاهتمام بتنظيم جديد يقضي بتوزيع مهامّ الإرساليّة ومسؤوليّاتها على الرهبان من أهل البلاد، فقط، لأنّ الآخرين كانوا قد ٱستُدعوا للاحتياط. فتمّ إغلاق مركزين هما: خَرْبوط وملاتيا اللذين نهبهما الأتراك، خلال الحرب، وباعوا محتوياتهما بالمزاد العلنيّ، في الأسواق الشعبيّة. أمّا المراكز الأربعة الأخرى فقد شغلها الرهبان التسعة الباقون:
- في أورفا: الأب بنوا والأخ روفائيل (أرمنيّان)
– في ديار بكر: الأبوان توما وبونافنتورا (سوريّان)
– في ماردين: الأب دانيال الإيطاليّ (٨٠ سنة) والأب ليونار (سوريّ).
– في معمورة العزيز: الأبوان بازيل ولويس، والأخ بنوا (أرمن). 2
وكانت، أيضًا، في مختلف هذه المراكز، راهباتٌ فرنسيسكانيّات من لونس لوسونييه، وهنّ: الأخوات فيبروني، جان انطوان، إفرام (أرمنيّات)؛ الأخت آنا (سويسريّة)؛ الأخت كاترين (فرنسيّة مُسنّة)؛ الأخت أنياس (فرنسيّة مريضة جدًّا). هؤلاء تَجمَّعن، أوَّلاً، في ديار بكر، ثمّ أَتَين إلى أورفا، حين طُرد الرهبان الأوروبيّون من الأمبراطوريّة العثمانيّة.
الأب بونافنتورا أمام عين ماء بعبدات في العام 1916 أو العام 1927 حين كان رئيسًا لدير القدّيس انطونيوس البادواني (أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة في المطيلب – لبنان)
أواخر العام ١٩١٤: طرد المرسلين الكبّوشيين من ديار بكر
كتب هذه الرواية الأب بونافنتورا الذي ٱكتفى بوصف ما شاهد، وروى الحوادث التي عاشها، في ديار بكر، أوّلاً، ثمّ في أورفا.
فَور دخول تركيّا الحرب، في تشرين الأوّل ١٩١٤، تَعرَّض مركزُنا في ديار بكر لسلسلةٍ من المضايقات، من قِبَل الحكومة العثمانيّة. فهذه، أقامت مركزًا للشرطة في مدرسة الصبيان. وكان علينا الخضوع للاستجواب، في كلّ حين. ثمّ أُمرنا بإخلاء مدرسة البنات. وأخيرًا، طُردنا من ديرنا، وقد تُركت لنا حريّة البحث عن مأوى آخر، نلجأ إليه، في المدينة. لم يشأ الوالي الإصغاء إلى احتجاجاتنا، ومُنعنا من حَمل أيّ شيءٍ إلى خارج الدير. ثمّ عَلِمنا بأمر طردنا من الأمبراطوريّة، وأضحى كلّ أثاثنا ملكًا لهؤلاء اللصوص الذين باعوه بالمزاد العلنيّ.
ومن اللافت أنّ العناية الإلهيّة كانت قد حفظت لنا مركز ديار بكر، إلى ذلك اليوم، لكي يلجأ إليه كلُّ المهجَّرين. فقد أَنزَلْنا فيه الآباء الكبّوشيّين من معمورة العزيز، والآباء الدومنيكان من ڤان وسْعِرت مع راهباتهم، وأخواتنا الراهبات من ماردين، وقنصل فرنسا في ڤان السيّد دو سانفور. وبعد أن تَمَّ إنقاذ جميع هؤلاء، وعندما لم يعد هناك مَن يلجأ إلى مركزنا في ديار بكر، غاب هذا المركز في العاصفة كما تغرق السفينة بعد إنقاذ آخر غريق.
صمود الأب ليونار في ماردين
غير أنّ الأماكن المهجورة لم تَفرَغ، إذ بقي فيها أحدهم وهو حبيبنا الأب ليونار. كان لا يزال في ماردين، مع أنّنا دعوناه للمجيء إلينا. كتب لنا قائلاً بأنّه يرغب في الخروج من بين هؤلاء المتوحشين، وبأنّه لا يريد أن يموت قتلاً. وكان قد عمل على ترحيل الراهبات، لكنّه بقي هناك، لأنّه، في اللحظة الأخيرة، قال له الأب دانيال، باكتئاب، وهو ٱبن الثمانين سنة الذي لم يُطق فكرة الرحيل: «حسنًا، أتريدون أن تتركوني لوحدي؟» ولساعته، قرّر الأب ليونار البقاء، بدافعٍ من المحبّة لهذا الراهب الجليل، ليس إلاّ. فيما بعد، رُحِّل الأب دانيال إلى قونية. أمّا الأب ليونار، فقضى ضحيّة محبّته. وأوضح الأب أتال، في رسالةٍ وصلَتنا حديثًا من أورفا، بتاريخ ٢١ كانون الأوّل ١٩١٩ : «تَسنّى لنا أن نعرف من القسّ يوسف، وهو كاهنٌ من ماردين، أنّ الأب ليونار قُتل، في ١١ حزيران ١٩١٥، في زيرزوان، بالقرب من ديار بكر، بعد أن كرَّر رفضه الدخول في الإسلام، وبعد تَعرُّضه للجَلد، بسبب رفضه هذا، وبعد أن تَمكَّن من مَنح المسيحيّين المساقين معه الحَلَّةَ السريّة».
كانون الأوّل ١٩١٤: الانتقال إلى أورفا
كان علينا، إذًا، مغادرة ديار بكر. وقد قمنا باتصالات عديدة لنحظى بالموافقة على بقائنا، بدون جدوى. وكان الأب آنج، رئيس الإرساليّة، قد أَمَرَنا بالصمود حتّى النهاية. ولم يتمّ ٱنتزاع ثمرة جهودٍ مضنيةٍ قمنا بها، بدون أن تنفطر لذلك قلوبنا. ولم نرضخ إلاّ تحت وطأة القوّة الوحشيّة. وللّه مقاصد من خلال سَماحه بهذا، ولا يمكننا، اليوم، إلاّ أن نبارك العناية الإلهيّة التي خَلَّصتنا من القتل، ومن التحقير الذي لحق بالكهنة والرهبان الأرمن الذين بقوا في المدينة. ومن الجائز أنّ الأتراك أبعدونا كي يتيسَّر لهم ٱرتكاب فظائعهم كما يحلو لهم.
كنّا سبعة أشخاص، حين غادرنا: كاهنان، هما الأب توما والأب بوناڤنتورا، وأربع راهبات فرنسيسكانيّات، هنّ الأخوات كاترين، أنياس، آنا، إفرام، وفتاة يتيمة فقيرة، تُدعى ماري، وهي وحيدة لا أهل لها ولا أنسباء، فلم تستطع الراهبات تركها في أيدي هؤلاء الوحوش. وفي موعد الرحيل، أبدى الكثير من السكّان تعاطفهم الحارّ معنا، وقد رافقنا العديد منهم إلى خارج المدينة، معرّضين أنفسهم، بذلك، للشبهات.
قضاء عيد الميلاد على الطريق
كان في رفقتنا جنديّان يقوداننا إلى أورفا، وفقًا للأوامر، ويلزمنا ثلاثة أيّام لبلوغها. وحان عيد ميلاد سنة ١٩١٤، ونحن في الطريق إلى المنفى. وعند وصولنا إلى الخان، ليلاً، منهكين، هل يمكننا إلاّ أن نفكِّر بالمسافرين القدّيسين الذين، فيما مضى، في التاريخ عينه، جاؤوا يطلبون مأوى في خان بيت لحم؟ غير أنّهم لم يجدوا مكانًا لهم. لقد أصابنا الارتباك لأنّنا كنّا أحسن حالاً من العائلة المقدّسة، رغم أنّ هذا الخان يقدّم القليل من وسائل الراحة.
في منتصف الليل، وُلد يسوع بيننا. لقد ٱختبرنا، حقًّا، فقر بيت لحم. وكان، هناك، أيضًا، تراتيل ملائكيّة، وأجواق رعيان، لاستقبال مَن يفتِّش عن الفقراء والصغار، وتقديم العبادة له، ببساطة أبناء مار فرنسيس.
الاستقبال في أورفا
إستقبلتنا أورفا بكثير من الحرارة. كان الهدوء لا يزال مخيَّمًا فيها، ولم نتوصَّل إلى فهم سبب طَردنا، بوحشيّة، من ديار بكر. وكنّا نظنّ أنّ أورفا لن تكون سوى محطّة، على طريق منفانا، بما أنّنا كنّا مطرودين من السلطنة. أمّا، في الواقع، فقد كان على هذه المدينة أن توفّر لنا الملجأ، خلال سنيّ الحرب الطويلة.
وفي اليوم الذي تلى وصولنا، حضرنا أمام الوالي الذي ٱستقبلنا ٱستقبالاً حسنًا، قائلاً لنا: «تستطيعون البقاء هنا، جميعًا، رهبانًا وراهبات، عثمانيّين كنتم، أم من جنسيّات أخرى، على ٱختلافها. فأنا أعرف أنّكم لا تتعاطون السياسة. إبقوا هنا، بأمان، فأنا ضامنٌ لكم، جميعًا».
وهكذا، بقينا في أورفا، عند الأب بنوا، رئيس المركز، والأخ روفائيل. كنّا مسرورين جدًّا للحفاظ على هذا المركز، كما أوصانا الأب آنج.
فصح ١٩١٥: بداية المجازر
مرّت الأشهر الأولى من سنة ١٩١٥، بدون حوادث تُذكر، إلى ما بعد عيد الفصح، حيث راحت تظهر للعيان خطّة جهنميّة لإبادة المسيحيين. وقد مَدَّت ألمانيا يد العون، في ذلك، إلى تركيّا، لأنّها ظَنَّت أنّ مسيحيي السلطنة العثمانيّة موالون لفرنسا وحلفائها. وكان الباب العالي قد قرّر البدء بالإجهاز، أوّلاً، على الأرمن، في كلّ أرمينيا، على ألاّ يسلمنّ منهم أحدٌ. أمّا باقي الطوائف، كالكلدان والسريان، فالأولويّة كانت لتصفية الوجهاء والأغنياء والرؤساء، في المدن الكبرى. وبعد ذلك، يتمّ الهجوم على كلّ المسيحيّين في القرى الصغيرة، مع وجوب الحفاظ، مبدئيًّا، على النساء والأطفال، فيُطردون، لاحقًا، إلى الصحراء، حيث يموتون من التعب والمرض والجوع. وقد نُفِّذَت تفاصيل هذه المؤامرة الشنيعة بحذافيرها، وليس ما نكتبه هنا إلاّ للشهادة على ذلك، وهذه بعض الوقائع:
مجزرة الجنود العثمانيّين المسيحيّين في أورفا
لم يسلم المسيحيّون العثمانيّون المستدعون إلى الخدمة العسكريّة، لا بل بدأت المؤامرة بهم. فعوضًا من الاستعانة بهم للدفاع عن السلطنة ضدّ الأعداء، في الخارج، تَمَّ التعامل معهم كأعداء، وقُتلوا. هذا هو الحدّ الذي بَلَغه الشذوذ والهمجيّة الإسلاميّة.
كانت في أورفا فرقتان من المسيحيين، تعدُّ كلٌّ منهما مائتين أو ثلاثمائة رجل، يعملون على إصلاح طرق ديار بكر وحَرّان. وفي يوم واحد، جرى تقييدهم وإعدامهم، رميًا بالرصاص، لا لذنبٍ إلاّ لكونهم مسيحيّين، وبخاصّة، لكونهم من الأرمن. لم يُبدِ العاملون على طريق ديار بكر مقاومة حين قُيِّدوا كالخراف، وأُعدموا رميًا بالرصاص، بدون أن يفوهوا بكلمة. أمّا الآخرون الذين كانوا على طريق حرّان، فقد عرفوا المصير الذي ينتظرهم، فرفضوا القيود، وتَسلَّحوا بالمعاول، ودافعوا عن أنفسهم ببسالة. لكن، ماذا يمكنهم عمله أمام رجالٍ مسلَّحين بالبنادق؟ ومَن ٱستطاع منهم الفرار وقع، في وقتٍ قصير، في أيدي العرب والأكراد الذين لا يقلّون إجرامًا عن أولئك. حدث هذا، بعد فصح العام ١٩١٥ بقليل.
مجزرة وجهاء المسيحيّين في أورفا
في ذلك الوقت، تحديدًا، وصل موفدون من اسطنبول، حاملين صلاحيّات واسعة، وٱنتشروا في سائر مدننا الأرمنيّة. فقدم منهم اثنان إلى أورفا، أحدهما يُدعى خليل بك. وكانا على اتصال مباشر باسطنبول، وفي أيديهما كامل الصلاحيّات، حتّى أنّ سلطة الوالي نفسه لم تثبت بوجودهما. كانا ديكتاتوريّين عن حقّ.
شَرع هذان في إصدار مذكّرات توقيف في حقّ بعض من وجهاء المسيحيّين، وراحا يُخضعانهم للاستجواب، ثمّ يطلقان سراحهم، ليعودا إلى اعتقالهم ثمّ إلى تسريحهم من جديد. وٱعتُمد هذا اللطف الماكر وسيلةً لعدم إثارة الذعر في قلوب الشعب. وظَنَّ الناس أنّ رجال الحكومة هؤلاء يريدون الحصول على بعض المعلومات، فخضعوا لهذه الشكليّات المزعجة بلا ٱرتياب. لكنّ ما جرى، في الواقع، أنّ كلّ هؤلاء الوجهاء المسيحيّين أُعيدوا إلى السجن. وفي كلّ ليلة، يتمّ ٱقتياد العديد منهم للفلق، حتّى الإغماء. وبعد جمع ما أدلوا به من ٱعترافات، كانوا يأخذونهم إلى مسافة ثلاثة أو أربعة فراسخ [يُقدّر الفرسخ الفرنسي بحوالي ٤ كيلومتر]، حيث يَربطونهم أربعة أربعة، توفيرًا للذخيرة، ثمّ يُطلقون عليهم رصاصةً واحدة تخترق صدور الأربعة معًا. وبعد ذلك، يتولّى الأكراد القَضاء عليهم بالفؤوس ونهب ما في حوزتهم. بهذه الطريقة، قُتل الأب ليونار مع مطران ماردين الأرمنيّ وحوالي ٱثني عشر كاهنًا.
حان دور الإكليريكيين المسيحيّين
في أورفا، سُجن القسّ افرام، الراهبُ السريانيُّ الكاثوليكيّ، المعيَّن لخدمة الكنيسة السريانيّة، ثمّ ٱغتيل. أمّا الخوري حنا، رئيس الطائفة السريانيّة في أورفا، وهو كاهنٌ ذكيٌّ وتقيٌّ وغيور، فلم يَسلم من الموت إلاّ بواسطة من البيمباشي صدقي بك الذي مَحا ٱسمه من لائحة المسيحيّين المُزمع توقيفهم وقَتلهم. وصدقي بك هذا كان ضابطًا تركيًّا برتبة عقيد، أَظهر دائمًا تعاطفًا مع الكاثوليك الشرقيّين واللاتين. وقد نَبَّه، أيضًا، دِر ڤارتان، رئيس الطائفة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، لكي يهرب إلى حلب.
وكادَ الأخ روفائيل، من رهباننا، أن يقع في الأسر. أمّا القسّ يوسف، الكاهنُ الكلدانيُّ الشابّ المثقَّف، من خيرة العائلات الأورفليّة، ذو المستقبل الواعد، فٱضطرّ للهرب، مختبئًا في كيس، وسط البضائع المشحونة على القطار المتوجّه إلى تلّ أبيض. ولم يكن للوجهاء الكاثوليك واليعاقبة جميعًا بدٌّ من الاختباء أو الهرب سرًّا إلى حلب.
لم يستطع دِر ڤارتان قبول نصيحة صديقه البيمباشي، للهرب والتخلّي عن رعيّته الأرمنيّة. إلاّ أنّه، لَمّا رأى أنَّ لا خلاص له إلاّ بالفرار، عزم على ذلك، ولو متأخرًا في ٱتخاذ القرار. كانت الحراسة مشدّدة على الطرقات. ما العمل؟ ارتأى الاختباء في المدينة، خارجًا عن الحيّ الذي يقطنه. فأورفا تنقسم إلى ثلاثة أو أربعة أحياء محدّدة جيّدًا: الحيّ التركيّ، والحيّ الأرمنيّ، والحيّ السريانيّ-الكلدانيّ. ويحتلّ كلُّ حيٍّ جزءًا من المدينة. كان الحيّان التركيّ والأرمنيّ متلاصقين، ويشتمل الأوّل على سكّان أتراك فقط، والآخر على الأرمن، لا غير. أمّا الحيّ السريانيّ-الكلدانيّ فكان يحوي مزيجًا من السكّان. هنا، حيث يقطن سريانٌ وكلدانٌ ويهودٌ وأوروبيّون وبعض الأتراك والأرمن، يقع دير إرساليّتنا الكبّوشيّة.
قضيّة دِر ڤارتان 3
لم يعد يشعر دِر ڤارتان بالأمان في الحيّ الأرمنيّ حيث يقطن، فجاء يقرع باب الخوري حنا، رئيس الطائفة السريانيّة، فاعتذر ،هذا الأخير، عن استضافته، لأسباب مشروعة: إذا ٱكتُشف أمر ضيافة الكاهن الأرمنيّ عنده، يعرّضه هو للشبهة، دون إعطاء ضيفه أيّ فرصة للخلاص. فلجأ دِر ڤارتان إلى رئيس الطائفة الكلدانيّة، بدون إعلان هدف الزيارة التي طالت، حتّى هبوط الليل، وهو مسمَّرٌ هناك من الخوف، لا يجرؤ على الكلام. ففهم الخوري الكلدانيّ الأمر، وٱستبقاه للعشاء، وأواه عنده، طوال الليل. وفي الغد، أبان له عدم تمكّنه من إبقائه عنده، فلم يعد لدى دِر ڤارتان سوى أملٍ واحد، فجاء يقرع باب المرسلين الكبّوشيّين. لم نجرؤ على تعريض الرهبان والراهبات والكاثوليك من جيراننا، بٱستضافة مَن كانت الشرطة تبحث عنه. لكنّنا ٱستبقيناه للغداء معنا، قبل أن نودّعه. وتَركَ الدير عند حوالي الثانية من بعد الظهر، والتجأ إلى منزلٍ مجاور قريب تَسكنه عائلة «توتي» الأرمنيّة الكاثوليكيّة.
المجزرة الجَماعيّة الأولى في الحيّ الأرمنيّ في أورفا
في الوقت نفسه، تقريبًا، سمعنا طلقات الرصاص في الحيّ الأرمنيّ، وٱبتدأت المجزرة، إذ قام خليل بك، على رأس فرقةٍ من الشرطة، بٱقتحام منزلٍ كان أحد الجواسيس قد أَخبَرَ عن وجود أسلحةٍ فيه. فراح يدفع بقبضة يده صاحبة الدار، مهدِّدًا إيّاها، لأنّها رفضت الكشف عن مخبأ ما كان يفتّش عنه هؤلاء اللصوص. ثمّ صعدوا إلى الطابق الأوّل وقتلوا رجلين، أحدهما هو ٱبن ساعي البريد المدعوّ «مُولاّ»، وجُرح آخر. وسُمع صراخٌ ينادي: «الموت للكفّار، الموت للمسيحيّين». وتَردَّدَت هذه الصيحات في كلّ المدينة، وسط آلاف طلقات البنادق.
ومن على شرفة كنيستنا، تَمكّنّا من مشاهدة رجال مسلّحين ببنادق مارتيني وسيوفٍ وخناجر، يصعدون بٱتجاه الحيّ الأرمنيّ، فيما كان عجوزٌ كريه ينزل صارخًا كالمجنون: «إلى السلاح، إلى السلاح». ثمّ تَوقَّف بالقرب منّا، في الشارع الذي نقطنه، أربعة شبّان، تتراوح أعمارهم بين ١٨ و ٢٠ سنة، مسلَّحين بالسكاكين. هؤلاء تَوقَّفوا أمام منزل آل توتي، حيث دخل دِر ڤارتان، وحاولوا، جاهدين، تحطيم الباب، بقوّة الهراوات. ففرَّت صاحبة الدار، مع أولادها، من الباب الخلفيّ، منذ الضربات الأولى، تاركةً دِر ڤارتان لوحده، في المنزل. وحين كاد الباب أن يُخلع، إذ تطاير أحد ألواحه شظايا، بادر العجوز «كارجالي»، وهو تركيٌّ يقطن البيت المجاور، فٱنتَهرَ هؤلاء اللصوص الأربعة قائلاً: «ماذا تفعلون هنا؟» ثمّ أشار بيده إلى الحيّ الأرمنيّ وتابع: «إن كنتم شجعانًا فٱذهبوا وأَظهروا شجاعتكم هناك. ليس لكم ما تعملونه هنا». فتخلّوا عندئذ عن شناعتهم هناك، ومضوا إلى الحيّ الأرمنيّ.
لجوء الأرمن إلى دير الآباء الكبّوشيّين
أمّا دِر ڤارتان المسكين، فخرج من المنزل الذي قَدَّم له ملجأً هزيلاً، وهو ميت أكثر منه حيّ، واجتاز الشارع ليقرع، مرّة أخرى، باب مركزنا، ومعه عدد من الأرمن المساكين الخائفين. فاستقبلناهم كلّهم، وقلنا لهم: «إنْ مُتّم، فسنموت معكم». في هذه الليلة، حصلت المجازر ضدّ الأرمن والمسيحيّين. فكلُّ مَن كان في السوق أو في الشارع تَمَّ ذبحه دون شفقة، ولم نستطع إحصاء عدد القتلى الأرمن، لأنّ كلّ وسائل الاتصال مع حيّهم قد قُطعت. أمّا ضحايا اليعاقبة فكانوا حوالي الثلاثين، منهم أحد الكهنة السريان، واسمه مَلفونو، الذي كان يناهز الستّين، وهو مهتدٍ إلى الكثلكة مع عائلته، ويمارس رسالته المقدّسة في الطائفة السريانيّة، تحت إشراف الخوري حنا. لقد طعنوه في بيته، تحت أعين أهله، ثمّ ربطوه برِجل واحدة، وجَرّوه في شوارع المدينة، وهو نصف حيّ. وكان لا ينفكّ يردِّد: «يا يسوع ارحمني». وأخيرًا، قضى هؤلاء المتوحشون على مَلفونو المسكين إذ رفعوا صخرة، وسَحقوا بها رأسه، ثمّ جَرّوه حتّى الشلال، ورَموه بين النفايات جثّة هامدة تناتشتها الكلاب.
بعد المجازر، أتى الليل هادئًا. كذلك كانت الأيّام التي تلته. لكنّ النفوس كانت قلقة، ولم يجرؤ أحدٌ على الخروج. وكان جارنا، التركيّ العجوز «كارجالي»، يسدي لنا الخدمات، ويؤمّن لنا احتياجاتنا الضروريّة، إلى أن استعدنا الثقة بأنفسنا، شيئًا فشيئًا. أمّا الأرمن، فقد انقطعوا عن الذهاب إلى السوق. وبغية طمأنة الشعب، أخذ المنادون في الشوارع يعلنون العفو العامّ الذي منحه السلطان للمسيحيّين الثوّار، فما كان أحدٌ يصدِّق أقوالهم. ثمّ وُضعت إعلانات عند زوايا الشوارع، أتى فيها أنّ كلّ مَن لا يعود إلى عمله في السوق يُعتبر من الثوّار، لكنّ أحدًا لم يتحرّك.
مضى أسبوع على وجود دِر ڤارتان عندنا، فتوسَّل إلينا لكي يظلّ بضعة أيّام أُخرى، يحاول بعدها العودة إلى منزله في الحيّ الأرمنيّ. لكنّ الأسبوع الثاني مَرَّ دون أن يحسم أمره، فبقي عندنا خمسة أسابيع إضافيّة، ولم يخرج.
سبق وذكرنا أنّ دِر ڤارتان هو رئيس الطائفة الأرمنيّة الكاثوليكيّة. كان لا يزال شابًّا ذو شخصيّة مرموقة، وكاهنًا ممتازًا، يَحظى باعتبار كبير في مدينة أورفا. ووفقًا لِما يَبدو، كاد أن يصبح أسقفًا في وقت قريب، إذ سُلِّم مسؤوليّات مهمّة. دفعته غيرته إلى تشييد كنيسة كبيرة في مدينته، بمساعدة المطران «درور»، القاصد الرسوليّ، وما قَدَّمه له الأب آنج، رئيس إرساليّتنا. أعطته هذه المزايا حظوة كبيرة. كانت بلاغته تفوق المستوى العادي، وبحسن درايته، نال حظوة لدى الحكومة، ما وَفَّر لجماعته الكاثوليكيّة مركزًا ثابتًا. سبق وذكرنا كيف أنّ ضابطًا تركيًّا مرموقًا، هو البيمباشي صدقي بك، كان يتشرّف بصداقته.
هذا تعريف عن ضيفنا الذي أمضى عندنا مدّة خمسة أسابيع. لقد أدركنا جيّدًا أنّ وجوده عندنا سيُكتشَف، عاجلاً أم آجلاً، وأنّ العثور على رئيس الكنيسة الأرمنيّة في مركزنا سيدفع الحكومة التركيّة إلى الانتقام منّا بشكلٍ فظيع.
لم يقدر الأب بنوا، رئيس الدير، على اتّخاذ القرار لترحيل الكاهن الفارّ، خوفًا من تعريض حياته لأبشع أنواع الموت. غير أنّ الحكمة كانت تَقضي بعدم تعريض حياة عدد كبير من الناس، بحجّة إنقاذ حياة شخص واحد. وكان كلّ الكاثوليك العارفين بسرِّنا يطالبوننا بإلحاح بالتخلّص من هذا الضيف الخطير. فاقترحوا عليه وساطة أحد الأتراك الأمناء لتسهيل فراره عند العرب، لكنّنا لم نثق بتلك الوساطة.
لم يستطع الأب بنوا اتّخاذ أيّ قرار بالرغم من كلّ ما كان يصل إليه من أخبار. وعندما قيل له بأنّه يُعرِّض نفسه للنفي أو للسجن أو ربّما للموت شنقًا، كان يجيب، واضعًا حدًّا للجدل: «حسنًا، سأضحّي بنفسي من أجله». أمام تجرّد رئيسنا الأب بنوا البطوليّ ومحبّته، ومجاراة الأب توما له في هذا الموقف تمامًا، لم يبق لدينا، نحن الحذرون، إلاّ الطاعة والقبول بالتضحية، فاستمرَّينا بإيواء دِر ڤارتان.
نهاية ١٩١٥: مجزرة ثانية ومعارك في الشوارع
ها قد وصلنا إلى نهاية العام ١٩١٥. في إحدى الليالي، استيقظنا بغتة على أصوات البنادق، فكانت مجزرة ثانية ضدّ المسيحيّين، أَفظع من الأولى، إذ قُتل فيها أكثر من عشرين ألفًا، في مدينة أورفا، خلال شهر واحد.
لقد جرت معركة حقيقيّة في شوارع المدينة، بين الأتراك والأرمن، الذين أقاموا المتاريس في بيوتهم، وصمدوا بشجاعة أمام الحصار. لكنّ الأتراك كانوا يفوقونهم عديدًا، كما لم ينقص لديهم، لا البنادق ولا الذخائر. أمّا الأرمن، فقد استبسلوا في الدفاع عن أرواحهم، وأَوقعوا خسائر فادحة في صفوف الأتراك، ولم يتمكّن السلاح من حسم المعركة. عندها، لجأ الأتراك إلى وسيلة سريعة وأكيدة ستكون السبب لإلحاق الخزي والعار بهم، إذ قاموا باختيار موقعٍ مناسبٍ خارج المدينة ليرَكّزوا فيه مدافعهم، ويمطروا الحيّ الأرمنيّ بالقذائف التي دمَّرته.
حاول الأرمن اختراق الحصار، عدّة مرّات، دون نتيجة. سقط قائدهم، فانهارت معنويّاتهم، وقامت بعض النسوة ورَمَين أنفسهنّ في الآبار أو في النار، كما قام البعض بإبادة جميع أفراد عائلاتهم، مفضّلين موتهم على تعذيبهم وتحقيرهم المنتظَر على أيدي الأتراك. أخيرًا، دُقَّ الناقوس إيذانًا بالفرار، فتَصوَّر لنا أنّه ناقوس موت الأمّة الأرمنيّة. لقد تَمّ ذبح الجميع، واقتيد النساء والأولاد إلى الخانات، بانتظار ترحيلهم إلى عمق الصحراء حيث سيموتون جوعًا. تَمكّن بعض الرجال من الاختباء في دهاليز تحت الأرض، لكنّ بعض الخونة فضحوا أمرهم، عَلَّ هذه الطريقة تنجّيهم من الموت. أَخرجوهم كلّهم، وشنقوهم في المدينة، وكان عددهم اثنان وسبعون. كلُّ مَن كان دون الخامسة عشرة قُتل رميًا بالرصاص. أمّا نحن، فقد حافظَت علينا العناية الإلهيّة، طوال هذه الأيّام الرهيبة.
مصادرة دير أورفا لإيواء أسرى الأتراك
في اليوم الثالث من المجازر، أَمرت الحكومة بتجميع كلّ السجناء المدنيين في ديرنا، وهم الذين لقطتهم الشرطة من المدن التركيّة منذ أن أعلنت تركيا الحرب: إنّهم جميع الأوروبيّين التابعين الدول الحليفة، والمتواجدين على الأراضي العثمانيّة. كان المقدّم تقري باشا يتولّى مسؤوليّة هؤلاء، يعاونه بعض الضباط الألمان، وقد شَكَّل وجودهم عندنا، حماية لنا.
وهكذا استطعنا إخفاء دِر ڤارتان، وإنقاذه من المجزرة الثانية. لقد بقي في كنيستنا، طيلة ٤٠ يومًا، مختبئًا في قبوٍ صغير مظلم يقع خلف المذبح الرئيسي، هو كناية عن حفرة بعمق مترين، وجب الانحناء للدخول إليها، لا نوافذ عندها، تخفي زينة المذبح مدخلها. لم يكن دِر ڤارتان باستطاعته الخروج من مخبئه إلاّ بضعة دقائق في المساء، عندما يعمّ الظلام، إذ كان يخشى اكتشاف أمره من قِبَل رجال الشرطة الذين كانوا يتفقَّدون الأسرى، ويجوبون الدير طوال النهار. وقد لازموا ديرنا طيلة شهرين كاملين، حتّى بداية العام ١٩١٦.
أيلول ١٩١٦: إعتقال دِر ڤارتان في كنيسة الكبّوشيّين في أورفا
لم يحصل شيئ يستحقّ الذكر في هذه السنة، حتّى نهاية شهر أيلول. 4 وكان دِر ڤارتان ما يزال عندنا، في مخبئه، وكانت الجماعة الديريّة مؤلّفة من أربعة رهبان هم: الأب بنوا، رئيسًا، والآباء بونافنتورا وتوما، والأخ روفائيل. أمّا راهبات لونس لوسونييه، في الدير المجاور، فكانت جماعتهم مؤلّفة من الأخت فيبروني، رئيسة، والأخوات جان انطوان، وإفرام، وآنا، وكاترين، وأنياس.
في إحدى الآحاد، عند الصباح، أثناء الاحتفال بالقدّاس، حضر ثلاثة أشخاص لابسين العباءات، راحوا يكيلون الطريق ذهابًا وإيابًا أمام كنيستنا، ويتفرّسون بالداخلين إليها. بدوا أنّهم يبحثون عن أحدٍ ما. ثمّ تَقدّم أحدهم إلى الساحة الداخليّة حيث مدخل الكنيسة، فدخلها ووقف بالقرب من جرن الماء المباركة، مركّزًا نظره على المذبح. كان الأب بنوا يحتفل بالقدّاس، والأخ روفائيل يعاونه، فلاحظ فورًا وجود هذا الشخص الذي لم يكن وضعه يشير إلى أنّه آتٍ للصلاة. حينئذ طلب أحد المؤمنين الاعتراف لدى دِر ڤارتان الذي كان في السكرستيا. فلم يكن منه إلاّ النزول إلى الكنيسة دون تردّد، متوجهًا إلى كرسيّ الاعتراف، فصادف الغريب الذي استوقفه وأَسَرّ إليه قائلاً: «لديّ شيء ما أقوله لك. تفضَّل معي إلى الخارج». أجابه دِر ڤارتان: «قل لي أولاً من أنت، وماذا تريد». فما كان من الغريب إلاّ أن أمسكه بذراعه، وجَرّه نحو الباب، دون أن يجيبه بشيء. حاول دِر ڤارتان الافلات منه، لكنّ الغريب أخرج صفّارة من جيبه، ونفخ فيها مناديًا رفيقيه الآخرين اللذين كانا في الخارج، فأسرعا إلى داخل الكنيسة، وأوقفا دِر ڤارتان، باسم القانون: إنّهم رجال المخابرات. ولم يكن بالإمكان من دِر ڤارتان إلاّ مرافقة الشرطيين إلى مركز الحكومة، بالرغم من كلّ الاحتجاجات التي أبديناها، وسيق معه أيضًا الأخ روفائيل. وهكذا، بدأت معنا مرحلة جديدة من المحن.
سُجن الإثنان في زنزانتين منفصلتين، وجاء شاهدا زور ليحلفا أمام المحكمة، ويؤكِّدا أنّهما شاهدا دِر ڤارتان، خلال الانتفاضة، يحرِّض الأرمن على الثورة، ويتقدمهم للقتال، بيده بندقيّة، وهذا كان اتهام باطل.
لقد ظننّا أنّ الأخ روفائيل سيُخلى سبيله سريعًا، لكنّه لم يعد، وكانت الساعة الثانية بعد الظهر. عندها، لم نعد نحتمل الانتظار، فتوجهتُ مع الأب توما إلى السراي لاستطلاع الوضع، فوضعونا بمواجهة دِر ڤارتان وسألونا:
- هل تعرفون هذا الرجل؟
– تمامًا.
– أين يسكن؟
– عندنا، في مركز الإرساليّة.
المسدس في غرفة الأب توما
بعدها، توجّه معنا ثلاثة شرطيين إلى الدير، وقاموا بتفتيشه رأسًا على عقب، فصادروا كلّ أوراقنا ومخطوطاتنا. ثمّ اكتشفوا مسدسًا صغيرًا في غرفة الأب توما، سوف يصبح أداة الإدانة أمام المحاكم العرفيّة، في مَرعش وأَضنة، للحكم بالإعدام على الأب توما.
بعد الانتهاء من تفتيش الدير، أَخلوا سبيلنا، وغادروا المكان بعد أن ألحَّينا عليهم بإخلاء سبيل الأخ روفائيل، أيضًا. وعدونا خيرًا، وسَلَّمونا إيّاه، بالفعل، في اليوم نفسه. لكن عند الخامسة صباحًا من يوم غد، حضر شرطيّان إلى الدير، وقاما بتوقيف الأخ روفائيل الذي بقي في السجن اثني عشر يومًا، ولم يُطلق سراحه إلاّ لقاء خمسين ليرة تركيّة (١٢٣٠ فرنكًا تقريبًا) دُفعت في الحال، ووعداناهم بدفع مبلغ مماثل عند الفراغ من محاكمة دِر ڤارتان، في حال أُعطيت لنا الحريّة للعيش بسلام في ديرنا.
هكذا كانت نهاية العام ١٩١٦. منذ شهر أيلول، فقدنا كلّ اتصال بدِر ڤارتان، إذ بقي بين أيدي العدالة، ينقلونه من سجنٍ إلى آخر: شهران أولاً في أورفا، ثمّ في دمشق، ومجددًا في أورفا، ثمّ في حلب، ومجدَّدًا في أورفا، إلى أن التقينا به في مرعش (كانون الثاني ١٩١٧) في السجن نفسه، وأخيرًا في أضنة (شباط ١٩١٧) أمام المحكمة العرفيّة التي أدانتنا كلّنا معه، وبسببه.
خلال الشهرين اللذين أمضاهما دِر ڤارتان في سجن أورفا، وقبل نقله إلى مكان آخر، أبدينا له كلّ عطف واهتمام، وبعثنا إليه بالرسائل، لمساندته وتعزيته. وكان الأب توما يبدي طيبة خاصّة تجاهه.
٣ كانون الثاني ١٩١٧: الطرد من أورفا
بدأ العام ١٩١٧. في صباح اليوم الثالث من شهر كانون الثاني، بينما كان الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة آخذًا مجراه في كنيستنا، هجمت مجموعة من الشرطة المسلّحة بالبنادق، ودخلت الكنيسة، وسَدَّت جميع المنافذ، واعتقلت كلّ الرهبان. أمّا الكاهن المحتفل فتمَّ اعتراضه بعنف، إذ أمسكه رجال الحكومة بالبذلة، وأمروه بالنزول عن المذبح، ومرافقتهم على الفور. وجب علينا التنفيذ بسرعة، فاقتادونا إلى السرايّ، نحن رهبان الدير الأربعة: الآباء بنوا وبونافنتورا وتوما، والأخ روفائيل، وأحد الخدّام؛ وسط ذعر الناس الأتقياء الذين كانوا في الكنيسة، والراهبات الفرنسيسكانيّات، تاركين الدير مشرَّع الأبواب، ومعرَّضًا للنهب على أيدي الشرطة والجنود الأتراك. ولن يكون باستطاعتنا العودة إليه إلاّ بعد عام تقريبًا. زَجّونا فورًا في السجن بعد أن قاموا بتفتيشنا بدقّة.
على طريق المنفى نحو مَرْعَش
بعد ثلاثة أيام، تَوجَّهوا بنا إلى مَرعَش بحراسة شرطيَّين. إنَّ المسافة الفاصلة بين أورفا ومرعش كبيرة، ويجب علينا اجتياز الصحراء. هناك طريقان للقوافل: طريق حلب، وهو الأفضل، لأنّه صالح لسلوك السيّارات؛ وطريق بيريفيت الذي لا يصلح سلوكه إلاّ سيرًا على الأقدام أو على ظهور المطايا. قامت الأخت فيبروني بوساطة شجاعة مع السلطات كي يسمحوا لنا بسلوك طريق حلب، بدون جدوى، فاضطررنا إلى سلوك طريق بيريفيت. وكانت هناك بين أورفا ومرعش خمس مراحل تحتاج كلّ واحدة منها إلى يوم كامل لاجتيازها: سروج، بيريفيت، نصيبين، عينتاب، مرعش.
من الصعب سرد كلّ ما عانيناه خلال اجتيازنا الصحراء، إذ يطول بنا الكلام. لَمّا وصلنا إلى سروج، مساء اليوم الأوّل، سُلِّم أمرنا إلى ثلاثة أو أربعة جنود قاموا بتفتيشنا بعنف. ولَمّا حاولنا الاحتجاج، صَرخ فينا أحدهم رافعًا يده: «اسكتوا يا كلاب، يا كافرين، وإلاّ سأعلِّمكم كيف تَسكتون».
لقضاء الليل، زَجّونا في سجن كلّه رطوبة، ومليء بالأقذار، حُشِرَ فيه جنود أكراد فارّين من الخدمة العسكريّة، استقبلونا بشتائم نابية. لم يكن لدينا ما نأكله، فاقتسمنا ليمونة واحدة فيما بيننا نحن الخمسة. ثمَّ جلسنا على الأرض بين الأوساخ لنرتاح وسط هؤلاء البرابرة الذين حَوَّلوا قسمًا كبيرًا من الليل إلى جحيم.
وفي اليوم التالي، كان علينا الانطلاق مجدَّدًا، واضطررنا لاستئجار الحمير، بعد أن دفعنا الثمن ثلاثة أضعاف الثمن العاديّ، إذ لم يكن لدينا أيّ خيار آخر: إمّا أن ندفع ما طُلب منّا، وإمّا السير على الأقدام.
إصابة الأب توما بالتِيفوس
كان علينا، على طول الطريق، احتمال الهزء والشتائم من قِبَل الجنود وأفراد الشرطة الفارّين الذين اقتيدوا معنا لتسليمهم إلى السلطات العسكريّة. أمطرت علينا طوال النهار، فرفضت المطايا التقدّم، ما دفع رجال الشرطة إلى التفوّه بعبارات نابية ضدَّنا. وكان الأب توما مريضًا، ما جعله يقع عن مطيته ثلاث مرّات، فسخر منه الجنود الذين ادَّعوا أنّه سكران. وصلنا ليلاً إلى بيريفيت، مبلَّلين ومنهكين.
إنطلقنا مجدَّدًا، في صباح اليوم التالي، إلى نصيبين، وبلغنا عينتاب مساء اليوم الذي يليه، حيث رمونا في حظيرة حَوَّلوها إلى سجن، وأَسَرونا فيها ثلاثة أيّام. وكان الأب توما تزداد حالته سوءًا، وما من وسيلة لمعالجته؟
كان الطريق، انطلاقًا من عينتاب، أفضل حال، إذ كان باستطاعتنا استئجار سيّارة، أقلّه واحدة للأب توما. غير أنّ أولئك الأشرار رفضوا البتّة، رغم أنّهم رأوا حالة الأب المسكين المنحدرة نحو الموت. لقد فرضوا علينا ركوب الحمير، لأنّهم رأوا في ذلك وسيلة أفضل لابتزاز مالنا.
الوصول إلى سجن مَرْعَش: تَفاني الأب باتريس
وصلنا إلى مَرْعَش والأب توما على الرمق الأخير، إذ تَفشّى التيفوس في جسمه. أصرَّينا على استدعاء الطبيب، لكنّهم رفضوا، فاستمرَّينا بالمطالبة طوال ثلاثة أيّام، حتّى أذنوا لنا ذلك، بعد تدخّل الأب باتريس، رئيس دير الآباء الفرنسيسكان في مرعش. خلال إقامتنا في المدينة، تمكَّن هذا الراهب الممتاز، الذي لازم مركزه دون قلق، لأنّه هولنديّ الجنسيّة، من إسداء أكبر الخدمات لنا.
شعر عزيزنا الأب توما بالموت يقترب، فطلب الاعتراف، مصمِّمًا على تسليم أمره للربّ. وعندما قمنا بتشجيعه لوضع ثقته بالربّ، قال لنا: «آه نعم، أنا كلّي ثقة به، إنّ الربّ لن يتركنا»، ثمّ أضاف: «أنا لا أخاف الموت، ولماذا أخاف منه؟ أليس الآب الرحوم هو مَن سيديننا؟ ألسنا نتألَّم الآن محبَّة فيه؟» ثمَّ دعا إخوته الذين كانوا يبكون، للصلاة معه.
اللقاء مع دِر ڤارتان في سجن مَرْعَش
التقينا دِر ڤارتان في سجن مرعش، فاقترب من سرير الأب توما المنازع وقال له: «أَتذْكُر بطاقة التعزية التي أرسلْتها لي، عندما كنتُ في سجن أورفا، منذ بضعة أشهر، وكتبتَ فيها أنّك كنتَ تطلب من يسوع ـ القربان بأن يعفيني من آلامي ويسلِّمك إيّاها»؟ «نعم»، أجاب الأب توما، «أَذكر جيّدًا هذا، ولستُ بنادمٍ على شيء، فلتكن مشيئته القدّوسة».
كانون الثاني ١٩١٧: موت الأب توما في مستشفى مَرْعَش
إنّ رئيس دير الفرنسيسكان في مرعش، الأب باتريس الطيّب الذكر، لم يرتح له جفن مذ عرف بوضعنا المحزن، وبحالة الأب توما. فسارع بالحصول على الإذن، لنقله من السجن إلى مستشفى المدينة، وجاء بنفسه ليساعد في نقله بواسطة المحمل. ولَمّا صار في المستشفى، سارع إلى إيجاد شخصٍ غيور، ليعالج المريض، نهارًا وليلاً. بقي بقربه معظم الوقت، كالأمّ الحنون، مظهرًا أنّه تلميذ حقيقيّ لمار فرنسيس، أبينا السرافيمي، الذي أراد بأن نتفانى في خدمة إخوتنا المرضى، ونلطف بهم كأكثر الأمّهات اهتمامًا.
فَقَدَ الأب توما وعيه، وكان يهذي قائلاً: «عَجّلوا، تعالوا بسرعة، أَحضروا لي المناولة». مَنَحه الأب باتريس سرّ المسحة الأخيرة، ولفظ الأب توما أنفاسه الأخيرة بين يديه. حدث هذا في النصف الثاني من شهر كانون الثاني العام ١٩١٧، بعد وصولنا إلى مرعش بخمسة أيّام.
سَبَّب موته لنا حزنًا عظيمًا، فبكينا بكاءً أليمًا، لدرجة أنّ الجنود الأتراك أنفسهم، رفاقنا في السجن، تأثروا بنا، ما دفع بعضهم إلى مؤاساتنا.
وهكذا فقدنا أخانا العزيز، على طريق المنفى، في السجن، في ظروف كم هي أليمة. لقد فقدنا رفيقًا عزيزًا، صاحب الفضائل الرهبانيّة المثاليّة، فأحسسنا أنّنا في شقاءٍ قاتم. وُلد الأب توما، السوريّ الجنسيّة، في بعبدات، في لبنان، وتابع دروسه في مدرسة الرهبنة في بودجا. كان قد عُيِّن في إرساليّة أرمينيا منذ عدّة سنوات. كان شابٌ ذكيٌّ وغيور، مزدان بالفضائل الرهبانيّة، واعدٌ بمستقبل زاهر، لكنّ الربّ عمل منه شهيدًا للمحبّة. كانت المحكمة العسكريّة في أَضَنة ستَحكم عليه بالإعدام، لكنّ الربّ لم يسمح بهذا العار. مات وسط آلام مبرَّحة، لأنّه أراد إنقاذ كاهن أرمنيّ من الموت. كافأه الربّ على محبّته البطوليّة، فمنحه مجد السَّماء. سيبقى مجدًا زكيًّا لإرساليتنا العزيزة في أرمينيا، مع الأب ليونار مواطنه، ورفيق الدروس في بودجا، والمرسَل الكبّوشيّ مثله، الذي قُتل على أيدي المسلمين.
أُصيب الأخ روفائيل ب التيفوس نفسه الذي قَضى على الأب توما، فتمَّ نقله إلى المستشفى، وبقي هناك شهرًا كاملاً. ثمّ أتى دور دِر ڤارتان. إعتنى بهم جميعًا الأب باتريس الغيور الذي أُصيب، هو أيضًا، بالعدوى، فتوفي بعد مغادرتنا مرعش بثلاثة أسابيع، بالرغم من العناية الفائقة التي أمَّنها له إخوته.
ما زلنا نحتفظ بذكرى مؤثرة عن الأب باتريس المحبّ. كان لنا بمثابة العناية الإلهيّة الحيّة. فقد أَسلم الأب توما روحه بين يديه، وشَفى مرضانا، وعَزّانا في محننا الصعبة، وكان شعاعًا من السَّماء أضاء ليل آلامنا القاتم. وفجأةً، نراه يسقط ضحيّة محبَّته لنا. فليكافئه الربّ، وليتقبَّل تقديرنا له، وعرفاننا العميق.
من مَرْعَش إلى المحكمة العرفيّة في أَضَنة
نحن في مرعش منذ شهر، و الأخ روفائيل غادر المستشفى البارحة. أمَرونا بمرافقة رجال الشرطة إلى أَضَنة حيث سنُحاكَم ونُدان.
يلزمنا ثلاثة أيّام للذهاب من مرعش إلى أَضَنة: ثلاثة أيّام متعبة وملأى بالمحن، وسط طقس عاطل، وسَيلٍ من الأمطار. لم يبق منّا إلاّ ثلاثة نعزّي بعضنا البعض، لكنّ أحدهم كان لا يزال خلفنا، ما زاد معاناتنا بشكلٍ كبير.
شباط ١٩١٧: الحكم بالأشغال الشاقّة لمدّة عشر سنوات
وصلنا أَضَنة في شباط ١٩١٧. لَمّا دخلنا السجن، أَلحقوا بنا العار إذ قاموا بحلاقة لحانا. كان علينا أن نمثل أمام المحكمة العرفيّة ثلاث مرّات، وهوذا الحكم:
حُكم علينا نحن الأربعة: الأب بنوا، والأب بونافنتورا، والأخ روفائيل، وخادمنا، بعشر سنوات أشغال شاقّة، لأنّنا قمنا بإخفاء دِر ڤارتان في ديرنا. وكان الحكم على الأب توما بالإعدام، بسبب المسدَّس الذي عُثر عليه في غرفته، وحُكم على دِر ڤارتان بالموت شنقًا.
أُرسل الحكم، مع كامل ملفِّنا، إلى جمال باشا الذي كان في دمشق، فصادق عليه، وحَوَّل الملفّ إلى اسطنبول كي تعطي الأمر بالتنفيذ. تَأخَّر جواب اسطنبول عشرة أشهر مَضيناها بسقم في سجون أَضَنة، أي كامل العام ١٩١٧.
جهود الأخت فيبروني لإطلاق سراح الآباء الكبّوشيّين
منذ اليوم الذي أُلقينا فيه في سجن أورفا، تفانت الأخت فيبروني، رئيسة الراهبات الفرنسيسكانيّات، في مساعدتنا. نستطيع القول بأنّها قلبت الدنيا وأَقعدَتها لإخلاء سبيلنا، ولم تصل إلى مبتغاها إلاّ بعد سنة كاملة من المساعي والجهود. ومهما قلنا عن شجاعتها وإصرارها، يبقى ثناؤنا ضعيف.
ذهبَت أوّلاً إلى حلب، وتَجرّأت المثول أمام السلطات للمدافعة عن قضيّتنا. كتبَت مرّات عديدة إلى جمال باشا، واستُقبلت مرَّتين عند هذا الوزير المقتدر الذي أعطاها وعودًا كاذبة، كالإفراج عنّا إذا ما صدر حكم ضدَّنا.
كانت توصل لنا المال إلى داخل السجن، وتبعث الرسالة تلو الرسالة لتشجِّعنا وتشاركنا آمالها. كانت حقًّا عنايتنا الإلهيّة. لم تتردَّد أبدًا للقيام بأيّ مسعى، مهما كَلَّف الأمر، إذا كان من شأنه أن يفرجنا. كانت تكتب أيضًا للقاصد الرسوليّ في اسطنبول، ولسفراء النمسا وأَلمانيا.
ثمانية أشهر مضنية قضيناها في السجن دون أن تتحسَّن حالنا بالرغم من جميع الوعود التي قُطعت للأخت فيبروني. إذذاك قَرَّرت التوجّه إلى أَضَنة، مع الأخت جان انطوان، لزيارتنا في السجن. أتت تعزيتها هذه في الوقت المناسب، إذ كُنّا وصلنا إلى أدنى مستوى من الشجاعة، وكُنّا جائعين، يبيعوننا خبزًا أسودًا مقرفًا بسعرٍ غالٍ، وضمن نظام تقنين صارم. نستطيع القول بأنّه، خلال الأشهر الستة، كان يصلنا فقط ما هو ضروري للبقاء على قيد الحياة، فبقينا شهرين نقتات من رؤوس الثيران التي كنّا نسلقها ونلتهمها بنَهَم.
لقد كان هذا الطعام السيء باهظ الثمن، والمعروف أنّ سجناء الأمبراطوريّة العثمانيّة يصرفون على طعامهم من مالهم الخاصّ، أو يموتون جوعًا إذا لم يكن لديهم ما يصرفونه على قوتهم اليوميّ.
ساعدتنا أخواتنا الاثنتان بسخاء. كتبتا، مرّة أخرى، من أَضَنة، إلى جمال باشا الذي كان قد انتقل إلى اسطنبول، لتذكِّراه بوعوده. وفي هذه الأثناء، كانتا تلجآن إلى سلطات المدينة المحليّة لحثّها على السعي للإفراج عنّا. دفعتا ١٠٠ ليرة تركيّة (حوالي ٢٥٠٠ فرنك فرنسيّ)، ووعدتا بالدفع قدرها يوم الإفراج عنّا. وأخيرًا، حان الوقت لقطف ثمار محبّتهما الكبيرة.
بداية العام ١٩١٨: الإفراج عن الآباء الكبّوشيين
في صباح أحد أيّام الأحد، فُتح باب السجن، وكان اليأس وصل بنا إلى درجة أنّنا كنّا نجهل أنّه الأحد. نادانا حارس السجن بأسمائنا، وأَبلَغنا أنّنا صِرنا أحرارًا: لقد عفى عنّا السلطان سنوات الأشغال الشاقّة العشر.
من المستحيل التعبير عن التأثر الذي انتابنا لدى سماعنا هذا النبأ السارّ. لم نكن لنصدِّق، ولم يبقَ لنا سوى البكاء كالأطفال، شاكرين العناية الإلهيّة الطيّبة التي، خلال مدّة محنتنا الطويلة، كانت تتجلّى لنا فعلاً، من خلال تفاصيل دقيقة. لقد سمح الربّ أن نتألّم كثيرًا، لكن عندما كانت تظهر علينا بوادر الإنهاك، كان الربّ يأتينا بنبأٍ سارّ، أو بأمل، أو بزيارة، مساعدًا إيّانا على تحمّل أوجاعنا.
خلال أَسْرنا الطويل في أضنة، تجلَّت لنا العناية الإلهيّة، أوّلاً، بشخص كاهن كبّوشيّ، مرشد في الجيش النمساويّ، هو الأب جان بركمانس، مَرَّ في المدينة قبل وصول الأختين، وكان يُحسن إلينا بزياراته، فكان حقًّا مُرسلٌ من الربّ، وملاك تعزية.
جاء أيضًا خوري أَضَنة السريانيّ، لتعزيتنا، وهو شيخ جليل، إبن الثمانين عامًا. وأتانا الفرج، أخيرًا، على يد أختينا الباسلتين، إذ كان لتدخلهما الشجاع، وتوسطهما لدى النافذين، الفضل الأكيد للعفو عنّا.
العودة إلى دير أورفا
بعد إطلاق سراحنا، انتظرنا شهرين في أَضَنة ليعيدوا لنا جوازات سفرنا، كي نتمكَّن من العودة إلى أورفا. تابعت الراهبتان تأمين احتياجاتنا المعيشيّة، فكانتا ترسلان لنا ثلاثة أو أربعة أرغفة في الأسبوع، ثمن الواحد ٢٠ قرشًا (٤ فرنكات تقريبًا)، في البازار.
وأخيرًا، وبعد صعوبات جمّة، حصلنا على جوازاتنا الثمينة، فانطلقنا، في اليوم نفسه، إلى أورفا. كان ذلك في الأشهر الأولى من العام ١٩١٨.
لم يكن أحد يتوقَّع قدومنا. وصلنا إلى ديرنا عند الساعة ٨،٣٠ مساءً، فانتشر الخبر بسرعة في المدينة، وبين المسيحيّين، وفي الحال، في هذا الوقت المتأخر، غَصَّت الكنيسة بالمؤمنين.
معًا، أنشدنا للربّ، وسط تأثر بالغ، شاكرين له مراحمه التي بفضلها عُدنا إلى ديرنا العزيز في أورفا، بعد طول عذاب.
وفي اللحظات الأخيرة، علمنا أنّ حكم الإعدام قد نُفِّذ بدِر ڤارتان، في ١٠ تشرين الثاني ١٩١٨.
1 أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة العامّ في روما، Fonds H72, Acta Ordinis 15
2 للتوضيح:
الأب بنوا نجاريان، رئيس مركز أورفا، هو أرمني من خربوط. نجا من المجازر وعاش أيّامه الأخيرة في كاتدرائية القدّيس لويس للآباء الكبّوشيين في بيروت، حيث توفّاه الله في 10/9/1956.
الأخ روفائيل سمحيري (1846 ـ 1940) هو سرياني من الموصل.
الأب بازيل من ديار بكر. نجا من المجازر وعاش أيّامه الأخيرة في كاتدرائية القدّيس لويس للآباء الكبّوشيين في بيروت، حيث توفّاه الله في 19/8/1955.
الأب لويس ميناسيان هو أرمني من خربوط. نجا من المجازر وعاش أيّامه الأخيرة في كاتدرائية القدّيس لويس للآباء الكبّوشيين في بيروت، حيث توفّاه الله في السبعينات من القرن الماضي.
الأخ بنوا هو ألماني من مدينة ميدباخ. نجا من المجازر وعاش أيّامه الأخيرة في كاتدرائية القدّيس لويس للآباء الكبّوشيين في بيروت، حيث توفّاه الله في 16/6/1935.
بما أنّ الأرمن كانوا الأكثريّة، غالبًا ما كان يُطلق على كلّ مسيحي صفة أرمني.
3 هو الآباتي ڤـارتان أشجيان، وُلد في ماردين العام 1873، كاهن رعيّة أورفا، كما يقول المطران نازليان (ص 314). هو الڤـارتابيد ڤـارتان توماسيان، كما يقول إسحق أرملة (ص 336).
4 عاد الأب بوناڤنتورا إلى لبنان مع بداية العام 1916 حيث عُيّن رئيسًا على دير القديس انطونيوس البادواني في بعبدات. لكنّه ما لبث أن رجع إلى مركزه في أورفا مع بداية شهر آب من السنة ذاتها. يقول إنّه « لم يحصل شيئ يستحقّ الذكر في هذه السنة، حتّى نهاية شهر أيلول» لأنّه كان غائبًا عن أورفا. لا نعرف السبب الحقيقي لمغادرته دير أورفا، والحرب مشتعلة ! هل هرب خوفًا من المجازر التي شاهدها بأمّ العين؟ هل خاف على نفسه بسبب وجود دِر ڤارتان «الفار من وجه العسكر التركي» في ديره؟ كما لا نعرف لماذا رجع إلى أورفا ! هل بسبب تدخل الأب يعقوب الكبّوشي الذي كان رئيسًا على الرهبنة الكبّوشية في لبنان بالوكالة أثناء الحرب؟ إذا كان هذا هو السبب، فالتدخل أعطى ثماره، ما جعل الأب بوناڤنتورا يعود لتأكيد التزامه في إرساليّة أورفا، ومرافقة الأب توما في المنفى حيث كان له ولرفاقه الرهبان رفيقًا أمينًا، يرفع عنهم بعض آلامهم، ويثبتهم في الإيمان، ويعزّي الأب توما على فراش الموت.