الأب أتال دوسانتيتيان الكبّوشي (فضل السيّدة آن لوباتار، أرشيف الكبّوشيين في فرنسا)
يروي الأب أتال دوسانتيتيان الكبّوشي، من إقليم ليون، قصّة الرحلة التي قام بها إلى جميع مراكز إرساليّة بلاد ما بين النهرين وأرمينيا، في أيار العام 1910، برفقة الأب أنج دوكلاميسي، رئيس الإرساليّة المعيّن حديثًا ليخلف الأب جان أنطوان دوميلان. ظل الأب أتال في الإرساليّة حتّى كانون الأوّل 1914، حين اعتُقِل وتمّ ترحيله.
عاد الأب أتال بعد انتهاء الحرب، في العام 1919، وعُيّن في مركز أورفا، حيث شهد مذبحة الجنود الفرنسيين. اعتُقِل مرّة أخرى، وتمّ ترحيله في العام 1921.
عاد إلى لبنان، حيث كتب الــ «ذكريات» في مخطوطة باللغة الفرنسيّة غير منشورة، تحت اسم الأخ لورنتان المستعار، مكوّنة من 64 صفحة، مؤرّخة في 25 آب 1928، وهي مهمّة جدًا بسبب احتوائها على وصف تفصيلي للأماكن التي عاش فيها الأب ليونار. 1
عُيّن الأب أتال رئيسًا على إرساليّة الكبّوشيين في الشرق الأدنى، العام 1941، وقضى آخر أيّامه في كاتدرائيّة القدّيس لويس في بيروت، حيث توفّي وقُبر في 29/8/1949. 2
وفيما يلي الترجمة العربيّة الكاملة:
ذكريــــــــــــــــــــــــــــــــات
الإرساليّات في منطقة الجزيرة العليا
مقدّمـة
إهداء إلى الأب أنج دوكلاميسي الكلّي الاحترام
الرئيس السابق لإرساليّة بلاد ما بين النهرين وأرمينيا.
في محاولة لتجميع هذه الذكريات لكاتب هذه السطور، يحضر أمامي ملامح شخص متواضع وعطوف كان فعلاً، على مرّ السنين الزاخرة بالكدّ والعمل، كما في ساعات المحن الحرجة، بمثابة ملاك العناية الإلهيّة الحاضر دائمًا، والملاك الحارس للمرسَلين التابعين له. إليه إذًا أُهدي هذه الصفحات المتواضعة، وأرجو أن يتقبلها ويباركها. لينتشر هذا الكتاب الصغير، مشفوعًا ببركته، فيحرّك الدعوات الرسوليّة، ويذوق الشباب الطعم اللذيذ للإرساليّات البعيدة. وفي حال أفضى الأمر إلى انضمام مرسَلين جدد إلى القدامى، للاهتمام بالمشاريع الجديدة، تكون أمنيتنا الغالية والمشتركة قد تحقّقت.
الجزء الأوّل : أيـــار 1910 – أيـلــول 1911
الفصل 1: في الطريق إلى الإرساليّة
أخيرًا، حانت لحظة الرحيل! عليّ أن أركب السفينة من مرسيليا متوجهًا إلى إرساليّة بلاد ما بين النهرين وأرمينيا، يرافقني كاهن شاب مثلي، ويقودنا في تلك الرحلة رئيس الإرساليّة الجديد.
انطلقنا في أواخر شهر أيار 1910، في فترة احتفالات عيد الجسد وعيد القلب الأقدس. وقبل مغادرة معهد الدراسة، لم تجر لنا الاحتفالات المؤثرة التي كانت تُقام سابقًا في إكليريكيّة الإرساليّات الأجنبيّة، وكنتُ من أشدّ المعجبين بها في أيّام المراهقة.
فجلّ ما تحمله ذاكرتي تلك الكلمات البسيطة، وإيماءات الوداع التي سمعتها من الإخوان الكبّوشيين، ولّدت في أعماق نفسي الشعور نفسه، وهو شعور التخلّي عن كل ما يرتبط بالمنزل، والوطن، والصداقة، والأماكن التي تعوَّدتُ على العيش فيها جسدًا وقلبًا وروحًا، يختلط بشعور تلك القوّة الدافعة الجليلة نحو المناطق الشاسعة، والنفوس التي ما زالت مجهولة بالنسبة لي، لكنّني غالبًا ما قابلتها في أحلامي، وهي نفوسٌ غالية في محبّة المسيح.
وقبل الانطلاق، زيارة خاطفة إلى العائلة، حيث قادتني العناية الإلهيّة إلى الكنيسة التي نبتت فيها دعوتي، وهي الآن تُزهِر. وفي هذه الكنيسة، أقمتُ الذبيحة الإلهيّة، على المذبح الذي شهد مناولتي الأولى! كانت أيامًا قصيرةً ولكنّها حملت فيضًا من الذكريات والمشاعر. ثمّ الزيارة إلى كنيسة سيّدة فورفيير [من معالم مدينة ليون الشهيرة]، أمّ المرسلين، حيث كنتُ أحبّ كثيرًا الصلاة تحت أقدامها، والصلاة في زنزانات الاونتيكاي [تلّة في مدينة ليون] المظلمة، على نيّة شهداء ليون: القدّيس فوتينوس، القدّيس اتال، القدّيسة بلاندين وغيرهم الكثيرين… ومعظمهم من أبناء الشرق. كانوا هم مَن أهدوا بلاد الغال إلى الإيمان المسيحي، وهم الآن يرسلوننا إلى بلادهم لإبقاء شعلة الإيمان مشتعلة فيها.
وفي مرسيليا، أقمنا الذبيحة الإلهيّة واضعين أنفسنا تحت الوصاية الفائقة لسيّدة الحماية، وأبحرنا من المدينة، في مساء اليوم نفسه، وغادرنا أرض الوطن تحت أنظار السيّدة.
على متن الباخرة «الأورينوك» سرعان ما التأمت الحياة العائليّة بين مجموعة من الأصدقاء. تملّكنا شعور خاصّ تجاه القائد المساعد للباخرة، والذي شعرنا نحوه بروح المودّة والألفة لدرجة أنّنا، في صحبته، لم نشعر بساعات النهار الطويلة التي لا نقضيها في الصلاة أو القراءة، بل كانت تلك الساعات الحلوة تمرّ بسرعة.
رست بنا الباخرة على شاطئ مدينة الإسكندرية الكبيرة، فنزلنا إلى الشوارع الواسعة المبنية على الطريقة الأوروبيّة، ولاحظنا الطابع الإسلامي يطغى على عدد كبير من المارّة، من خلال زيّهم ولغتهم وعاداتهم.
ما أن عدنا إلى الباخرة حتّى كانت مفاجأة سارّة بانتظارنا، رتّبها لنا الأب الرئيس، بلطفه الرفيع، لي ولأخي في الرهبنة، بأن منحنا الفرصة لزيارة الأماكن المقدّسة. وفيما هو تَوجّه مباشرة إلى بيروت لإعداد ترتيبات السفر إلى داخل البلاد، ذهبنا نحن لزيارة مدينة أورشليم.
أُعطي لنا ثلاثة أيام فقط، مدّة قصيرة للغاية، لا تكفي لرؤية أشياء كثيرة وتكريمها. إنّها ذكريات لا يمكن نسيانها! فالأماكن المقدّسة، بمجرد رؤيتك لها، فإنّها تطبع في قلبك ووجدانك ولا يمكن محوها من ذاكرتك إلى الأبد. إنّ التفاصيل الدنيويّة أو المقدّسة، والعلامات الطريفة أو المؤسفة، تبقى كلّها صافية في محيط من الذكريات الدينيّة التي لا تُمحى: مثل سماع إيقاع المجاديف، وصرخات بحارة يافا الجريئة والإيقاعية، يُنزلون «فلوكتنا» على أمواج ما وراء الرصيف الصخري.
ثمّ ركبنا القطار الذي كانت تواجه عجلاته صعوبة عند صعود المنحدرات الصخرية بجبال يهوذا، ووصلنا المدينة المقدّسة المحاطة بالأسوار القديمة العديمة الفائدة، ووطأت أقدامنا الأرض التي تقدّست على خطى يسوع: بدت لنا الشوارع عاديّة ومتعرّجة ومُهّدت بشكل سيّئ، إلاّ إنّها الأرض المقدّسة!
قدّمنا الذبيحة الإلهية على الجلجلة، في مكان يُسَمّى «شفقة مريم»، ثمّ توجهنا لزيارة ضيعة تُدعى الجسمانية التي توجد وراء وادي قدرون، حيث جبل الزيتون، وبيت عنيا، وكنيسة الأبانا، وصخرة صعود المسيح إلى السماء، وقدّمنا الذبيحة الإلهية على حجر القبر المقدّس. وبعد ذلك قمنا بزيارة غرفة العشاء الأخير، وكنيسة انتقال العذراء، وبِركة التطهير [حيث يتمّ تطهير الحيوانات المعدّة لتقديمها ذبائح في الهيكل]، وكنيسة الحُبِل بها بلا دنس. ثمّ أقمنا القدّاس الإلهي في بيت لحم، على مقربة من المكان الذي وُلد فيه الطفل الإله. كم من كنوز جُمعت بسرعة وترتيب في الذاكرة لا تزول.
وصلنا إلى بيروت حيث استقبلنا آباؤنا في كنيسة القدّيس لويس بالترحاب. إنّهم يعملون هنا منذ القرن السابع عشر، من هنا حيث يشعّون في المشرق كلّه. وعلى الرغم من التقلبات السياسيّة أو الدينيّة، فقد عملوا بلا هوادة على ترسيخ الإيمان، وتعزيز التقوى بين الكاثوليك من كلّ الطوائف، وخصوصًا الطائفة اللاتينية، كما نجحوا في الانتشار، ولو قليلاً، بين الهراطقة والمسلمين، ولا يزال الآباء، إلى يومنا هذا، وبطرق مختلفة، يواصلون عمل الذين سبقوهم. ولذلك، جئنا نحن إلى هنا، لكي نواصل ما بذله الأقدمون من جهد في مراكز إرساليتنا في تركيا الداخلية.
إنّ بصيرة الأب الرئيس الكلّي الاحترام لم يفتها شيئًا من الاستعدادات اللازمة للرحلة. وسرعان ما غادرنا بيروت إلى حلب، بالقطار الذي يصعد منحدرات لبنان. شاهدنا المناظر الجبليّة، والمحطات والقرى وأهلها المرحبين، وشعرنا بأنّنا في بلاد مسيحيّة. ثمّ طلّ علينا سهل البقاع، ومساحاته الواسعة والصامتة التي تمتدّ حتّى الصحراء السورية. وحلّ الليل، وقد غلبنا النُعاس، والقطار لا يزال يمضي في طريقة. وصلنا حلب في غمد الليل وأهلها نيام، وما أن نزلنا من القطار حتّى ذهبنا نبحث عن معهد آباء الأرض المقدّسة الفرنسيسكان.
صادفنا أحد بائعي الحليب ينادي بصوتٍ مرتفعٍ: «حليب»، وهو يبيع حليب البقرة التي يجرّها وراءه، فتذكرنا الرواية الكامنة وراء تسمية المدينة، كما رواها لنا أحد إخوتنا في بيروت: مع وصول إبراهيم الخليل من حرّان استراح في هذا المكان، وحَلَبَ إحدى بقراته الشهباء [لونها أصهب]، فأُطلق على المكان تسمية «حَلَبَ البقرة الشهباء» وصارت المدينة الواقعة في هذا المكان «حلب الشهباء».
استقبلنا الآباء الفرنسيسكان استقبالاً حافلاً، وغمرونا بكرم ضيافتهم، مما ساعدنا على الاسترخاء لساعاتٍ لا تُقدَّر بثمن، بعد شهر من السفر، وقبل المباشرة بالجزء الأكثر تعبًا من رحلتنا. فمن الآن وصاعدًا، لن نجد ما اعتدنا عليه من وسائل النقل. فبعد حلب، ليس هناك سوى خيول الركوب أو خيول الجرّ للعبور في المناطق الصحراويّة الواسعة، وكنّا في أشدّ أيّام الصيف حرارة. ولكن، أوليس ما يقع وراء حلب حقل رسالتنا الواسع؟ من أجل الوصول لهذا الهدف، ننسى كلّ المصاعب.
تَعرَّفنا على وكيلنا الرائع، السيّد چيّوم بوش، من سلالة تلك العائلات القديمة والنافذة، من الجالية التي امتهنت التجارة في حلب، فإنّه يعمل منذ سنوات عديدة لتأمين صلة الوصل بين مراكز بعثتنا البعيدة والمنطقة الساحلية، حيث الوصول إليها سهل نسبيًّا. وبعنايته وجهوده، أصبحت قافلتنا جاهزة للرحيل.
وفي أحد الأيّام، انطلقنا في الصباح الباكر، سيرًا على الأقدام، خلف عربات تسير في الطرقات المرصوفة بشكل سيء، محدثة قرقعة وجلبة. كُنّا وراء قافلة مؤلّفة من نصف دزينة من العربات المزركشة، كلّ واحدة منها تشبه برميلاً كبيرًا موضوعًا على أربع عجلات، وجوانبها مفتوحة على شكل نوافذ، يجرّها حصانين صغيرين عصبيين، أو ثلاثة في بعض الأحيان، وكأنّها لعبة. توجد على حافة هذه العربات سلال وأباريق معلّقة، ويخرج من داخلها أطراف الفرش والبطانيات. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين سنجد مكانًا لنا بين هذه الأشياء المتنوعة المكدّسة؟
وبعد مرورنا بأسوار المدينة، توقفت العربات، وصعدنا إلى واحدة منها. كان اثنان منا يشغلان زوايا العربة الخلفيّة، نصف جالسين، ونصف ممددين، ورؤؤسنا تلامس قماش السقف المشمّع، وأرجلنا خارجة من الأمام؛ أما ثالثنا فكان يجلس في الأمام، وجهه باتجاهنا، ملقيًا ظهره على ظهر سائق العربة، وأوجد مكانًا لقدميه بيننا.
بدأت الرحلة، وبدأ الطريق يختفي تدريجيًا، فصرنا نسير عبر الحقول، حيث العشب الأخير يكمل احتراقه وتيبسه. خفّفت الخيول من سرعتها، لكنّها استمرّت المسير ببطء تحت حرارة الشمس المرهقة، ورؤوسها إلى الأسفل، على الرغم من الجلدات التي يوجّهها لها الحوذي. وفيما كان السائق بدوره يغفو، كان يستيقظ من حينٍ لآخر ليصرخ على خيوله صرخةٍ هادئةٍ، ويغفو بعدها، والخيول لا تبالي. مرَّت علينا ساعاتٍ طويلة، لم نشعر فيها إلاّ بحرارة الجوّ، وفجأة سمعنا نباح الكلاب تُعلن وصولنا إلى مشارف إحدى القرى، فأخبرنا السائق بأنّها قرية “باب”.
وما كدنا نعتاد على المشاهد الجديدة في القرية حتّى رجعت العربة تسير بسرعة، والخيول تدخل خانًا ذو بابٍ منخفضٍ وضيّق، وأرض حجريّة وموحلة في نفس الوقت، ومكتظة بخليطٍ من الكلاب والدجاج والبط والرجال والخيول حول بئر لا يوحي بالثقة.
نزلنا من العربة ونحن مُتعبين ومرهقين. يوجد على جانبَي فناء الخان مبنى شاهق فيه فسحات عديدة، وأبوابٍ سيئة الصنع تُشير إلى وجود غرفٍ هناك. وبالفعل، يوجد اسطبلات على الجانب الأيسر، وغرف للمسافرين على اليمين، جميعها من نفس النوع: أرضيّة ترابيّة، وجدران ترابيّة، وسقف من تراب يقع على عوارض سيئة الشكل، وألواح سيئة التلاصق. أُعطيت لنا إحدى تلك الغرف حيث سنتناول الطعام، ونخلد إلى النوم، فبدأنا بتكديس السلال والبطانيات فيها، من دون عجلة ولا حماسة. وفي غسق ليل يومٍ حارٍ كهذا، كنّا نودّ بعض الهواء المنعش، وكوب من الماء النقيّ، ولكن لا يوجد شيء هنا سوى مياهٍ قذرة في خانٍ نتن. ثمّ خرجنا قليلاً قبل حلول الليل، ولقد كنّا للقرويين، وهم أيضًا بالنسبة لنا، محلّ فضولٍ متبادل. وعلى عتبة المحلات التجاريّة التي يديرها الأرمن أو السريان، وجدنا أكرادًا متربعون، يرتدون قمصانًا بيضاء طويلة بأكمامٍ متدلية، أو أعرابًا ملفوفين في عباءة فضفاضة من الصوف، وعلى رؤوسهم كوفية من الحرير أو القطن مثبتة على الرأس بلفّة واحدة أو لفتين من «العقال»، وهو حبلٌ من شعر الماعز أو الجمل. كما وجدنا أيضًا بعض رجال الدرك وبعض الموظفين الأتراك لإدارة هذه الفئة من السكان… أو استغلالها. كيف يمكن الوصول إلى هذه النفوس، مسيحيين كانوا أم مسلمين؟ ليس لهؤلاء الناس من دين سوى عبادة اسم، وبعض التقاليد السهلة؛ إنّهم منقسمون بسبب العرق والدين، ويشتركون في الجهل والتعصب والكسل والخداع.
في فجر اليوم التالي، سارت عربتنا بسرعة خارج القرية، مع أربع أو خمس عربات أخرى وراءها، وهي مكتظة بنا وبالأمتعة، كما في الأيّام السابقة. غادرنا على وقع نباح الكلاب، وسرعان ما عدنا لنسير في السهل الواسع الفارغ لا يحوطنا إلاّ الصمت. وأثناء هذا التقدّم الرتيب، فقدنا الرغبة في عمل أيّ شيء، حتّى التفكير، فالشمس تسطع بقوّة، ويختفي معها أثر الحياة من حولنا في حرارة النهار. وصلنا إلى قرية “منبج”، ولم نكن قد قطعنا شوطًا طويلاً بعد، والشمس مازالت مرتفعة في الأفق بما فيه الكفاية. إنّها قرية صغيرة ولكنّها نظيفة، ويسكنها الشركس، واللافت للنظر هنا أنّ شكل البيوت أفضل من قرية “باب”، وأعلى منها، وأحسن بنية، بالحجارة والحديد، كما أنّ استقبال أهالي القرية لنا في الخان كان أكثر بساطة وتميّزًا.
كانت الساعات الأخيرة من هذا اليوم ثمينة، وكانت وجبة الطعام عاديّة جدًا، واستطعنا أخيرًا أن ننام قليلاً لنتمكن من مواصلة السفر غدًا في وقتٍ مبكر جدًا. الليل منعش، وبينما نحن نائمون، قام سائق العربة باكرًا ليعدّ العربة للرحلة، وكان يغنّي وهو يعدّ خيوله، فاستيقظنا على وقع صوته اللطيف، وكان غناؤه يشبه ترانيم الصلاة. وفي صمت الساعات الأولى من الصباح، حيث النجوم ما تزال تسطع والفجر وشيك، كان هذا الرجل يلقي نغماتٍ ربع الصوت الرائعة. ولكن سرعان ما بدأ الخان في الحركة، ورأينا الناس والحيوانات تتنقل، يذهبون ويرجعون في الفناء وفي الغرف، إيذانًا بالرحيل قريبًا. ومع طلوع الشمس، غادرنا إلى نهر الفرات.
الفرات! لم نره إلاّ على الخريطة، سنشاهد هذا النهر العظيم المنتمي إلى التاريخ القديم والمقدّس على حقيقته، وسنكوِّن عنه رأيًا صحيحًا. وفي منتصف النهار، أصبحت الحرارة أكثر شدّة، والساعات أكثر ثقلاً، والخيول تخطو وأعناقها ممددة، وأخيرًا وقعت أعيننا على النهر من بعيد: إنّه يتكوّن من ضفافٍ تعيسة، ومياهٍ موحلة، وجُزر كبيرة وصغيرة من الرمال الطينيّة، أهذا هو منظر الفرات!
صدمنا المنظر، ولكنّ الشاطئ كان مليئًا بالحيويّة: الجمّالون هنا مع البهائم والأمتعة. وفيما كنّا نشاهد عبّارة صغيرة تنزلق على الماء، معدّة لتنقلنا إلى الضفّة الأخرى، تقدّم نحونا أحد الرجال. كنّا في مكان ما بين بيره جك [البيره] وجرابلس، وهو المكان المقصود لعبور القافلات في هذا الوقت من السنة. وبعد لحظة، دخل الرجال والبهائم إلى العبّارة، واصطفّوا في القاع وعلى الجوانب، وسط الصراخ، واستقرّت عربة في الوسط. ثمّ قام بدوي بتحريك العبّارة ببطء شديد، بواسطة عصا طويلة، فسارت سفينة نوح مئة مترًا عبر المياه لتصل إلى الضفة الثانية للنهر. وبعد الانتهاء من عبور المسافرين الآخرين، اجتمعت القافلة من جديد، وعادت تستكمل مسيرتها.
لقد كنّا في وسط النهار، ولم نكن نشعر بالانتعاش بالرغم من وجودنا قرب هذا النهر الواسع، وضفافه الخالية من أيّ شيء. لم نكن نتوقّف إلاّ لنزول الركّاب أو صعود غيرهم، يتمّ بشكل مزعج ومتعب، وكنّا حريصين دائمًا على ألاّ نكون عرضة للسرقة أو التدافع. ثمّ نُكمل الطريق، وقوانا تخور، إذ كنّا نشعر بالاختناق في عرباتنا الصغيرة، وحولنا جوٌ حارٌ ملتهب. وأخيرًا، وبعد ساعاتٍ طويلة متعِبة في الصحراء، وصلنا إلى “سروج”، ويا للمفاجأة السارة!
كان في انتظارنا أحد آباءنا من أورفا برفقة اثنين من أعيان الإرساليّة. أخذونا إلى بيت رجل مسيحي حيث ارتحنا بدنيًا بعد هذا اليوم الشاقّ، وسَعِدنا أكثر برؤية أخ لنا في الرهبنة، طيّب كهذا، سيكشف لنا طريقة العمل في الإرساليّة.
وفي اليوم التالي، عند الصباح الباكر، سلكنا طريق أورفا. لقد تغيَّرت المناظر، فمنذ رحيلنا من حلب ولا يحيطنا سوى صحراء واسعة جافّة ومحرقة. في هذا الصباح، كنّا نسير على طريق يعبر سلاسل جبليّة منخفضة. في بعض الأحيان، طريقٌ مستقيم، وأحيانًا أخرى ارتفاعات منخفضة أو منحدرات على جانب الجبل. وأصبح الهواء أكثر انتعاشًا، وبدت البادية أقلّ دمارًا. ولكن، مَن هم هؤلاء الفرسان الراكضون بسرعة باتجاهنا؟ ولماذا يُطلقون أعيرة ناريّة من البنادق والمسدسات؟ سرعان ما حُلَّ هذا اللغز عند رؤيتنا أحد المرسلين من رهبنتنا، والفرسان ينزلون من فوق خيولهم لتقبيل يد الأب الرئيس الجليل. إنّهم نخبة الشباب من إرساليّة أورفا، جاؤوا لاستقباله.
وصلنا أورفا والفرسان يحرسوننا، وعند سفح التلال التي عبرناها غربًا، تمتدّ المدينة ومنازلها البيضاء الكثيرة، مع عددٍ قليلٍ من المآذن والقباب البيضاء؛ ويستمرّ السهل بعيدًا عن الأنظار جنوبًا، وخطوط الكاراداخ شرقًا، وجبال طوروس شمالاً، تزخرف الأفق بتعاريج سوداء أو زرقاء.
الفصل 2: الاتصالات الأوليّة
من خلال الاحتفالات الجارية في أورفا على شرف رئيس الإرساليّة الجديد، بدأنا نتعرّف على نشاط المرسلين، ومجالات عملهم الواسعة. يتمركز نشاط الأبوين والأخ في المدرسة والكنيسة. لم يكن عدد الطلاب والمؤمنين كبيرًا، لكنّ تنوّع الأعراق واللغات واختلاف العقليات صعَّب أمر الوصول والتغلغل إلى نفوسهم. يتحدّث السريان والكلدان العربيّة، واليعاقبة التركيّة، والأرمن الأرمنيّة والتركيّة، لذلك دعت الحاجة إلى التعامل مع كلّ فئة منهم بطريقة مختلفة عن الأخرى، نظرًا للاختلاف الثقافي فيما بينهم، وعدم إمكانيّة تطبيق الأسلوب نفسه على الجميع. وكانت الراهبات الفرنسيسكانيّات، كما الآباء، يتعرضن للصعوبات نفسها في تعليم الفتيات، ولو بأشكال مختلفة، ووجب عليهنّ التغلّب عليها. وبالتروي، يتمّ العمل الصالح في نفوس هذا القطيع الكاثوليكي الصغير، وفي نفوس الطلاب، إلى أيّ عرق أو ديانةٍ انتموا.
وصلنا البلد في أوائل شهر تموز، بعد سفرٍ متواصل لمدّة شهرٍ كامل، في أكثر الأوقات حَرًا في السنة، حيث تتراوح درجة الحرارة ما بين 35 و40 درجة مئويّة، ليلاً ونهارًا، طوال فترة الصيف الممتدة على أربعة أشهر.
نظرًا للباقته المعهودة، أراد الأب الرئيس أن يمنح المرسَلين الجدد، الوافدين حديثًا، بضعة أيّام من الراحة، يقضونها في مناطق أقلّ حرارة. لذلك، قُمنا برفقته، وانطلقنا من أورفا، مواصلين رحلتنا، ومستعينين بعربة مماثلة لتلك التي أوصلتنا إلى حلب. بدا لنا المشهد مختلف عن السابق، فبدلاً من السهول الصحراويّة التي اعتدنا عليها، كنّا نمرّ بين الحدائق الخضراء طارة، وطورًا نجتاز حقلٌ صخري أو حقول ما زالت الغلّة فيها ظاهرة.
في المرحلة الأولى من رحلتنا، وصلنا إلى قرية كرديّة اسمها «كارادجيرون»، تميّزت بمنازلها الطينيّة المنخفضة، الصغيرة والفقيرة، وتميّز أهلها بالودّ والبساطة. وعند غروب الشمس، أثناء عودة القطعان إلى مبيتهم، شاهدنا النساء يحلبن الماعز، من دون أن يخفن منّا، وقبلن، بكلّ سرور، أن يقوم أحدنا بأخذ صورة لهذا المشهد العائلي الوقور.
وفي المساء، كنّا نجتمع ببعض الوجهاء والأفراد العاديين، فيدور الحوار بيننا، ويكون لنا مناسبة حلوة لإلقاء كلمات “الحقّ والحقيقة”. فطالما هناك اتصال مباشر بتلك النفوس الملحدة، يتنهّد المرسَل فرحًا لإعلان البشارة وسط هذه الحشود، وهو لا يدري كيف القيام به بعد، لأنّ التبشير المباشر والكامل لا يزال أمرًا مستحيلاً.
وفي اليوم التالي، تتالت أمامنا المشاهد نفسها: السهول والمحاصيل الخفيفة، إلى أن اقتربنا من التضاريس البركانيّة حيث الصخور السوداء والحصى. ومع حلول المساء، وصلنا إلى «سيفيريك»، وخانها يُشبه خان «الباب». لم تضف نزهتنا في المدينة والمناطق المحيطة شيئًا جديدًا على انطباعنا الأوّل: أماكن مقفرة، وسكان يتصرّفون كالبرابرة. استلقينا في النوم غاطين مع هذا الانطباع، وما أن أشرق النور حتّى استعجلنا الرحيل من وسط تلك الأماكن الموحشة. ومع حلول مساء اليوم الثالث، وفّر لنا خان معزول وسط مساحات شاسعة، نصفها صخري، والآخر زراعي، المبيت فيه تلك الليلة. وقبل ظُهر اليوم الرابع، اقتربنا من مدينة «ديار بكر» الكبيرة، فاستقبلنا الأب المرسَل يرافقه تُرجمان القنصليّة الفرنسيّة. ورغم إقامتنا القصيرة، إلاّ إنّنا تمكنّا من أخذ فكرة عن أعمال الإرساليّة.
وفي الرابع عشر من شهر تموز، من خلال إقامة القدّاس في كنيستنا، بحضور قنصل فرنسا، وحفل استقبال تلامذتنا في القنصليّة، أُتيحت لنا الفرصة للتأكّد من أواصر المودّة القديمة العهد، ومن الحماية الفعالة التي توفّرها فرنسا للأعمال الكاثوليكيّة وللشعب المسيحي، في هذا المركز وفي مراكز أخرى في الشرق. وفي صالون الدير، شاهدنا شهادة وسام الشرف الذي منحه الرئيس فيليكس فُور [رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة] لآبائنا في ديار بكر، نظرًا لسلوكهم الجيّد أثناء مجازر عام 1895.
قمنا بزيارات وجيزة إلى مطارنة الأرمن والسريان والكلدان الكاثوليك. هنا، كما في أورفا، يعمل الآباء على تهذيب النفوس، في الكنيسة والمدرسة، يعاونهم الراهبات الفرنسيسكانيّات اللواتي يجمعن في مدرستهنّ ومشغلهنّ نخبة الفتيات المسيحيّات من كلّ الطقوس.
أمّا عن المدينة نفسها، فقد تأكّد انطباعنا الأوّل إثر زيارتنا للأسواق والمعالم الأثريّة، بقدر أكبر من مشاهدتنا المناظر الخارجيّة. يُحيط المدينة أسوار شاهقة الارتفاع، ما زالت على حالها منذ أيّام الرومان والبيزنطيين، ومنازلها تمتاز باللون الأسود، يُشرف عليها مجموعة كبيرة من القِباب والمآذن السوداء أيضًا، تقع على هضبة عالية يتدفّق من أسفلها نهر دجلة، إلى الشمال الشرقي. لا شوارع متماثلة، ولا أماكن للراحة فيها. البازارات مجهزة بشكلٍ جيّد، ولكن من دون لمسات جماليّة، ولا حتّى طابع شرقي. هناك واحد أو اثنين من المساجد التي تمتاز بضخامتها وعمارتها البيزنطيّة. السراي هو بناء على الطراز الحديث، مبني بشكل سيئ، ومصاب بالإهمال. وليس بعيدًا من هنا، نقوش جميلة على الأسوار، بالخطوط الكوفيّة، تذكرنا بالحكم العباسي لهذه المدينة.
في هذه المدينة، وفي هذه الأوقات من السنة، يكون الجوّ أكثر سخونة مما هو عليه في أورفا. خلال شهري تموز وآب، تستقرّ درجة الحرارة عند 40 درجة مئويّة. لذلك، لم تكن زيارتنا لتدوم طويلاً، وسننطلق لمناطق أكثر اعتدالاً.
وفي يومنا الأوّل، مرّت أمامنا المناظر نفسها، على طول الهضبة. وفي اليوم التالي تغيّر المنظر، وصرنا وسط أرض تلوّنها المعادن المختلفة، ويغلب عليها اللون النحاسي بتلويناته الأرجوانية والحمراء والخضراء. ومع حلول المساء، وصلنا إلى «إرغاني» حيث قضينا ليلتنا. وفي صباح اليوم التالي، بعد الهبوط لمدّة ثلاث أو أربع ساعات إلى الجزء السفلي لوادي دجلة، رأينا ماء النهر كنسيجٍ متدفقٍ مزركش ذو لونٍ أزرق داكن. ركبنا النهر لكي نصل إلى مناجم النحاس. وعلى الجانب الآخر من الوادي، تطفو قرية إرغاني مادن حيث سيق إليها آلاف اليونانيين للعمل في المناجم، كما كان يفعل الرومان مع بعض السجناء.
وغداة اليوم التالي، سِرنا طويلاً على حافة نهر دجلة، وكلما تعمقنا ازدادت الحافّة هشاشة، ويبدو أنّنا اقتربنا من منبع النهر. كنّا نتعدّى القوافل التي يحمل فيها كلّ جمل قدرين متقابلين من النحاس ذو أحجامٍ كبيرة. ثمّ ابتعدت بنا الطريق عن مجرى النهر، حيث اعتقدنا رؤية منبعه، لنعود إلى تسلّق الجبال. وحال وصولنا إلى القمّة، أصابنا الذهول عند رؤية منظر الجبال الضخمة أمام أعيننا. وبين سلسلة من قمم الجبال توجد بحيرة زرقاء ساحرة، وكأنّها لؤلؤة مشعة، منها ينبع نهر دجلة، في الأسفل، حيث بدأت الطريق الواقعة في الوادي تبتعد عن مجرى النهر.
ها نحن اجتزنا بلاد ما بين النهرين، لتطلّ أمامنا هضبات بلاد أرمينيا. فأينما حطّت العيون، ترى سلسلة من الجبال الخلابة، والسهول الطويلة المزروعة. وكلّما تقدمنا بدت لنا الأرض أقلّ جفافًا، وأكثر انتعاشًا، والهواء أقلّ حرارة، والجوّ أكثر اعتدالاً وحلاوة، لا وجود فيه لمناظر متلألئة. بدأنا بالانحدار، واستمرّينا لساعات طوال، إلى أن سلكت العربة طريقًا جميلاً في السهل، بين الحقول والمروج، وفي الأفق سياج من أشجار الحَور الخضراء التي تُريح النظر، ومنازل وسط الخضار، هنا وهناك، نظيفة ومبنيّة بشكلٍ جيّد، وقنوات تنساب فيها المياه قاطعة تلك المساحات الشاسعة المزروعة.
إنّ معمورة العزيز التي سبق ورأيناها من أعلى الجبال، واعتقدنا أنّها قريبة المنال، ما زالت بعيدة، ونحتاج إلى محطّة أخرى قبل الوصول إليها، في قرية “كيخفانغ” الصغيرة، المؤلّفة من حوالي عشرة منازل حيث سنبيت ليلتنا. ويا للمفاجأة! في الخان الذي قصدناه، التقينا بالأب رئيس مركز معمورة العزيز، والأب رئيس مركز خربوط، ومعهما أحد أعيان الإرساليّة، جاؤوا لاستقبال الأب الجليل، رئيس الإرساليّة. وكانت رفقتهم الطيّبة، واهتمامهم بنا، مناسبة جعلتنا ننسى تعب الرحلة، وقد أوشكنا على الوصول.
وفي اليوم التالي، مع نسمة الصباح الباردة، وَلَجْنا شارع جميل تقوم أشجار الحور على جانبيه، مغمورة في الماء، ها هي معمورة العزيز!
في الطرف الآخر من المدينة، إلى الجهة اليمنى، يقع المعهد التابع للإرساليّة. باستطاعتنا القول إنّه المركز الأهمّ في إرساليّة بلاد ما بين النهرين وأرمينيا، ويتبيّن لنا ذلك بالنظر إلى ضخامة الأبنية التي تؤلّفه. حال الولوج إلى باحة المركز، يقابلك مبنى مكوّن من طابقين، عرضه عشرون مترًا، ويمتدّ على طول خمسين إلى ستين مترًا. على جهة اليمين، يوجد مبنى المعهد القائم بذاته: غرف الدراسة في الأسفل، وغرف المنامة في الطابق العلوي، وإلى اليسار، وما يقارب ثلث المسافة، مكان مخصّص لسكن الآباء، وعلى محاذاة نفس الجهة، بشكلٍ منفصل، على بعد أمتار قليلة، تقبع الكنيسة المؤلّفة من قاعة كبيرة ذات ارتفاعٍ شاهق، وزجاجٍ مُلوَّن، وسقف مزدوج الجانبين يغطّيه القرميد، وجرس صغير ناعم يزيّن الباب الرئيسي. وفي نهاية جهة اليسار، يقع في الزاوية اليمنى ما بين المعهد والكنيسة مبنى يُستخدم لتعليم الفتيات. تحجب هذه المباني حقول واسعة ومحاصيل وحدائق الكروم وحقولٍ تُروى من ينابيعٍ وفيرة، وتحيط بها، فتبدو كالأرض المسيّجة، تقطعها خطوط طولية من أشجار الحور.
أتت أعمال الإرساليّة لتتوافق مع ضخامة المركز. المعهد أولّاً: تأسّس على يد الأب مارك الجليل الذي تميَّز بسعة اطلاعه، وغيرته الرسوليّة، وتفانيه المتواصل، بهدف التعليم والتربية الكاثوليكيّة والفرنسيّة للشباب الأرمن الأذكياء والنهمين في العلم، الذين استهوتهم الكلّيّة الأميركيّة البروتستانتيّة في خربوط، فبلغ عدد التلاميذ الذين يقصدونه، منذ افتتاحه وحتّى الآن، أكثر من خمسماية تلميذ، من بينهم خمسون تلميذًا داخليًّا.
وعلى الفور، ذاع صيت معهد معمورة العزيز الفرنسي في جميع أنحاء أرمينيا، ولم يخفت نجمه حتّى اندلعت الحرب العالميّة. يُخرّج المعهد كلّ عام عددًا وفيرًا من التلاميذ، يدخلون الجامعة الفرنسيّة في بيروت، أو المعاهد العليا الرسميّة في القسطنطينيّة، من دون حاجة لإجراء فحص دخول، مزوّدين فقط بالشهادة التي يعطيها لهم المعهد.
إلى جانب المعهد، تأتي الكنيسة التي يؤمّها معظم التلاميذ، بما فيهم الغريغوريين [الأرمن الأرثوذكس]، لإداء صلوات الصبح والمساء، في كلّ يوم. ويوم الأحد، يشاركون في القدّاس والصلوات مع المؤمنين الكاثوليك، في إطار رعويّ. في حقيقة الأمر، تكوّنت جماعة لاتينيّة حول الإرساليّة، يزداد عددها يومًا بعد يوم، مؤلّفة من النخب المهتدين، بفضل الدراسة والتأمّل والنعمة، بالإضافة إلى عدد أكبر من الناس البسيطين الذين يأتون إلينا بدافع العمل أو الاستفادة من التقديمات الخيريّة.
أخيرًا، كما لو أنّ المعهد والكنيسة لا تكفيان لنشاط الآباء الرسولي، تمّ افتتاح ثلاثة فروع في القرى المجاورة، مع مدرسة وكنيسة، وتقع في:
• «أوسينيك» أولاً، الواقعة على بعد ساعة واحدة من معمورة العزيز، سيرًا على الأقدام. يتوجّه إليها أحد الآباء، كلّ يوم أحد، لإقامة الذبيحة الإلهيّة والوعظ، كما يتمّ الإشراف على المدرسة، عن كثب، من خلال زيارات متكرّرة في الأيّام الأخرى.
• تليها «كويولو»، أبعد بكثير، حيث وجب الذهاب إليها ممتطين الجواد في العشيّة، والعودة مساء اليوم التالي. عدد المؤمنين في الكنيسة كبير، كذلك التلاميذ في المدرسة، ولا نزال نأمل المزيد منهم.
• أخيرًا «بيسميشان»، الواقعة في الجهة المعاكسة، كان يخدمها كاهن من أهل البلد لكنّه تابع للإرساليّة. وفي معظم الأحيان، كما تقتضيه الظروف، كان يتوجّه إليها أحد آباء الإرساليّة.
يسهل علينا تخيّل كل ما في حياة الراهب الذي وجب عليه أن يكون مُدرّسًا، ومرسلاً، وكاهنًا، في الوقت عينه. ولم يكن هذا النشاط المتعدّد ليزعج أحد منّا، بالطبع، نظرًا لغيرتنا الرسوليّة. كان لكلّ واحد منّا عمله الخاصّ يضيفه إلى العمل العامّ: فلان ينظّم حلقة أدبيّة أو فلسفيّة في المعهد، وآخر يُشرف على بعض الأعمال الرعويّة والرياضيّة، على مثال الموجودة في فرنسا.
في هذا البلد الذي يمتاز بالخضار وطراوة الهواء، تمرّ شهور الصيف سريعًا. قضينا أوقات الفراغ بالتعرّف على المركزين الآخرين من إرساليّة أرمينيا:
- «خربوط»، في الشمال. كانت مركز المحافظة سابقًا، في حين لم تكن معمورة العزيز سوى قرية صغيرة غير معروفة. تطفو على هضبة شديدة الانحدار، وعلى مسافة ساعة من معمورة العزيز، صعودًا حادًّا على الأقدام. هناك أحد الآباء يعاونه أحد الإخوة يقومان معًا، منذ عدّة سنوات، بالواجبات نفسها التي تطلبها كلّ رسالة، أكان في المدرسة أو في الكنيسة.
- «ملاطية»، في الغرب، آخر مراكز الإرساليّة، على بعد يومين ركوبًا على الحصان، ما بعد نهر الفرات. كانت معروفة، في القدم، باسم «ميليتان»، وكانت مركزًا لفيلق الصاعقة الثاني عشر الروماني، وبلاد بوليوكت [أحد أبطال مسرحيّة الكاتب الفرنسي كورناي] والقدّيس إكسبيديت [وقع شهيدًا في العام 303]. هنا أيضًا، يقوم أحد الآباء يعاونه أحد الإخوة بأعمال الرسالة، من تعليم وخدمة في الكنيسة، بين السكان الأرمن المنفتحين والودودين.
الفصل 3: باكورة أعمال المرسلين
تزامنت نهاية الأيّام الحارّة مع انتهاء فترة الفرصة الصيفيّة. في حين أنّ معهد معمورة العزيز أعاد فتح أبوابه، وواظب الشباب على الحضور، سلكنا نحن طريق العودة إلى أورفا. كنّا على مشارف بدء حياتنا العمليّة. كانت رحلة العودة شبيهة برحلة الذهاب، لكنّ حادث مأساوي أوشك أن يقع فينا. فبعد عدة ساعات من مغادرة المعمورة، في طريقنا على الهضاب التي تعلو وادي دجلة، والفاصلة بين أرمينيا وبلاد ما بين النهرين، بدأت العربة تميل فجأة إلى اليمين. وما كدنا نلاحظ هذا الأمر حتّى انقلبت العربة، وأصبحنا مكدسين على الأرض، والأمتعة والبطانيّات تعلونا. سارع كلّ واحد منّا بتخليص نفسه، وتقدّم سائقو العربات الأخرى إلى عربتنا لتقديم المساعدة. حدثت جلبة، وبدأنا نتساءل ونتفحص كلّ شيء. لم نُصب بمكروه، وحدها العربة تضرّرت. تمّ إصلاحها بسرعة، بطريقةٍ أو بأخرى، وعاد كل شيء كما كان عليه، وحينها فقط أدركنا الخطر الذي تعرّضنا له. كان التلّ منحدرًا على يسارنا، ولم تتحكم الخيول أثناء صعودها، وتعرقلت عجلتين في الخلف مع ارتفاع الجناح الأيسر، ففقدت العربة توازنها وانقلبت على جهة اليمين، وطُرِحنا على حين غفلةٍ منّا. ولو وقع الحادث على بُعد مترين من مكانه، وبدلاً من أن تنقلب العربة وسط الطريق، لكانت وقعت في الوادي العميق، حيث لا يمكن أن تنجو الخيل أو العربة أو راكبيها.
تعمل مدارس ديار بكر، كمثيلاتها في معمورة العزيز، بكامل طاقتها، ولا بدّ أن تسير مدارس أورفا على نفس المنوال. وصلنا إليها، وكان الآباء بانتظارنا، فبدأنا العمل فورًا، وكانت الأعمال اليوميّة هي نفسها: فروض دينيّة، ساعات التعليم في المدرسة، دراسات شخصيّة. كلّ صباح، يجتمع الفتيان في النصف الأوّل من الكنيسة، على مقربة من المذبح، فيما تشغل الفتيات النصف الآخر باتجاه المدخل، يتابعون القدّاس، ويتلون صلاة الصبح، ويرتلون الترانيم، وبعضهم يتقدّم إلى المناولة. ومع حلول المساء، تعود الفتيات والفتيان إلى نفس المكان، لتلاوة المسبحة، وصلاة المساء.
إنّها كنيسة أورفا الصغيرة الباسلة! كلّما تذكرتها أرى أمامي جدرانها السميكة، وأعمدتها الكبيرة الحاملة القبب الثقيلة. لَكَم من مرةٍ تأمّلتُ فيها لوحات القدّيس يعقوب النصيبي، والقدّيس افرام الرهاوي: أنتما القدّيسان العظيمان من أهل البلد، ونحن هنا حاملين إرثكما، وحرّاس إيمانكما الكاثوليكي. يحيط بنا العديد من المساجد، وعدد كبير من المسلمين، وعددٌ آخر من الهراطقة، بشكل خاصّ أتباع الكنيسة الغريغوريّة واليعاقبة. لم تكن كنيسة الإرساليّة كبيرة، ولم يكن المؤمنون سوى القطيع الصغير.
كنّا نقضي معظم أوقاتنا في المدرسة. كان من الصعب علينا، لا بل من المستحيل، إيجاد المعلمين من أهل البلد الذين نحتاج إليهم، وكان لا بدّ لنا استقدامهم من الخارج لتعليم اللغات المحليّة، كالعربيّة والأرمنيّة. أمّا بالنسبة إلى الفرنسيّة، الحصّة الكبرى من الدروس، وجب علينا أن نعلّمها بأنفسنا. وجب على المرسِل أن يكون معلّمًا كي يتمكن من الوصول إلى النفوس، وزرع التقوى في الأطفال الكاثوليك، وتأمين التعليم الديني للمسيحيين، وإعطاء الجميع، مسيحيين أو غير مسيحيين، بعض من التربية المدنيّة والتنشئة الأخلاقيّة، فتسير تلك النفوس على طريق الخير نحو معرفة أكبر للحقّ والحقيقة.
لم يكن تنوّع الأعراق والديانات بين الطلاب ليسهّل علينا التعليم، ولا الانضباط في الصفوف. فمن أصل مائة وخمسون تلميذًا، تساوى بينهم عدد الكاثوليك اللاتين مع الكاثوليك السريان والكلدان والأرمن [أرمن كاثوليك] والغريغوريين [أرمن أورثوذكس] واليعاقبة [سريان أورثوذكس] والمسلمين واليهود. للوصول إلى التلاميذ وإلى الأشخاص الكبار، وجب علينا معرفة اللغات المحكيّة الثلاث: العربيّة والتركيّة والأرمنيّة. لذلك، بناءً على طلب قاطع من الأب الرئيس الجليل، تعهدنا بدراسة اللغة العربيّة، أنا وأخي في الرهبنة، وقد استفدنا من وجود أحد الآباء بيننا [الأب بونافنتورا البعبداتي] الذي كان يلمّ بالعربيّة، لغته الأمّ، ويتمتع بمعرفة واسعة فيها، فصار لنا مدرّسًا ممتازًا. لم يغب عن باله ذكر تفاصيل القواعد والنحو وتركيب الجمل، حتّى قام بوضع جدول مختصر لها ووصفها بـ «شجرة القواعد» و «شجرة النحو»، تبدأ من الجذع، وتمتدّ إلى الأغصان والأوراق حيث كُتب عليها، بتسلسل منطقي، قواعد الصرف والنحو.
كانت أوقات الفراغ ما بعد المدرسة مملوءة جدًّا وثمينة، ولكن يجب القول بأنّ العملين اللذين أقوم بهما: أستاذ اللغة الفرنسيّة، وتلميذ اللغة العربيّة، لم يخلوا، في بعض الأحيان، من الجهود الشاقّة، والأوقات المملّة. وكان يحصل في بعض الأحيان، كما يحصل مع أيّ تلميذ آخر، أن أعمل واجبات اللغة العربيّة بغير إتقان، وأن أتثـاءب أكثر مما هو معقول، خلال ساعات الدراسة.
ولحسن الحظ، كانت النتائج مشجعة، وبدأنا نقوم ببعض المحادثات القصيرة. وبعد عدّة شهورٍ من العمل المتواصل، تمكنّا من تدريس التعليم المسيحي والوعظ كذلك، فبدأت أعمالنا الرسوليّة تتوسّع. في المدرسة، وأثناء التدريس، بتنا نشعر براحة أكبر للوصول إلى النفوس. وفي الكنيسة، أصبحت الخدمة ممكنة، في كرسي الإعتراف، وفي الوعظ.
جاءت الأعياد في مواعيدها لتكسر روتين حياتنا. جذب قدّاس نصف الليل، في عيد الميلاد، حشدًا من الناس لم نشهده في الأيّام العاديّة. إنّ قرع الأجراس، وأنغام جوقة التبويق، في منتصف الليل، شكّلا حدثًا استثنائيًّا في المدينة حيث لا يخرق سكون الليل سوى صفارة الحارس الليلي، أو صوت عصاه تقرع على الرصيف.
أوشك الفصل الدراسي الأوّل على الانتهاء، وحلّ شتاءً استثنائيًا تسبّب في وقف الدراسة لأيّامٍ وأسابيع، مع تساقط الثلوج من دون توقف. ساد اللون الأبيض جميع أنحاء المدينة، جنوبًا وشمالاً، وعلى مدى النظر. وتكدست الثلوج المرمية من على السطوح، وبلغت من الارتفاع درجة أن جعلت التنقل في الشوارع مستحيلاً، وحجبت الناس في بيوتهم. أمّا عن هؤلاء الذين يعيشون في الأرياف، مثل بدو الصحراء، والذين لم يكن لديهم ما يتدفأون به، أكانوا في المدن أو في القرى، سرعان ما زحف البرد والثلج إليهم، مما أسفر عن موت كثيرين، وفقدان قطعانهم، والتوقّف عن العمل. كم من حالات بائسة علينا الاهتمام بها في هذا الشتاء، ولمدّةٍ طويلة! وكم من متاعب واجهها المرسَلون، من دون أن يكون أحدًا قادرًا على تقديم الإسعافات لهم، ويا للأسف!
وفي خِضمّ هذه الأيام الكارثيّة، وسط هذا الشتاء الوخيم، وصلنا خبر عن الإرساليّة كان أكثر فظاعة، وهو اندلاع النار في معهد معمورة العزيز الشامخ. وبالمناسبة، وجب علينا الاعتراف بشيمة سكّان هذه المدينة الذين أظهروا تعلّقهم بالآباء، والتنويه بالإغاثة الفوريّة والهامّة التي أرسلتها سفارة فرنسا، فأُزيلت الأضرار، وبسرعة.
وأخيرًا، ما أن أطلّ الربيع حتّى بدأت الثلوج تختفي، والحياة تعود إلى المدينة كسابق عهدها. بعد مرور أيّام الصوم الكبير الصعبة، واحتفالات عيد الفصح، قُمنا بتنظيم زياح ملوكي بمناسبة عيد الربّ. اجتاز الموكب حوالي الماية متر، من كنيستنا إلى منزل الراهبات، عبر الطريق العامّ الواسعة. حمل الأب الرئيس القربان المقدّس، وطاف به في موكبٍ مهيب، من كنيستنا حتّى مسكن الراهبات، ثمّ عاد به إلى فناء الإرساليّة، وأودعه في كنيسة الدير. وكانت جوقة التبويق ترافق الأناشيد، على طول الطريق، وغصّت سطوح المنازل بالناس. بالواقع، شارك كثيرون في الزياح، مدفوعون بفضولهم أكثر من تقواهم، ورغم ذلك، يعود هذا النجاح إلى الربّ الحاضر في القربان المقدّس. لقد كان فعل إيمان، وفعل تبشير، في الوقت عينه.
من وقتٍ لآخر، بخاصّة في زمن الأعياد أو أثناء الزيارات التي نقوم نحن بها أو يقوم بها الناس إلينا، كانت علاقاتنا بالناس تتمتّن. فوسط الواجبات والمراسم المعتادة في الشرق، كنّا نُطلق بعض الحقائق المسيحيّة، وبعض النصائح الطيّبة. وغالبًا ما كانت تلك الزيارات مناسبة لتقريب القلوب، فتبدأ بالمجاملات، وتنتهي بالتعاطف المتبادل، فيصبح المرسَل الواسطة التي بها تتوجه النفوس نحو الربّ نفسه.
مع نهاية العام الدراسي، وازدياد العمل الناتج عن إجراء الامتحانات، واحتفالات توزيع الجوائز على التلاميذ، امتلأت قلوبنا فرحًا عند مشاهدتنا مسرحيّة بيبليّة بعنوان «يوسف إبن يعقوب»، قام بتأليفها أحد الآباء المرسلين، وقام تلاميذ مدرستنا بالتمثيل فيها. بدا لنا أنّ المسافات الزمنيّة قد اختفت، حين رأينا هؤلاء الأولاد يرتدون اليوم الملابس نفسها التي كان يرتديها أولاد يعقوب في الماضي، في هذا المكان غير البعيد عن حرّان، حيث عاش يعقوب مدةً طويلة لدى لابان، خاله. ما رواه الكتاب المقدّس عن يوسف، كنّا نراه ونعيشه أمام أعيينا. أمّا الأهالي الحاضرين، فكانت أفكارهم في مكان آخر، إذ كانوا يستمتعون بسماع أبنائهم ينشدون ويتحدثون الفرنسيّة دون عناء، مرتدين تلك الملابس المحليّة المألوفة.
ومع حلول الفرصة الصيفيّة، أصبح لدينا المزيد من أوقات الفراغ للتعرّف على المدينة، إديسّا قديمًا، وأورفا حديثًا. للوهلة الأولى، وفي أيّ مكان من المدينة كنتَ فيه، تلفت أنظارك أطلال القلعة الصليبيّة في الجنوب الغربي. وكان بودوان، شقيق غودفروا ديبويون، قد بنى قلعة كبيرة ومتينة، على أنقاض حصن قديم يعود إلى الحقبة اليونانيّة أو الرومانيّة، إن لم تكن الآشوريّة، ولم يبق منها اليوم سوى عمود واحد واقف في مكانه، يبلغ طوله حوالي عشرة أمتار، بخلاف اثنين أو ثلاث قطع متناثرة هنا وهناك، وبضعة أمتار من السور. توحي لنا حدود الساحة وأقسامها الرئيسيّة عن المساحة الواسعة التي كانت تحتلّها تلك القلعة.
وعلى سفح التلّة التي بُنيت عليها القلعة، توجد بحيرة إبراهيم، وهي عبارة عن حوض مستطيل يبلغ طوله حوالي ثلاثون مترًا، وعرضه خمس إلى ست أمتار، يغذّيها نبع غزير ينبثق في إحدى أطرافها، ويعيش فيها مجموعة كبيرة من أسماك الشبّوط التي تُعتبر من الأسماك المقدّسة الممنوع اصطيادها، احترامًا لذكرى إبراهيم. المنظر يخطف الألباب، فهناك مئذنة صغيرة أنيقة، وقبب بيضاء صغيرة، وأشجار الصفصاف المُستح الخضراء، جميعها تنعكس على صفحة مياه البحيرة الساكنة، بخاصّة في الصباح وبعد الظهيرة، عندما تكون أشعّة الشمس أقلّ سطوعًا.
ما وراء القلعة، جبال إلى الشمال تمتدّ إلى الغرب في سلسلة من الوديان تتدرّج سقوطًا إلى السهل، ومليئة بالكهوف التي كانت تُستخدم في العصور القديمة للمقابر والمناسك. في هذه الأماكن، عاش القدّيس إفرام معظم حياته، في القرن الرابع، حين كانت إديسّا مركز الحياة الرهبانيّة، والعلوم اللاهوتيّة، والرهبان كثيرون في المدينة والمناطق المحيطة بها. بفضل وفرة التعاليم اللاهوتيّة فيها، صارت لإديسّا مدرسة خاصّة بها، وطَطْيانُس كَتب فيها الدِياطِسَّرون، والعديد من أساقفتها دافعوا ببراعة عن عقيدة المجامع الأولى. أوليسوا هم خلفاء القدّيس توما، والقدّيس يهوذا؟ ألم تقدّم سلالة أبجر الملوك الأوائل الذين آمنوا بالمسيح؟
ولكن، بعد معارك البيزنطيين، ونهضات متفرّقة أيّام الصليبيين، أصبحت إديسّا مدينة مسلمة تركيّة، ولا تزال حتّى يومنا هذا، مقبرة بيضاء تتحرّك فيها الأشباح بين حجارتها. صارت إديسّا: أورفا.
وبالرغم من جهود المسيحيين من أهل البلاد والمرسَلين، لم تستعد إديسّا حيويتها المسيحيّة التي كانت في البدء. شغل الأرمن الغريغوريين الذين قُضي عليهم إبّان مجازر العام 1895، جزءًا كبيرًا من المدينة، وما زالوا حتّى اليوم، في العام 1911، يعدّون حوالي 10 إلى 15 ألف نسمة. لكنّ حسّهم القوميّ المبالغ فيه، والفساد السائد في لجانهم الثوريّة، جعلهم غير قابلين لتطوير كفاءاتهم، ولا ذكائهم، ولا بحبوحتهم الماديّة، ولا حتّى الحضارة المسيحيّة المرتكزة على العدالة والمحبّة.
أمّا اليعاقبة في المدينة، فهم الأقدم والأكثر عددًا، لكنّهم أسرى عاداتهم الدنيويّة، ومعتقداتهم القديمة الخاطئة والخرافيّة. كلّ من الأرمن واليعاقبة لديه كنيسة كبيرة خاصّة به.
شكّل افتتاح الإرساليّة، في العام 1850، فرصة لنهضة الإيمان والحياة الكاثوليكيّة. في البدء، حلّ الآباء ضيوفًا لدى أحد الأغوات الأتراك النبلاء، لكن سرعان ما انتقلوا إلى منزل متواضع تملّكوه. ومنذ ذلك الوقت، بواسطة المدرسة وأعمال البشارة والخدمة الكنسيّة، بدأت الجماعة الكاثوليكيّة تتشكّل. وفي العام 1880، استدعى الآباء راهبات لونس لوسونييه الفرنسيسكانيّات لمساعدتهم في الرسالة، فبدأت المدارس والمشاغل والمستوصفات تقوم بالأعمال الخيريّة بشكل أوسع. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، قام كاهن سريانيّ كاثوليكي بفتح كنيسة بحسب طقسه، بجوار الإرساليّة، بين السكان اليعاقبة، ثمّ افتتاح كنيسة للكلدان الكاثوليك، ثمّ جاء كاهن أرمنيّ كاثوليكي نجح في تجميع بعض المؤمنين في كنيسة بسيطة وصغيرة في الحيّ الأرمني.
الجــزء الثــانــي : تشريــــن الأوّل 1911 - 1915
الفصل 1: نحو آفاقٍ جديدة
حلّ تشرين الأوّل وبدأ الموسم الدراسي. وما أن استأنفت المدرسة دورها كخليّة نحل، حتّى عيّنني الأب الرئيس الجليل في إرساليّة ماردين. كان عليه أن يذهب شخصيًّا إلى هذه المدينة، فقمتُ بمرافقته إليها، وكان علينا الانطلاق فورًا عبر الصحراء.
حصل ذلك في أوائل تشرين الثاني. الرحلة في هذا الوقت من السنة تكون حلوة لأنّ طقس الخريف، في بلاد ما بين النهرين، يتميّز بالاعتدال، ويمزج بين مباهج الصيف والشتاء: حرارة خفيفة إلى معتدلة، لا وجود لحرارة الصيف المرهقة، ولا لبرودة الشتاء وأمطاره، لذلك استطعنا السفر في النهار والليل معًا.
إنطلقنا عند الظهر ممتطين الأحصنة القويّة والهادئة التي استطاعت السير بخطى ثابتة، طوال الطريق، بالرغم من حِملها الكبير. لم يتبدّل علينا المنظر كثيرًا، طوال الطريق: سهل يمتدّ على مرمى البصر، دون تصدّع، ولا وجود للنباتات الخضراء، إلاّ قليلٌ منها حول البِرك المائيّة. ومع حلول الليل، استمرّت القافلة بالمسير إلى أن توقفنا عند سفح جبال كارادجداغ [كراباخ]، في ساحة صخريّة، حيث أرحنا الخيول من حمولتها، ووضعناها على شكل مربّع، واستلقينا نحن والخيول في الوسط. استطعنا تناول القليل من الطعام على ضوء شُعلة، ثمّ التفّ كلٌ منا في غطائه، على عجلة، واتخذ زاوية بين الأمتعة ليخلد إلى النوم.
سلكنا طريقنا قاصدين غايتنا قبل بزوغ الفجر، في رحلةٍ طويلة، حتّى وصلنا، مع حلول المساء، إلى «ويرانشهر». لم يتركنا كاهن الرعيّة الأرمني الكاثوليكي أن نُبيت ليلتنا في الخان، وأصرّ على التوجّه معه إلى منزله حيث لاقانا مسيحيّو المنطقة، وكانت زيارات طويلة تبادلنا فيها الأخبار. قالوا لنا بأنّ الأتراك والأكراد أقاموا مذبحة للمسيحيين، في ماردين، وبدأوا يسردون تفاصيلها من خيالهم الواسع، لكنّ الأب الرئيس هدأ من روعهم، وقال لهم بأنّ الأمر مبالغ به، ولا وجود للخطر. لقد كنّا في خضمّ الحرب الناشبة بين إيطاليا وتركيا، ووكالات الأنباء تعلن عن الانتصارات التي حقّقها الأتراك، ما يجعل المسلمون يتهيّجون تهييجًا شديدًا ضدّ المسيحيين.
تزامن وجودنا مع زيارة أحد أبناء إبراهيم باشا الصغار، فتوقّفت تلك الأحاديث التي لا نهاية لها. كان إبراهيم باشا، قبل ظهور جماعة الأتراك الفتيان، قد حظي بعطف السلطان عبد الحميد وإنعاماته، بفضل الهدايا الغالية التي كان يقدّمها إليه، فمنحه «السلطان الأحمر» سلطة مطلقة على المنطقة الواسعة الممتدة من ماردين إلى الموصل، مرورًا بديار بكر وأورفا، فغدت منطقة الجزيرة العليا كلّها خاضعة له. وتمكن إبراهيم باشا من إنشاء فيلق خيّالة «الحميديّة» من الرجال خاصّته. ومع سيطرة الفتيان الأتـراك على الحكم، حاول إبراهيم باشا المقاومة، لكنّ الحكومة الجديدة أرسلت قوّات النظام ليقتادوه إلى السجن، وترحيله إلى القسطنطينية حيث ما لبث أن فارق الحياة، وما زال اثنين من أبنائه في السجن هناك، وهما أكبر سنًّا من الموجود معنا.
غادر ابن إبراهيم باشا، وبقي بعض المسيحيين معنا، ولم نتمكن من الخلود إلى الراحة إلاّ في آخر الليل، فنمنا بضع ساعات، وغادرنا قبل طلوع الفجر. وبعد الظهر، كانت لنا وقفة لافتة. فعند اجتيازنا السهل، برزت أمامنا فجأة جدران شبيهة بتلك العائدة إلى قلعة، وقبل أن نعرف أين نحن، وجدنا أنفسنا في الداخل، في ساحة واسعة جُهّزت لتكون خانًا للزوّار. أمّا نحن، فاستقبلنا أحد البدو، وأصعدنا إلى قاعة واسعة، وجلس حولنا بعض الرجال. لقد كنّا في قصر الحسين، الملازم في عسكر إبراهيم باشا.
وانطلقنا بعدها لنكمل ما تبقى من رحلتنا، ومع حلول الليل، وصلنا إلى قرية صغيرة تُدعى «سالمه». حال وصولنا، قدِم لزيارتنا بعض المسيحيين، كما حدث معنا في ويرانشهر، وجلسنا لساعاتٍ طوال نستمع إلى القصص نفسها، والأسئلة نفسها، عن مجازر مزعومة حصلت في ماردين، وتفاصيل جديدة عنها.
كان بودّنا المكوث مدّة أطول بين هؤلاء المسيحيين المعزولين في تلك الأماكن الشاسعة، يلازمون قريتهم بضعة أشهر قبل الذهاب إلى المدينة، لا كاهن يخدمهم، وبالتالي هم محرومون من كلام الربّ، والصلوات والقدّاسات والأسرار. لكن لا نستطيع المكوث طويلاً، وانطلقنا في اليوم التالي، مع شروق الشمس، ووصلنا إلى “تلّ أرمن”، القرية الكبيرة التي فيها حوالي ثلاثماية عائلة من الأرمن الكاثوليك، بعد بضع ساعات. والكاهن هناك، بالإضافة إلى خدمة الكنيسة، يُشرف على مدرسة للصبيان وأُخرى للبنات. تعزّينا كثيرًا عند رؤيتنا هذا المركز من الحياة المسيحيّة قائمًا في وسط صحراء بلاد ما بين النهرين.
حرص كلٌ منا على الوصول في الوقت المحدّد، دون تأخير، إلى ماردين، فلم نتوانى في طريقنا قاصدين غايتنا، وبعد راحةٍ قصيرة، ها هي المدينة تلوح في الأفق، والصحراء التي قطعناها شارفت على نهايتها!
في الشمال، تجد الجبال الشامخة، والمنازل الجميلة ذات اللون الأبيض مرصوصة كالبنيان، في طبقاتٍ متراكبة، تبدو كأنّها شامخة إلى الأعالي التي تكلّلها أسوار قلعة قديمة. لكنّ المرحلة ما زالت طويلة، وفي كلّ لحظة اعتقدنا فيها أنّ السهل شارف على الانتهاء، كانت سفوح المرتفعات تبدو بعيدة. وأخيرًا، بدأنا بالصعود قليلاً، بطريقة هادئة، وما لبث أن صار الدرب أمامنا متعرّج وضيّق وصعب، وسط أرض صخريّة ناعمة وبرّاقة عملت فيها حوافر الخيول.
وبعد فترة طويلة من الصعود الحادّ، بدأنا نتقدّم وسط بيوت المدينة الأولى، والطريق ما زال صعودًا، لكنّه صار أوسع من قبل. وبعد لحظات، صرنا على الطريق الرئيسي الذي يجتاز وسط ماردين، آتيًا من ديار بكر، ومكملاً باتجاه الموصل وبغداد، إلى الجنوب الشرقي.
وها نحن نُقلّب المنازل بأعيننا، تارة على اليمين، وأخرى على اليسار، ومعظمها لم يكن جميلاً كما بدا لنا من بعيد. وفي غضون بضع دقائق، كنّا عند مدخل الإرساليّة حيث كان بانتظارنا الأبوين المولجين أمرها، وقنصل فرنسا، السيّد تالانسيير الذي وصل منذ عدّة أيّام. أخبرنا السيّد تالانسيير أنّه تصدّى لتهديدات خطيرة للقيام بالمجازر في ديار بكر، لمدّة يومين، استطاع إجهاضها بفضل خبرته المحنكة، وكيف أنّه لم يكن يخشى التواجد شخصيًّا، في ساحة المسجد الرئيسيّة، أثناء صلاة العصر، بحيث أنّه، ما أن شعر بتحركات الشغب الأولى، توجّه فورًا إلى دارة الوالي، في الليل، وحمّله مسؤوليّة أي فوضى قد تحصل. فما كان من الوالي إلاّ أن أعطى الأمر فورًا، إنطلاقًا من إرادة طيّبة أو مصالح سياسيّة، لاتخاذ إجراءات مراقبة صارمة، وقيام دوريّات للبوليس، فعادت الأمور إلى طبيعتها.
وفي نفس الوقت، علم القنصل بأنّ تهديدات مماثلة بالمجازر قد تحصل في ماردين بحقّ المسيحيين من سكان المدينة، وربّما تكون أكثر خطورة. وبعد التأكّد من عودة الهدوء إلى ديار بكر، وبما أنّ ماردين تابعة إداريًّا إلى ديار بكر، توجّه القنصل إلى ماردين، ممتطيًا جواده. استغرقت الرحلة مدّة يومين، وعشيّة وصوله، كان التهديد قد بلغ ذروته. فبعد ظهر ذلك اليوم، تمّ إطلاق آلاف العيارات الناريّة في الهواء، من البنادق، استمرّ ساعات طوال، من دون سبب يُذكر، ولا هدف محدّد، انطلقت من الأحياء التركيّة والكرديّة في المدينة، ولاقت تجاوبًا من الأحياء المسيحيّة التي انطلقت منها أعيرة مماثلة. ساد القلق في الأجواء، وتساءل الجميع عن سبب ما يحدث، إذ كاد الوضع أن ينفجر، بين لحظة وأخرى، لكنّ إطلاق النار توقّف أخيرًا. لم يكن القتلة واللصوص في المدينة ينتظرون إلاّ إشارة واحدة من الحكومة للبدء بعملهم المشؤوم، ولكنّ الأمر لم يصدر بعد.
بقي الوضع على ما هو عليه لمدّة ثمانية أيّام، ظلّ فيهم القنصل على اتصالٍ وثيق مع السلطات، يراقب أيّ تحرّك مشكوك بأمره. وأخيرًا، عاد الهدوء إلى المدينة، واستؤنفت الحياة فيها كالمعتاد. رجع القنصل إلى ديار بكر، لكنّه لم يذهب إليها مباشرة، بل سلك طريقًا مختلفًا عن الذي سلكه في المجيء، فمرّ في «مديات» الواقعة إلى الشمال الشرقي من ماردين، واجتاز الجبال في الشمال، تحت ذريعة صيد الأرويّة [نوع من الظباء الماعزيّة]، لكن نيّته كانت تطمين السكان في المناطق المحيطة لماردين، وإشعارهم بحضوره الفاعل، ولم يصل ديار بكر إلاّ بعد عشرة أيّام.
وبعد وقت قصير، رفع رئيس الإرساليّة تقريرًا إلى السفارة الفرنسيّة يُشيد فيه بموقف القنصل الباسل تالانسيير، فمُنح وسام الشرف، نظرًا لقيادته الرشيدة في تلك الظروف الحرجة.
الفصل 2: البدء بالخدمة الكهنوتيّة
بدأتُ العمل دون أيّ توانٍ لأنّ الواجبات المطلوبة كثيرة. وكما يحصل في أيّ مركز آخر في الإرسالية، كان على الراهب المرسَل أن يتفانى في خدمة التلاميذ في المدرسة، والمؤمنين في الكنيسة، وهنا بشكل خاصّ، حيث الأعداد وافرة، والظروف أكثر ملائمة. لا شكّ بأنّ المدرسة هنا لم تكن بمستوى معهد معمورة العزير من حيث عدد التلاميذ ومستوى الدروس، لكنّها تتميّز عن المدارس في المراكز الأخرى بعدد أكبر من التلاميذ، وبكون معظمهم من الكاثوليك، حوالي الماءتين تلميذًا، يتكلّمون كلّهم لغة واحدة، هي اللغة العربيّة. لذلك، اتّخذ التعليم كلّه منحىً مسيحيّ، واعتُمد برنامج واحد للجميع.
كان المعلّمون من أهل البلد، يعاونون الأب المرسَل، ويُشهد لهم بطيبة القلب والمقدرة والإخلاص، من بينهم واحد رافقنا لأكثر من ثلاثين عامٍ، يُتقن العربيّة والتركيّة ويدرّسها. أتذكر بتأثّر كيف كنتُ أُتابع، على يد هذا الأستاذ العظيم، دروس اللغة العربيّة، كلّما تيسّر لي ذلك، وقد استفدتُ منها كثيرًا. كنتُ أجلسُ على مقاعد التلاميذ، بين يديّ الكتاب ذاته الذي بين أيديهم، وهو كتاب «مجاني الأدب»، من تأليف الأب شَيخو الراحل [1859-1927]، وهو من أصل مارديني. وكان التلاميذ يتناوبون القراءة فيه، كلٌ في دوره، وتمرّ لحظات، ويطلب الأستاذ من التلميذ التوقّف عن القراءة، ليصلّح له حركة خاطئة. كان الأستاذ يأخذ الصفّ ذهابًا وإيابًا مستمعًا للطالب، من دون كتاب بين يديه، بل مسبحة من العنبر. ثمّ يبدأ الأستاذ بسلسلة من الأسئلة الثاقبة عن شكل الكلمة، وبناء الجملة، فيستعرض، على مسامعنا، قواعد الصرف والنحو كلّها، بدقّتها وتفاصيلها العديدة، ضمن تطبيقات عمليّة. وهكذا، تمرّ ساعات الدرس مثمرة ومثيرة للاهتمام.
وهناك معلّم آخر كان يتقن نظم الشعر وعلم الرياضيات. ومعلّم ثالث، أقلّ علمًا وثقافة، لكنّه مفعم بروح الفكاهة، ومتفان في خدمة الشبيبة، يحبّه الجميع، وله تأثير قويّ عليهم.
بعد مرور خمس سنوات من الدراسة، صار التلاميذ يعرفون الفرنسيّة والعربيّة والتركيّة، ولو بشكل بدائي، لكن على نحوٍ صحيح، فضلاً عن مبادئ التاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم. إنّه واجب المحبّة، من قبل المرسَل، بأن يكون معلّمًا ومديرًا للمدرسة، لكنّ ملء الخدمة الكهنوتيّة كانت تظهر أثناء التعليم المسيحي.
كلّ يوم، وفي كلّ الصفوف، يكون الدرس الأوّل ملخّصًا عن العقيدة المسيحيّة أو تاريخ الدين. ومرّة واحدة في الأسبوع، يتوجّه جميع التلامذة، مع بعضهم البعض، إلى الكنيسة، حيث يقضون ساعة واحدة يستمعون إلى فصل من التعليم المسيحي، ويسمّعون ما درسوه سابقًا. تُعتبر هذه الساعة بمثابة تعزية للمرسَل الذي كان يرى أنّ جهوده في ساعات التعليم الأخرى: أساسيّات اللغة الفرنسيّة والعلوم الدنيويّة، لا تأتي بالثمار الروحيّة المطلوبة. فخلال هذه الساعة من التعليم المسيحي، كان بمقدوره التكلّم فقط عن يسوع المسيح، وإنجيله، والكنيسة، وعقيدتها، بكلّ وضوح.
بالقرب من مكان إقامة الآباء ومدارسهم، يوجد المأوى والمدرسة والمشغل التابعين للراهبات الفرنسيسكانيّات اللواتي أتين لمعاونة الآباء. وفي الواقع، يضمّ مبنى الراهبات عددًا كبيرًا من الأشخاص في مساحة صغيرة.
في المأوى أولاً، قُسِّم الفتيان والفتيات إلى مجموعتين، واحدة للفتيات وأخرى للفتيان، تضمّ كلّ مجموعة مائة شخص. ثم قُسّمت مدرسة الفتيات إلى خمسة صفوف، في كلّ صفّ أربعين أو خمسين فتاة، والصفوف الابتدائيّة من ثمانين إلى مائة.
وكانت هناك قاعتان كبيرتان مخصصتان للمشغل الذي يلتحق به ما يقارب من أربعمائة فتاة شابّة أو امرأة شابّة للحصول على قطعة من القماش يعملون فيها أنواعًا من التخريم. البعض منهنّ يُكملون العمل في المنزل، والباقيات يمكثن إلى جانب الراهبة المعلّمة، وتحت إشرافها، يتعلّمن هذا الفنّ الدقيق، أو يُحسّنون معرفتهنّ به.
كان هذا المشغل نعمة للمدينة، لأنّ القطع المخرّمة تُباع بشكلٍ جيّد في أوروبا، وتشكّل موردًا قيّمًا للعاملات، بالإضافة إلى وجودهنّ في بيئة حاضنة تساعدهم على النمو في تربيتهم المسيحيّة. كنّ يقضين ساعات طويلة كلّ يوم يسمعن القراءات الصالحة، ويصلّين ويرنمن أثناء العمل. لم يكن للسأم مكان في هذه الأعمال المتنوعة، فكانت أوقات الفرصة لا تخلو من النشاطات المختلفة، بعد أن تكون أوقات العمل قد استُنفدت بشكل مكثّف.
أكان في مدرسة الراهبات أو في المشغل، يجد المرسَل مكانًا واسعًا لرسالته. وكانت الراهبات تُعدّ له أرضيّة جيّدة في نفوس العاملات والتلاميذ، وعند زيارة الكاهن للتلاميذ في الصفوف، أو العاملات في الكنيسة، مرّة في الأسبوع، يجد الأرواح والعقول مفتوحة لتلقّي كلمة الله بتوق شديد.
كانت خدمة النفوس في المدرسة مرحلة تمهيديّة لأنّ مركز الخدمة الحقيقيّة والكاملة وغايتها كان في الكنيسة. وكانت كنيسة الإرسالية على شكل صليب، وفوق تقاطع الصليب قبّة كبيرة. يحضر الفتيان والفتيات كلّ يوم القدّاس، وقسم كبير منهم يتناول جسد الربّ. وينضمّ إليهم بعض النساء والشباب والرجال وهم في طريقهم إلى عملهم اليومي. أمّا الأحد، فكان المؤمنون يملأون الكنيسة، ولا ينفكون في الدخول والخروج، ومعظمهم يشاركون في أكثر من قدّاس واحد ويتناولون جسد الربّ. ويبلغ متوسط عدد القرابين التي يتناولها المؤمنون في السنة ثلاثين ألفًا.
إنّ إرساليّة ماردين هي حقًّا مركزًا للحياة المسيحيّة والتقوى الحقيقيّة، بالاستناد إلى الطريقة التي يصلّي فيها المؤمنون، ويرتّل فيها الأولاد، وفيها تشابه مع ورع المسيحيين الأوّلين المهتدين حديثًا.
ماذا عسانا نقول عن التقوى عند الإخوة والأخوات في رهبنة مار فرنسيس الثالثة؟ يضمّ فرع الرهبنة حوالي خمسين رجلاً وأكثر من مئتي امرأة، يجتمعون كلّ يوم أحد، بعد الظهر، في الكابيلاّ الخاصّة بهم، ينتقلون إليها بعد قيامهم بزياح القربان الأقدس، ليرفعوا إلى العذراء مريم، صلاة الغروب وصلاة النوم، باللغة العربيّة، منشدين المزامير والترانيم التي تترك أثرًا مؤثرًا في النفوس، يشاركهم فيها، من كلّ قلبهم، الأولاد والشباب، الذين يتهيأون للدخول في الرهبنة الثالثة، فيضمّوا أصواتهم اليافعة إلى أصوات الرجال الرخيمة. كثيرون منهم يعرفون صلوات الفرض عن ظهر قلب، فيشاركون بأعداد كبيرة، مع أنّ اجتماعات الآحاد لم تكن إلزاميّة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الاجتماعات الشهريّة، إذ كان الغياب بين الإخوة والأخوات نادرًا.
يشعر المرسَل بفرح كبير، عندما يخاطب هذه النخبة من النفوس التقيّة والقلوب الطيّبة. كثيرون منهم يخبئون نفسًا سامية ونبيلة تحت مظاهر البساطة والتواضع، ويميّزون جيّدًا في مستويات الإيمان بين أمور الأرض الدنيا وأمور العالم الآخر!
إنّ الإرشاد الملائكي الذي يعطيه المرسَل، بغيرته الرسوليّة، إلى الثالثيين المجتمعين في الكنيسة الصغيرة الخاصّة بهم، ذات الطابع الكبّوشيّ، الواقعة إلى جانب الكنيسة الكبيرة، يملأ قلبهم حرارة، ويجدّد همّتهم. فهو يجد، في توقهم الشديد إلى سماع كلمة الله، مكافأة له عمّا عاناه من صعوبات في تعلّم لغتهم.
هناك بعض الأعياد التي تضفي رونقًا خاصًّا على حياة الرهبنة الثالثة، منها عيد الحُبل بها بلا دنس. ففي هذا اليوم، يقوم الثالثيّون، بلباسهم الفرنسيسكاني، بإنشاد الفرض الخاصّ بتكريم السيّدة العذراء، بكامله، وهم ساجدين أمام القربان المقدّس. في الصباح، ينشدون صلاة السَحَر، وصلاة الصبح، وصلاة الساعة الأولى، وصلاة الساعة الثالثة. وفي المساء، ينشدون صلاة الساعة السادسة، وصلاة الساعة التاسعة، وصلاة الغروب، وصلاة النوم. بالإضافة إلى ذلك، يتناوبون السجود، ساعة تلو الأخرى، أمام ملكهم المحبوب.
ويتَكرّر الأمر نفسه في احتفالات الأربعين ساعة. أمّا سهرة خميس الأسرار فقد تحوّلت إلى سهرة صلاة وتكفير. وقد عبّر كثيرون من الثالثيين عن رغبتهم الكبيرة في المشاركة بهذه السهرة الروحية. يمرّ الوقت بسرعة كبيرة، من دون تعب يُذكر، ويطوي أفراد الرهبنة الثالثة الساعات في التأملات والقراءات والتراتيل والسجود أمام القربان الأقدس، الموضوع على مذبح خاصّ، يتخللها فترات من الراحة والأحاديث الدينيّة في غرفة مجاورة. حتّى أنّ إحدى الاستراحات اتسمت ببصمة من الفرادة حيث إنّ بعض الثالثيين تداعوا للاجتماع، وأخذوا يتبارون فيما بينهم على الشكل التالي: أُعطي كلّ واحد منهم رقمًا، ليبدأ الأوّل بتلاوة آية من الإنجيل، على أن يتبعه الثاني ويتلو آية تبدأ بالحرف الذي تنتهي به الآية السابقة، وهكذا دواليك. والشخص الذي يحين دوره ولا يجد أي آية يقولها يخسر نقطة، في حين أنّ من يقول آية مناسبة يربح نقطة. برع كثيرون في هذه المباراة، حتى أنّ واحدًا منهم كان ضليعًا بالمزامير والأناجيل إلى درجة أنّه كان يجد الآية المناسبة بسرعة لكلّ حرف مطلوب.
إلى جانب هذه الاحتفالات الدينية، كانت الرهبنة الثالثة فاعلة أيضًا وبالزخم نفسه، على المستوى الاجتماعي، وكانت النسوة، بشكل خاصّ، وهن اللواتي لم يكنّ يحتجن للظهور كثيرًا في الكنيسة وفي احتفالات العبادة، حاضرات دومًا لزيارة الفقراء والمرضى، والمساعدة في بعض الأعمال، وتقديم الإحسانات للمحتاجين، بجميع فئاتهم.
إنّ حياة الإرساليّة الكبّوشيّة، المملوءة نشاطًا، في الكنيسة وبين الثالثيين، لم تكن إلاّ الثمرة المباركة للجهود الكبيرة التي قام بها المرسلون، جيلاً بعد جيل.
الفصل 3: العلاقة مع أتباع الطقوس الشرقيّة
لم يكن ذلك الورع المسيحي عند النخبة من المؤمنين ليتجلّى في أعمال الرسالة لو لم تكن ماردين فيها نسبة عالية من السكّان الكاثوليك. وفي الواقع، تميّزت ماردين بازدهار ثلاث طوائف كاثوليكيّة، تنتمي إلى طقوس مختلفة، لكنّها تتكلّم اللغة نفسها، العربيّة.
إنّ الطائفة الأرمنيّة [الكاثوليكيّة] هي الأكثر عددًا، وتضمّ حوالي ثلاثة آلاف مؤمن، ولا وجود للطائفة المنشقّة [الأرمن الأرثوذكس] في المدينة. يوجد في ماردين كرسي رئيس أساقفة من أهمّ الكراسي في البطريركيّة. وفي أوائل أيّام شهر أيار 1912، أُقيمت حفلة كبيرة في ماردين، بمناسبة مجيء المطران مالويان المعيّن حديثًا على كرسي ماردين، وهو من أهل البلد. كان يتمتّع بالذكاء، واعتمد على نفسه في تعليمه في مرحلة شبابه، وصار محطّ الأنظار في بزمّار [إكليريكيّة الأرمن الكاثوليك في لبنان]. عيّنه سينودس الأساقفة الأرمن المنعقد في روما عام 1911، رئيسًا لأساقفة ماردين، فلم يتوان من استلام هذا المركز. وبحسب ما تقتضيه العادات والتقاليد، كان بانتظاره، عند مشارف المدينة، مجموعة من أعيان الطائفة، ومعهم حشد كبير من الرجال والفتيان على ظهور الخيل، وامتطى المطران جوادًا مزيّنًا سرجه بالمخمل والفضة، وسار كالملك المنتصر حتّى الكنيسة. قام الخيّالة من حوله في الشارع بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، وطلّت النساء من على سطوح المنازل الواقعة على جانبَي الشارع، مطلقة زغاريد حادّة، تنخفض تدريجيًا، ثمّ تعلو مرةً أخرى، وبمزيدٍ من القوّة، في مكان آخر.
ومع وصول المطران إلى ماردين، شهدت الرعيّة نهضة جديدة، ونشطت الحياة المسيحيّة في كلتا الكنيستين: كاتدرائيّة القدّيس جرجس، وكنيسة القدّيس يوسف الرعائيّة. بكلّ جرأة وحزم، قام المطران بالإصلاحات المقرّرة من السينودس الذي انعقد في روما عام 1911، فتمّ التقليل من أيّام العطلة في الأعياد، وحدّد حالات الإعفاءات من الصوم الكبير، بالرغم من معارضة بعض الذين كانوا لا يلتزمون بالصوم، لأنّهم رأوا في هذا القرار فضيحة كبرى، كونه يجعل المسيحيين أقلّ شأنًا من جيرانهم المسلمين المتمسكين بواجبات الصوم الصارمة في شهر رمضان. منع الاحتفال بسرّ الزواج في المنازل، ووضع نظام برامج جديد للمدارس، واستقدم أساتذة جدد أكثر كفاءة. بذل جهودًا مكثفة لتنشئة الإكليروس: عشرون كاهنًا في ماردين، وعشرة في الضواحي. كانت بلاغته في الوعظ على مستوى غيرته الرسوليّة. كان يقرأ كثيرًا مؤلفات القدّيس أوغسطينُس، لذلك كانت له، في بعض الأعياد، عظات طويلة وبليغة في عقيدة ملفان الكنيسة هذا وإلهاماته. وفي المجلس البلدي حيث كان يجلس إلى جانب الأعضاء والأساقفة الآخرين، بصفته رئيسًا للطائفة، كان يتميّز بشمول رؤيته، إلى جانب قدرته للدفاع عن المؤمنين.
تضمّ الطائفة الكلدانيّة الكاثوليكيّة حوالي ألف مؤمن، على رأسها المطران أودو، رجل العلم والتقوى. كانت موارد رعاياه متواضعة، وعدد كهنته قليل، لكنّ قدوم بعض الكهنة الجدد من الذين تنشأوا في إكليريكيّة الآباء الدومينيكان في الموصل، ساهم في رفع مكانة الأبرشيّة. تميّز أحدهم، من الذين يخدمون في ماردين، بعظاته البليغة، وعلومه المشرقيّة. وكاهن آخر يخدم في نصيبين، تميّز بالتجرّد الكامل، وبرفع شعلة الإيمان الكاثوليكي في عقر دار كنيسة القدّيس يعقوب القديمة التي يخدمها أحد الكهنة السريان المنشقين بطريقة سيئة، لا حرص عنده على الأمور المقدّسة، ولا ثقافة لاهوتيّة لديه، ولا علم له بحقائق الإيمان الأساسيّة.
من بين الطقوس الشرقيّة الكاثوليكيّة، احتلّ الطقس السرياني الكاثوليكي المقام الأوّل، نظرًا لمكانته المميّزة. يُقارب عدد السريان الكاثوليك الألفين، وهم أقلّ عددًا من الأرمن الكاثوليك، لكنّهم في زيادة يومٍ بعد يوم، بفضل تنامي السكّان، واستقبال المهتدين الجدد، ويعيشون جنبًا إلى جنب مع السريان المنشقين [السريان الأرثوذكس] الذين يكوّنون جماعة قادرة يتساوى عددها مع عدد الطقوس الشرقيّة كلّها. والمعروف أنّ الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة خرجت من الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في القرن الثامن عشر.
تُعتبر ماردين مركزًا لليعاقبة، وهو الإسم المستعمل للدلالة على السريان الأرثوذكس. يقع دير الزعفران على بُعد بضعة كيلومترات من المدينة، أسّسه القدّيس أوكين، في القرن الرابع، واستمرّ بالوجود بالرغم من الهرطقات والانشقاقات في الكنيسة، كما الغزوات والاضطرابات السياسيّة.
أثناء زيارتنا إلى الدير، استقبلنا راهب شابّ، عالم مستشرق لكنّه ليس إلاّ أحد المرتدّين. في أيّام شبابه، انضمّ إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، وتابع دروسه في إكليريكيّة الآباء الدومينيكان في الموصل، وكان طالبًا جيّدًا. ما أن سيم كاهنًا حتّى عاد إلى كنيسته الأصليّة، مدفوعًا بطموحه، ظانًّا أنّه، بفضل علمه الواسع، ووسط الإكليروس اليعقوبي الجاهل بمعظمه، يمكنه بسهولة تقلّد منصب أُسقف أو حتّى بطريرك، وهو الآن الشخصيّة الرئيسة في الدير، وقام بنفسه بعمل الدليل.
وبين الكنوز المحفوظة في الكنيسة أشار إلينا، بشكل خاصّ، إلى كرسي البطريرك المصنوع من خشب الزيتون الذي أثار إعجابنا، إذ هو مرصّع ظهره بشكل مميّز: في وسطه مربّع صغير من الخشب يحمل اسم القدّيس بطرس، يليه خطوط لولبيّة الشكل تحمل أسماء خلفاء القدّيس بطرس على كرسي أنطاكية بالتوالي، ومعظمهم غير شرعيين، بخاصّة الوارد اسمهم بعد يعقوب البرادعي الذي أصبح رئيسًا على أوطيخيي سوريا [نسبة إلى أوطيخا، رئيس دير القسطنطينيّة، الذي كان من مؤيدي طبيعة المسيح الواحدة أو المونوفيزيّة]، منذ القرن السادس، ومنه استمدّوا لقب اليعاقبة.
على مقربةٍ من الدير البطريركي، يقع دير مار يعقوب، في الجبال. يصل إليه المرء عبر مسارٍ منحوت في الصخر، ويتألّف من عدّة كهوف منحوتة في الصخر أيضًا، تُستخدم أربعة منها أو خمسة بمثابة قلاية للرهبان، وواحد كبير بمثابة كنيسة. يُقيم فيه اثنين أو ثلاثة رهبان يعملون في زخرفة الكتب الليتورجيّة أو نسخ المخطوطات القديمة.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان يوجد راهب شاب من الموصل، اسمه أنطوان سمحيري، مقيم في دير الزعفران للدراسة والتعبّد اللتين قادته إلى تبيان الحقيقة الدينيّة الموجودة في الكنيسة الرومانيّة، فانضمّ إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، وتبرّأ علنًا من سواها، أمام الإكليروس الكاثوليكي في ماردين، لا يخشى أيّ اضطهاد بحقّه. أُرسل إلى الموصل، ثمّ عاد إلى ماردين حيث أثمرت غيرته الرسوليّة اهتداءات بين اليعاقبة. سيم رئيس أساقفة، وأعطى عمله الرسولي نتائج جيّدة أثارت حقد المنشقّين إلى أقصى الحدود، فعملوا على نصب الفخاخ له بغية قتله، لكنّ العناية الإلهيّة حفظته سالمًا بطريقة عجيبة. وأخيرًا، أصبح بطريركًا، ونال إعجاب الناس، وأعطى الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة الصغيرة، بفضل نشاطه وهمّته، دفعًا جديدًا. 3
زار البطريرك الحالي، أفرام رحماني، ماردين، عدّة مرّات، لكنّ انهماكه بالدراسات المشرقيّة، ومتطلبات واجباته البطريركيّة لم تسمح له البقاء فيها لفترةٍ طويلة. تعويضًا منه عن هذا الغياب، ورغبة منه بإقامة مشروع ما يُعزّي مؤمني ماردين، بنى مقرًّا بطريركيًّا جميلاً، وعيّن المطران جبرايل تبّوني القدير نائبًا بطريركيًّا في ماردين.
استمرّت حيويّة الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة طوال فترة وجوده. أثناء انعقاد سينودس الأساقفة اليعاقبة في دير الزعفران، في كانون الثاني عام 1914، اهتدى أحد الأساقفة العشرة إلى الإيمان الكاثوليكي. لا بل أكثر من ذلك، ففي الفترة نفسها، اهتدى البطريرك المستقيل عبد المسيح، واستُقبل في المقرّ البطريركي ليكون مكان إقامة له، وصله في آذار عام 1914، وكان مجيئه إلى ماردين، كما كان مجيء المطران مالويان في العام 1912، بمثابة انتصارٍ حقيقي. استقبله ممثلو كلّ الجماعات الكاثوليكيّة، عند مدخل المدينة الذي دخلها بموكب احتفالي، على أصوات الأعيرة الناريّة التي كان الشباب يطلقونها من على ظهور أحصنتهم، وهتافات النساء الواقفات على السطوح، على طول الطريق. لا شكّ بأنّ اعتبارات عمليّة وماديّة وسياسيّة وقفت وراء تلك الاهتداءات، والكنيسة الكاثوليكيّة وجدت فيها دعامة لوجودها، تجعل منها كنيسة حيّة وفاعلة أبدًا.
الفصل 4: أيّام المحن غير المتوقّعة
إنّ الحياة الناشطة في هذا المركز الجميل في الإرساليّة تتطلّب أوقاتًا من الراحة في أماكن مناسبة. عند مدخل المدينة، على الجانب الغربي، هناك دير للرهبان السريان الكاثوليك، يُدعى دير القدّيس أفرام، كان مركز للإيمان والتقوى والعلم، وجدنا فيه ملجأً للراحة والاسترخاء، وسط جماعة من الرهبان المثقفين. فعن سطوح هذا الدير، لا شيء يحجب رؤيتنا للمناظر الشاملة. على الجانب الغربي، تمتدّ الوديان الخلاّبة باتّجاه ديار بكر، مساحات شاسعة خضراء تقطعها الصخور الرماديّة. وعلى الشمال، ما وراء الجبل حيث توجد القلعة، تمتدّ بساتين الكروم ومختلف أنواع أشجار الفاكهة: مشمش وخوخ وكرز وتفاح. ومن جهة الجنوب، على بعد بضعة مئات من الأمتار إلى الأسفل، تمتدّ السهول والصحراء التي بلا نهاية، إلاّ عند غسق يوم صاف حيث تلوح حدود جبال سنجار وقممها.
القاصد الرسولي المطران جان دْرور لا بسًا الأبيض وإلى يمينه بطريرك السريان الكاثوليك إفرام رحماني يحوط بهما الإكليروس السرياني أثناء زيارة البطريرك إلى أبرشيّة الموصل في العام 1910. (المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسِيَر، بيروت، 1986، ص. 426)
كان لإرسالية ماردين مكان مناسب تمامًا للراحة، حقل واسع يبعد عن المدينة حوالي عشرين كيلومترًا، يُدعى “أفينير”، يسكنه أحد الأكراد في الصيف، مع عائلته، ويزرع فيه الحبوب والخضروات والفواكه. في الواقع، لا يقصده الآباء بسبب بعده والإزعاج الذي يسبّبه الذهاب إلى هناك، لكنّ القاصد الرسولي إلى بلاد ما بين النهرين، المطران دْرور، أعرب عن رغبته في قضاء بضعة أشهر هناك، وكان ذلك في العام 1913. قام بإصلاح المكان وتجهيزه، على نفقته الخاصة، وأقام فيه بكلّ بساطة، مثله مثل أيّ مرسل آخر، وسط عزلة تامّة، لأنّه كان يعاني من مرض أصاب الدماغ، ويتطلّب الراحة التامّة. ومع نهاية الصيف، عاد المطران إلى الموصل وبغداد، بعد أن استعاد عافيته، وللأسف، لمدّة قصيرة، إذ لم يلبث أن توفي في فرنسا، بعد عامين، من المرض نفسه. بحلول شهر تموز عام 1914، أرسلني الأب الرئيس الجليل إلى ديار بكر، لقضاء عطلة لمدّة بضعة أسابيع، فتوجهت إلى هناك راكبًا على الجواد، مع القافلة. وعلى الرغم من حرارة الجوّ، كانت الرحلة ممتعه، وغالبًا ما كنّا نصادف جداول ماء صغيرة وفّرت لنا هواءً طريًّا ومناظر الخَضار المنعشة. بعد الوقوف في محطتين على الطريق، بانت أمامنا ديار بكر. وفي صباح اليوم الثالث اجتزنا نهر دجلة عبر جسر قديم من صنع الرومان على الأرجح، وبعد سلوك بضعة طرقات متعرّجة بين البازارات والأحياء، وصلتُ أمام الإرساليّة. أُتيح لي، خلال هذا الشهر، التعرّف على النهج المتبع في امتحانات آخر السنة الدراسيّة. بدايةً، مع مدرسة الصبيان، عند آباء الإرساليّة، ثمّ مدرسة الكلدان الكاثوليك، وأخيرًا مدرسة الأرمن الكاثوليك، جميعها تعطي برنامجًا واحدًا للصفوف الابتدائيّة، مع تميّز مستوى اللغة الفرنسيّة عندنا، واللغة العربيّة عند الكلدان، واللغة الأرمنيّة والتركيّة عند الأرمن. وفي مدرسة الراهبات، كان استعمال اللغة الفرنسيّة أفضل من أي مكانٍ آخر، ويعود ذلك إلى مثابرة التلاميذ في التعلّم حتّى عمر متقدّم، فضلاً عن كفاءة المعلّمات. وكانت إحدى الراهبات تدير مشغلًا للأقمشة المخرّمة يُنتج أعمالاً رائعة. وعلى الصعيد الديني، نجحت الراهبات في تشكيل فرقة من التلامذة تميّزت النخبة فيها بشهامة الأخلاق والتقوى العالية. وقبل المغادرة إلى العطلة الصيفيّة، أقاموا رياضة روحيّة لمدّة ثلاثة أيّام.
ساد الهدوء في تلك الأيّام الطويلة من الصيف الحارّ، قطعه زيارة نادرة لأجانب، أحدثت ضجّة كبيرة في المدينة، حين وصل إليها اثنين من الضباط الفرنسيين، يعملان على تدريب الدرك العثماني، وهما: القومندان بيليتييه الذي بقي في ديار بكر، والقومندان تانتوريه الذي توجّه إلى بدليس. في دياربكر، كان يوجد مركز رئيسي للتلغراف، لذلك، كانت الأخبار ترد إلينا بسرعة. علمنا بالاعتداء الذي حصل في سراييفو [اغتيال أرشيدوق النمسا، فرانز فردينان، في 28 حزيران 1914]، من وكالة الأنباء التركيّة أولاً، ومن الصحف الفرنسيّة لاحقًا، لكنّنا لم نُعر له اهتمام يُذكر، كما فعلنا سابقًا مع زيارة بوانكاريه [ريمون بوانكاريه، رئيس مجلس النواب الفرنسي] إلى روسيا. لكنّ المناخ السياسي ما لبث أن ألقى بظلاله على الأجواء العامّة. ومع أنّنا لم نرد التفكير بإمكانيّة قيام حرب مقبلة، لكنّ الظروف داهمتنا، وفي 2 آب، بعد الانتهاء من يوم كامل كُرّس للصلاة، استدعانا ترجمان القنصليّة الفرنسيّة، وأبلغنا بإعلان التعبئة العامّة في فرنسا. فاضطرّ الأب المتواجد في الدير إلى المغادرة برفقة القومندان بيليتييه، وبقيتُ وحدي في مواجهة مواقف غير متوقعة. وكانت السفارة الفرنسيّة في القسطنطينيّة تبرق إلى القنصليّة يوميًّا محتوى بلاغات الحرب الصادرة في فرنسا، وفّرت لنا رأيًا معاكسًا للأنباء الكاذبة التي كانت تبثّها وكالة وولف الألمانيّة، وتنشرها الوكالة التركيّة. وكنّا نُقيم يوميًّا في كنيستنا، بعد القدّاس، صلاة خاصّة لسيّدة لورد والقدّيس ميخائيل، رئيس الملائكة.
في المدينة، شعرنا أنّ الأتراك يستعدّون للحرب، وكذلك الألمان الذين يتواجدون بأعداد وفيرة في الجيش العثماني، يعملون بصفة ضباط مدرّبين، ويضغطون كي ينضمّ الجيش إلى صفوفهم، ولم نكن نعرف نتيجة الأمر.
وفي صباح أحد الأيّام، قبل الفجر، استيقظتُ على ضجيج أحدثته أصوات مختلفة، وصراخ آتي من بعيد. نهضتُ وتطلعتُ إلى الأفق، وإذ بي أرى وهجًا أحمرًا كبيرًا في وسط المدينة: ألسنة لهب ودخان يتصاعد بشكل لولبي، إنّه الحريق. اندفعتُ محاولاً الاستفسار عن سبب الحريق، وتقديم يد العون، والمساعدة الروحيّة إلى الذين هم في خطر، إذا لزم الأمر. ما أن وصلتُ إلى المصرف الواقع على مقربة من مكان الكارثة حتّى قيل لي بأنّ السوق بأكمله تعرّض للحريق، فصعدتُ إلى سطوح الأبنية المجاورة وتيقنتُ من الأمر. وقيل لي أيضًا بأنّه يوجد مضخّات للمياه لكنّها لا تعمل.
نشبت النيران بالمدينة، واستمرّت بالانتشار، وانتقلت ألسنة اللهيب من الدكاكين إلى المنازل المجاورة مهدّدة حيًّا بكامله، هو الحيّ الأرمني بالتحديد. تصدّى الشباب الأرمن بحزم لهذا الخطر المحدق، واضطرّوا للتضحيّة بسلسلة من المنازل، وهدموا سطوح بعضها، وحصروا الكارثة بواسطة حاجز من التراب منع النار من التقدّم. إلاّ أن الرياح كانت قويّة وعرقلت حركتهم وأبطأتها، فكان لا بدّ من إرجاع خط الدفاع إلى الوراء، لإحكام السيطرة.
ساد شعور بالقلق والخوف سكّان المدينة، بخاصّة المسيحيين منهم، طوال فترة النهار. لم نتمكن من معرفة سبب هذه الكارثة، وتساءلنا إذا كانت بداية أعمال القتل والنهب. خيّم علينا الظلام مع توقف ألسنة النيران، ولم يتبقى من البازار المشهور سوى أطلال رماد. وبلغ مقدار الأضرار حوالي مليوني ليرة ذهب. وسرعان ما عرفنا سبب الحريق هذا، وتبيّن لنا بأنّه يعود إلى غيرة سياسيّة دنيئة: بما أنّ حزب الإئتلاف لم ينل مقعدًا له في المجلس البلدي، أراد الانتقام من حزب الاتحاد الرابح، وتصويره أمام الرأي العامّ بأنّه غير قادر على ضبط الأمور. خمد الحريق لكنّ الخشية في النفوس استمرّت. لذلك، قام الشباب الذين عملوا على حصر الحريق باستحداث فرقة من الأمن الذاتي لحراسة الأماكن الهامّة الواقعة في الأحياء المسيحيّة، طوال الليل ولأيّام متواصلة.
وغداة هذا اليوم الأليم، وكنّا لم نزل تحت تأثير تلك الصدمة، وبحلول الساعة الثالثة عصرًا، قمنا بمعاينة كسوفًا كاملاً للشمس، وانتشر اللون الرمادي في الأرجاء، وتلحفت الأرض بالظلام. وفي تلك الأثناء، وصلنا خبر وفاة البابا القدّيس، بيّوس العاشر. لم نستوعب هذا الأمر الذي اختلط مع الأمور المأساويّة الأخرى، لكن سرعان ما تأكّد لنا الخبر. وأمر السفير بتنكيس الأعلام في جميع المراكز التابعة للإرساليّات الفرنسيّة، مشاركة بالحداد، لمدّة ثمانية وأربعين ساعة، كما هو الحال في القنصلية.
وبعد مرور ثلاثة أيّام، مرّ بنا أحد الآباء الدومينيكان آتيًا من سْعرت ومتوجهًا إلى فرنسا، فسنحت لنا الفرصة، بحضوره ومشاركته، إقامة مراسم جنازة احتفاليّة للبابا حضرتها جميع السلطات. جلس في الصفّ الأوّل من الحضور: الأمين العام للولاية ممثلاً الوالي، وفي الجهة المقابلة، ترجمان القنصليّة الفرنسيّة الذي يقوم بعمل القنصل بالإنابة، وقنصل بريطانية، وشخصيات أخرى بارزة في الحكومة، وفي القطاع المصرفي والتجارة. جاء الأحبار اليعاقبة والغريغوريين من تلقاء أنفسهم، وقام المطران تشيليبيان، رئيس أساقفة الأرمن الكاثوليك في المدينة، بخطبة التأبين، باللغة التركيّة، متطرّقًا إلى الأوضاع السياسيّة الراهنة.
وفي منتصف أيلول، عاد إلى ديار بكر أحد الآباء الذين ذهبوا لفترة قصيرة إلى لبنان [هو الأب توما]. وبعد أن أمضينا بضعة أيّام معًا، طُلب منّي الالتحاق بمركز معمورة العزيز، للحلول مكان المرسلين الذين ذهبوا للحرب، والقيام بواجبات المعهد، قدر المستطاع. وعند وصولي إلى هناك، دُهشتُ من مظاهر الهدوء السائدة في المركز وبين السكان، وكانت الحالة نفسها في مركز خربوط. ولم يكن هناك أيّ أمر غير اعتيادي، سوى أخبار الحرب الصادرة عن الوكالة التركيّة والسفارة الفرنسيّة. وأمام غد غير مؤكّدة ملامحه، كان كلّ واحد منّا يقوم بواجبه، كلّ يوم بيومه.
عادت الحياة إلى المعهد في منتصف شهر تشرين الأوّل، ودخل الطلاب إلى الصفوف، المسيحيين والمسلمين، على كثرتهم كما كانوا في السابق، وبدأت الدروس، وسط أنباء الحرب التي كانت تولّد القلق بين التلاميذ والأساتذة، وتخفّف نشاطهم. وبعد وقت قصير، بدأت علامات التحضير للحرب تظهر بين الأتراك، ما أثار القلق في نفوس السكان.
ومع نهاية شهر تشرين الأوّل أُعلنت الحرب الروسيّة التركيةّ، ورغم ذلكن استمرّت الدروس كما هي، ومع حلول اليوم التاسع من تشرين الثاني، صدر أمر يُلزمنا بإيقاف الدروس، فاحتلّت القوّات المعهد على الفور. تأثّر الطلاب بهذا الوداع المخزي، وبكى من بكى منهم أسفًا على ما وصلنا إليه، أكثر من خوفهم مما هو آت.
وفي خربوط، جرى الاحتلال العسكري بطريقة أكثر وحشيّة. فغداة يوم إغلاق المعهد، انطلقتُ إلى خربوط، ممتطيًا جوادي، للاطمئنان عن آبائنا هناك، وإخبارهم بما حصل لنا. وكم كانت دهشتي كبيرة قبل الوصول إلى المركز، عند رؤيتي جماعات المسلمين، حاملين الرايات، وتساءلتُ: من أين أتوا يا تُرى؟ ساورني الشكّ بأنّهم آتون من مركزنا، ولكنّني لم أحسم الأمر. ويا للأسف! تخطّى الواقع الشكّ، إذ ما أن وصلتُ إلى مدخل الدير حتّى رأيتُ الناس في كلّ مكان، والشرطة تفتّش في كلّ زاوية، والرعاع يكسرون وينهبون الأواني والأثاث. على سطح المركز، جلس وفد رسميّ مؤلّف من قائد عسكري وقاض وكتّاب يتمتعون بمشهد التخريب الواقع أمام أعينهم، من دون أن تبت لهم شفاه. فأسرعتُ أُنذر الآباء والقنصل الأميركي الذي أتى شخصيًّا إلى المكان، إلاّ أنّه لم يتمكن القيام بأيّ شيء، سوى ملاحظة ما جرى من تخريب. أمّا المرسَلين الإثنين اللذين كانا في خربوط، فقد لجأوا إلى معهد معمورة العزيز، بعد أن تمّ تجريدهم من كلّ شيء.
بدأ الاحتلال العسكري في المعهد يصبح أكثر صرامة، ولم يتبقى لنا سوى جزءٌ صغير من السكن لنقيم فيه كالسجناء، بين عدد كبير من العسكر يحرسون المخارج متهيبين، واضعين حرابهم في بنادقهم.
تلقينا أمر الترحيل دون سابقة إنذار. وعلى الفور، تمّ تدوين بيان الموجودات من قبل مدير التعليم العامّ. وكان علينا أن نغادر في الحال، ولكن بفضل تدخل القنصل الأميركي، سُمح لنا البقاء بانتظار الآباء القادمين من ملاطية. حال وصولهم توجهنا نحو ديار بكر تحت الحراسة. بقي اثنين من الآباء وأخ واحد، ليسوا فرنسيين، غير واثقين من مصيرهم، ومتكلين على العناية الإلهيّة.
كانت الرحلة صعبة، كما هو متوقّع، لأنّ الحرب مشتعلة وكنّا نُعامل كأسرى حرب، طوال الطريق. وصلنا إلى ديار بكر، ووُضعنا في خانٍ ذو رائحة كريهة، كان قنصل وان وقنصل بدليس الروسيين احتُجزوا فيه سابقًا.
وصلنا مع حلول الليل، ومع بزوغ الفجر، فيما كان البوليس ما زال نائمًا، تمكنتُ خلسة من الوصول إلى الإرساليّة، وهناك حمدتُ الرب لوجود أحد آبائنا هناك، وهو من أهل البلاد، ومعه قنصل فرنسا في وان، السيّد سانفور، احتُجز هنا كأسير حرب. بفضل تدخل الأب، استطعنا الانتقال إلى الدير للراحة قليلاً قبل استئناف الطريق.
في أورفا، سمح لنا الدرك بالتوقّف والذهاب إلى الإرسالية، حيث كان أحد الآباء، من أهل البلاد، ما زال فيها، وكان ذلك عشيّة عيد الحُبل بها بلا دنس، فاحتفلنا به في جوٍّ عائلي. أيّتها العذراء الطاهرة، يا أمّنا، ها إنّ الرعاة يُضربون، والقطيع يتشتت؟ ماذا سيكون مصير الإيمان الكاثوليكي في مراكز الإرساليّة الواقعة في ملاطية وخربوط ومعمورة العزيز ودياربكر وماردين وأورفا؟ ما زال فيهم بعض المرسلين من أهل البلاد، وبعض الكهنة الشرقيين. أوليسوا في فم الذئب؟ يا والدة الراعي الصالح، يا شفيعة الإرساليّة، إليك وإلى حمايتك نوكل الرعاة والرعايا.
وبعد يومين، ركبنا القطار من عرب بينار [عين العرب - كوباني] متجهين إلى حلب. كنّا على وشك استعادة حريّتنا، هكذا خُيّل إلينا، وكنّا نعلم أنّ الأب رئيس الإرساليّة، وأب آخر من أورفا، تمّ ترحيلهما، وهما بانتظارنا في حلب، مع الراهبات الفرنسيّات اللواتي كنّ في ماردين وديار بكر وأورفا. سُمح للراهبات من أهل البلاد فقط بالبقاء. سنغادر قريبًا إلى فرنسا، مع بعضنا البعض… ويا للخيبة! ما أن نزلنا من القطار في محطّة حلب حتّى قامت الشرطة بعزلنا بالكامل، واقتيادنا، تحت حراسة مشدّدة، إلى غرفة في فندق باب الفرَج.
تبخر حلمنا بالحريّة، وصار الأمر أشبه بالسجن. في نفس الفندق كان ينزل القنصلين الروسيين اللذين كانا قبلنا في خان ديار بكر، واقتيدا، في اليوم التالي، إلى القسطنطينية. يسكن الغرفة المجاورة لغرفتنا حوالي عشرة متطوعين ألبانيين، لم تكن جيرتهم لنا لتوحي بالثقة، إذ كانوا من البكتاشيين 4 المتعصبين المسلَّحين على هواهم، والمستفيدين من تمويل لا بأس به، وينعمون بحريّة مطلقة. لحسن الحظ أنّ صاحب الفندق كان مسلمًا حلبيًا، احترمنا وأحسِن معاملتنا، وقدّم لنا كل ما يلزم، ومدّنا ببعض الأخبار عن الوضع في البلاد. الأخبار! مضى فترة طويلة ونحن لا نعلم شيئًا عن مجريات الأحداث، والآن أصبحنا أكثر تقييدًا عما سبق.
ذات مرّة، مرّت فرقة من الخيّالة تحت نوافذنا، واستمرّ الاستعراض مدّة طويلة. فإلى أين تتجه تلك السرايا؟ ومرّةً أخرى، امتلأ الخان الكبير والفقير والقذر، الواقع بجانب الفندق، بعدد من القوّات. من أين أتوا يا تُرى؟ وإلى أين هم ذاهبون؟ غموض كامل. وذات مساء، عند وصول تلك القوّات، بعد يومٍ طويلٍ من السير على الأقدام، سمعنا صرخات من الألم، فتوجهنا إلى شرفة الفندق، ورأينا في باحة الخان عمليّة تنفيذ العقوبات، إذ أُلقي الرجال المحكوم عليهم على الأرض وهم عراة، أمام رفاقهم الواقفين صفًّا واحدًا، وتمّ جلدهم بوحشيّة على ظهورهم وسيقانهم.
أمّا نحن، فكنّا في حالة من الحيرة المقلقة. وذات مساء، حضر أفرادٌ من الدرك، مرّتين متتاليتين، ليخبرونا أن نستعدّ للرحيل غدًا صباحًا، فسألناهم: إلى أين؟ أجابوا: سنخبركم غدًا. وفي اليوم التالي، لم يأتِ أحد لاصطحابنا. وفي إحدى الأيّام، عند الساعة الواحدة بعد الظهر، جاء البوليس، واقتادونا إلى السراي. مشينا مطولاً في طرقات المدينة، محاطين بأفراد من البوليس، فتساءلنا عن السبب وما ينتظرنا هناك؟ وكم كانت دهشتنا كبيرة حين دخلنا إلى السراي، ورأينا في غرفة الحرس رهبانًا آخرين: كرمليين من بغداد، وليعازاريين من دمشق، وحتّى بعض الآباء إخواننا من بيروت.
وبعد طول انتظار، قادونا إلى الباحة الخارجيّة، ووضعونا صفًّا واحدًا، وبدأوا يطرحوا علينا مجموعة من الأسئلة الخاصّة والمفصّلة: الاسم والسنّ والجنسيّة… ولمّا انتهى الأمر، أعلن لنا أمين عام الشؤون السياسيّة بأنّنا أصبحنا سجناء مدنيين، يُسمح لنا باختيار مكان إقامتنا، لكنّه وجب علينا التقدّم يوميًّا إلى دائرة البوليس لإثبات وجودنا.
أخيرًا، أصبح وضعنا أكثر وضوحًا. وعلى الفور، فكرنا في طلب الضيافة لدى آباء الأرض المقدّسة، فوافق البوليس على هذا الطلب، لكنّهم طلبوا منّا العودة إلى غرفنا السابقة، هذه الليلة. فأعادونا إليها كما كانوا قد أخرجونا منها، وتركونا فيها، ومنعوا عنّا الخروج منها. ولم يتغيّر علينا شيء.
مررنا بأيّامٍ أخرى من العزلة نفسها والحيرة نفسها. وفي إحدى الأيّام، زارنا قنصل الولايات المتحدة الأميركيّة، فاعتبرنا الزيارة بارقة أمل. وبالفعل، أخبرنا بحذر أنّ الأب الأقدس يعمل على إطلاق سراح الرهبان الفرنسيين المحجوزين في تركيا. ومع ذلك، عندما أتت الشرطة في إحدى الليالي، كما في الليالي السابقة، تخبرنا أن نكون هلى أهبة الاستعداد للمغادرة غدًا صباحًا، لم نعد نعرف إذا كان علين تصديق الخبر أم لا. وبعد إلحاح منّا، علمنا بأنّ رحلتنا غدًا ستكون باتجاه الجنوب، وليس باتجاه الشمال، نحن ذاهبون إذًا إلى الخلاص.
استيقظنا باكرًا، انتظرنا طويلاً، لكنّ الشرطة لم تأتِ. انقضت ساعاتٍ طويلة دون ظهور أحد. فهل سنُصاب بخيبة أمل أخرى؟ تعبنا من الانتظار، وخشينا أن يفوتنا القطار، وبما أنّه سُمح لنا بالمغادرة، سلكنا طريقنا نحو المحطة. كان الليل قد بدأ، والطريق موحلاً، وفيه حفر ممتلئة بالمياه، فصرنا نتعثر عند كلّ خطوة، والمياه تصل إلى ركبنا، لكنّنا استمرّينا بالمسير، ووصلنا إلى المحطّة حيث كان أفراد الشرطة بانتظارنا. لحق بنا آخرون، وأصبح القطار جاهزًا للمسير. وعلى عجلةٍ من أمرنا، تكدسنا في إحدى عربات القطار كيفما كان. تحرّكت العجلات، وسار القطار، وما زلنا غير مصدقين إن كان الأمر واقعًا أم حلمًا، وإذا كنا غادرنا بالفعل.
لم تكن رحلتنا بلا توقّف، وكان للقطار عدّة محطّات. بعد الظهر، توقف في محطّة حماه. لاحظنا وجود أفراد من الشرطة والدرك على الرصيف، وبأعدادٍ كبيرة. كنّا في حالة حرب، ولم نستغرب هذا الأمر، ولكن ما سلب ألبابنا هو صياح أحد أفراد الشرطة قائلاً: «ها قد وصلتم. ترجّلوا!». وبدون وعي منا بما يحدث، كانت الشرطة تحيطنا، والحراب في البنادق، وما أن جمعونا حتّى رأينا نفس الأشخاص الذين كانوا معنا في سراي حلب، حين قاموا بطرح الأسئلة علينا في باحة السراي، وبسبب السرعة في المغادرة، وحلول الظلام، لم نتعرّف على بعضنا البعض عند الانطلاق.
كنّا حوالي ثلاثين راهبًا ينتمون إلى رهبنات مختلفة، وآتين من مناطق مختلفة. وفيما كانوا يحصوننا ويرتبون صفوفنا، أسرّ إلينا رئيس المحطة، وكان لبنانيًّا ودودًا، بأنّ الأمر وصل من حلب، منذ الصباح، إلى السلطات في حماه، لإرسال القوّات المطلوبة إلى محطّة القطار لاستقبال ثلاثين من أسرى الحرب. إذًا أرادوا استغلالنا، واستثمار وجودنا، فعندما تُعلن البلاغات الحربيّة عن انتصارات، وعن وجود أسرى وغنائم، كان لا بدّ عليهم أن يُظهروهم، ونحن نموذج منهم.
صاح بنا قائد الشرطة قائلاً: «تقدموا!» فمشت المجموعة ببطء نحو وسط المدينة. كانت المسافة كبيرة، والطريق موحل، بعد ظهر هذا اليوم، كما كان الوضع في حلب صباحًا. ها نحن ندخل المدينة، من دون أن يثير وجودنا إلاّ فضول القليل من السكّان، أمّا الغالبيّة منهم فكانت لا تبالي. ولكن، كلّما توغلنا في المدينة، وانتشر خبر وصولنا، زادت الحشود من حولنا، بحيث أنّه، ما أن وصلنا إلى السراي، ووُضعنا في مركز الشرطة، حتّى وقفت مجموعات متراصّة من الناس في الخارج، يُطلقون الإهانات، يهدّدون ويتوعدون، وكنّا نراهم من خلال نوافذ المركز القذرة، واستمرّوا لفترة طويلة.
ما هو مصيرنا؟ نحن لا نعرف شيئًا، ولا الذين يحتجزوننا. أخيرًا، بعد طول انتظار، ومع حلول المساء، قادونا نحو قاعة المحكمة الكبرى، حيث قضينا ليلتنا هناك.
وفي صباح اليوم التالي، ومن دون أن نعرف السبب، تمّ اقتيادنا إلى محطّة القطار. هل سيقلّنا قطار حلب، هذه المرّة، إلى نهاية المطاف في بيروت؟ ركبنا عربة القطار مجدّدًا، وأملنا في الخلاص تشوبه الحيرة. وحالما لاحت حِمص في الأفق، عرفنا مصيرنا: هنا أيضًا، وجب علينا المرور أمام السكّان، واستعمالنا لإيقاظ الحسّ الوطني النائم فيهم. وبعد عدّة مفاوضات، نقلتنا الشرطة للإقامة في شبه فندق، فتذكرنا حلب، وهنا الوضع أسوأ، لأنّ الغرفة قذرة ورطبة وغير صحيّة، وصاحب الفندق رجل دنيء، كما تبيّن لنا بسرعة.
وفي اليوم التالي، بعد الانتهاء من أكل الوجبة اليوميّة، اشتكى كثيرون من إصابتهم بالمغص. وعند المساء، تفاقم الوضع، والبعض منّا عانى من الاستفراغ، فضلاً عن آلام كبيرة استمرّت في الليل واليوم التالي. ما من شكّ أنّنا تعرّضنا للتسمّم.
منذ أن رحلنا عن معمورة العزيز مرورًا بديار بكر، ثمّ أورفا، لم تُسنح لنا الفرصة لإقامة الذبيحة الإلهيّة، وبقينا أسابيع طويلة محرومين منها، وشعرنا بمرارة الحرمان في عيد الميلاد، أكثر من أيّ وقت مضى. حلّ علينا العيد ونحن مسجونون بين جدران غرفتنا القذرة والباردة في الفندق، وما من شيء يعزّينا سوى وضعنا التعيس وآلامنا الذين يقربوننا بالروح من مغارة بيت لحم وفقرها، وهكذا لم نكن أقلّ استحقاقًا بكثير من العائلة المقدّسة.
وبعد بضعة أيّام بدت لنا الأصعب والأطول بين أيّام تلك المغامرة السندباديّة، قامت الشرطة بإعادتنا إلى محطّة القطار الذي نقلنا، أخيرًا، إلى بيروت. كنّا في أوائل عام 1915، وقيل لنا بأنّ هناك سفينة إيطاليّة قادمة قريبًا. هل يمكننا أن نركب فيها؟ وتتوالى البدائل في ذهني: إمّا العودة إلى الوراء، أيّام الترحيل والحبس، أو التهديد بالترحيل مع أمل الإفراج. وأخيرًا، أثمرت مساعي الرؤساء، والله يعلم كم كانت صعبة ومتواصلة، وها نحن نطأ السفينة المذكورة. لكنّنا ذاهبون نحو المجهول، لأنّ هناك في فرنسا حرب دائرة لا نعرف عنها إلاّ القليل، وما خلّفناه وراءنا مجهول المصير أيضًا: ماذا سيحلّ بإرساليتنا العزيزة المسكينة؟
الجـــزء الثـــالث : 1919 - 1921
الفصل 1: ما بعد الحرب
بعد أربعة سنوات من الحرب الضارية، طالبت تركيا المهزومة بالسلام، في 31 تشرين الأول 1918. وسرعان ما طالبت به بلغاريا والنمسا، وانتهى المطاف بألمانيا التي وقّعت الهدنة. وأخيرًا، أتى التسريح من الخدمة العسكريّة ليُعيد المرسَلين، المنتشرين هنا وهناك، إلى مراكز تجمّعهم، في الوقت التي كانت فيه أخبار الإرساليّة في بلاد ما بين النهرين ترد إلى مسامعنا، شيئًا فشيئًا.
كيف أصبح حال الإرساليّة بعد الاضطرابات؟ علمنا بأمر المجازر البشعة التي أبادت المسيحيين، بخاصّة الأرمن منهم. وصلت بعض الأخبار إلى روما عن الآباء من أهل البلاد الذين لازموا مراكزهم، وكانت أخبارًا مقلقة ومحيّرة، سرعان ما تمّ التأكّد منها واستكمالها. لقد مرّ الإعصار المدمّر على مراكز الإرساليّة كلّها، حاصدًا الخراب والحداد على الموتى.
في العام 1915، بعد فترةٍ قليلة من مغادرتنا، حصلت سلسلة محزنة من الاعتقالات والترحيلات والمجازر في ملاطية وخربوط ومعمورة العزيز وديار بكر. استُشهد أساقفة الأرمن الكاثوليك في ملاطية ومعمورة العزيز وديار بكر على نحوٍ رهيب، على رأس مجموعة من كهنتهم وأبناء رعاياهم. سُجن اثنين من آبائنا المرسَلين في معمورة العزيز، وبعد طول اعتقال، تمّ ترحيلهم مع أسقف الأرمن الكاثوليك في المدينة، ليلقوا حتفهم معه، لولا الصدفة التي أنقذتهم في آخر لحظة، إذ لم يكن لهما مكانًا في القافلة، فتمّ تأجيل الترحيل إلى القافلة التالية التي، لحسن الحظ، لم تحصل. بعد فترةٍ، تمّ الإفراج عنهما بكفالة، ووُضعا تحت الإقامة الجبريّة، في إحدى غرف المدينة. بإمكان المرء أن يتخيّل كيف كانت حالتهم في جوٍّ من الحرمان والخوف الدائمين.
شهدت مدينة ماردين اضطهادات شبيهة بالاضطهادات التي تعرّض لها المسيحيّون في القرون الأولى. هكذا تمّ استشهاد المرحَّلين الأوّلين. تشكلت قافلتهم من معظم الكهنة الأرمن الكاثوليك، وعددٍ من الكهنة السريان الكاثوليك، والكلدان الكاثوليك، مع أكثر من مائة وخمسون رجلاً من أعيان المدينة. حالما حان وقت ترحيلهم، اجتمع أسقف الأرمن الكاثوليك، المطران مالويان، مع الكهنة والمؤمنين، وبعد الحصول منه على الحلّة الأخيرة، تناولوا كلّهم القربان المقدّس، ونالوا سرّ مشحة المرضى، وانطلقوا إلى ديار بكر، كما قيل لهم، من دون تردّد، وكانوا يعرفون أنّهم متوجهون إلى الموت. وفي الواقع، في منتصف الطريق ما بين المدينتين، وسط سهل ضيّق وموحش، وعلى حين غرّةٍ منهم، انقضّت جحافل الأكراد على القافلة، كما لو أنّها تحرّكت بناءً على إشارة ما. صرخوا فيهم: “الشهادة [أشهد أن لا إله...] أم الموت”، وذَبحوا الرجال كلّهم، بما أنّهم اختاروا الموت على نكران إيمانهم بيسوع المسيح.
كان في هذه القافلة، أحد المرسلين الممتازين، الأب ليونار البعبداتي الجليل ، اللبناني الجنسيّة. كان لم يزل في مركز الإرساليّة في ماردين، وتمّ طرده من مكان إقامته، فحلّ ضيفًا عند أحد المسيحيين البواسل في المدينة، ومعه القندلفت. وسرعان ما أُلقِيَ القبض على الثلاثة، ووَضعوا لهم الأغلال، وسُجنوا مع اثنين من المعلّمين في مدرستنا، وقد لقوا حتفهم جميعًا، فاستحقّوا، عن جدارة، إكليل الشهادة.
أمّا الآباء الذين لازموا مركز أورفا، فقد عانوا بطريقة أخرى. لم يتمّ ضمّهم إلى المجازر الأولى، بل اتهامهم بتقديم الملجأ في ديرهم إلى أحد المتمردين، هو كاهن المدينة الأرمني الكاثوليكي، عملاً بواجبهم الأخوي، وزُجّوا جميعًا في السجن.
لم يستغرق الأمر طويلاً وتمّ إحالتهم إلى محكمة أضنه، ومن ثمّ بدأت معاناتهم الطويلة، ينقلونهم من سجن إلى سجن، ويضعونهم مع المجرمين، ويعاملونهم أسوأ معاملة، وهم في حالة من القلق الحادّ على مصيرهم المجهول، والسيء على كلّ حال، الذي ينتظرهم في آخر المطاف.
مَرّوا على عينتاب، وكان الأب توما البعبداتي قد بدأ يعاني من مرض الزُحار [إلتهاب الأمعاء الغليظة] نتيجة مشقّات تلك الرحلة. عندما وصل السجناء إلى مَرعش، كانت حالة الأب توما ازدادت سوءًا ولم يعد يحتمل، فلم يكن يعاني من الزُحار بل من التيفوس ، ولم يلبث أن مات متسلّحًا بفضائل رائعة من التقوى والثبات في الإيمان.
تابع الباقون طريقهم إلى أضنه، وهناك بدأت لهم فترة احتجاز طويلة. وبفضل المساعي التي بذلها المطران زوكاتي السامي الاحترام، رئيس أساقفة إزمير، والرئيس السابق للإرساليّة، والذي أقام لفترةٍ طويلة في أورفا، نالوا إطلاق سراحهم بعد عامين من الاحتجاز. وحده الكاهن الأرمني لم يتمّ الإفراج عنه، وأُعدم عشيّة إعلان الهدنة!
وهكذا، استمرّت التفاصيل الدقيقة والوافرة ترد إلينا كلّ يوم، لتؤكّد مخاوفنا، وتُحوّلها إلى وقائع مفجعة. لقد حصلت الترحيلات والقتل والخطف في جميع مراكز الإرساليّة. وما أن سنحت الفرصة، بحلول ربيع 1919، حتّى غادر بعض المرسَلين من فرنسا للعودة إلى تلك المراكز، تبعهم آخرون بعد بضعة أشهر، ويطيب لي القول بأنّ الحكومة شجعت تلك العودة، وقدّمت كلّ الدعم لتلك الإرساليّات المتجددة.
وهكذا، لمّا جاء دورنا، انطلقنا نحن، أربعة رهبان كبّوشيين من إقليم ليون، وعشر راهبات فرنسيسكانيّات لونس لوسونييه، وبامتياز خاصّ قدّرناه، ركبنا البارجة الحربيّة «فالديك روسو» التي حملت الجنرال غورو وهيئة أركانه إلى بيروت. عند إبحارنا من طولون، في وقتٍ متأخر بعد ظهر يوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني العام 1919، لم نتوقّع أن تسوء الأحوال الجويّة، وقبل منتصف الليل، ضربتنا عاصفة، مما أسفر عن وقوع حادثٍ مفجع. انفجر أنبوب المدفأة فجأة، وتصاعد البخار، مما أدّى فورًا إلى مصرع ثلاثة أشخاص، وإصابة آخرين بحروق بالغة. ما أن علمنا بالأمر حتّى ركض أحدنا فورًا، ومنح الحلّة الأخيرة المشروطة إلى هؤلاء البحّارة المساكين الذين لقوا حتفهم للتو، وقدّم بعض التشجيع للمصابين. عادت البارجة إلى سانماندي [؟]، وأنزلت القتلى والمصابين، وأبحرت من جديد. كلّ الشرف لضحايا الواجب المجهولين، وعرفان الجميل إلى خدّام البلد الأبطال!
كانت الألغام لا تزال في البحر، لذلك، وُضعت كاسحات الألغام في مقدّمة البارجة، عند مضيق مَسّينة [بين جزيرة صقلية وشبه الجزيرة الإيطالية]، كإجراءٍ احترازي، فاستطعنا اجتياز المضيق من دون عائق.
كنّا نُقيم الذبيحة الإلهيّة كلّ يوم تقريبًا، وفي يوم الأحد، تمّ تحويل غرفة البطاريات المدفعيّة إلى كنيسة صغيرة، جُهّزت بمذبح، وزُيّنت بالأعلام. حضر الجنرال القدّاس، برفقة معظم الضباط وعددٍ لا بأس به من البحارة، ما أضفى على المناسبة لمسة شرفيّة تميّزت بدقّ الطبول والأبواق عند رفعة الكأس.
كانت البارجة تسير مباشرة نحو الهدف، من دون توقّف أو انعطاف. مرّة واحدة فقط، على مقربة من جزيرة كريت، كُسِرت رتابة الرحلة البحريّة. ولحسن الحظ، تمتّع أفراد الطاقم والركاب بودٍّ لم يعكّر صفوه شيء طوال أيّام الرحلة.
مع وصولنا إلى بيروت، أصبح الطريق أكثر صعوبة. فقد كان الوضع الاقتصادي منخفضًا، والوضع السياسي غير مستقرّ، وغير واضح المعالم. لذلك، وجب علينا تلبية الإجراءات القانونيّة، واتخاذ الاحتياطات اللازمة في هذا الظرف الحرج، وتأمين التموين اللازم لرحلتنا إلى الداخل حيث كلّ شيء ناقص.
ركبنا القطار عبر أنحاء لبنان، وتنعمنا برؤية مشاهد مناقضة للتي رأيناها منذ خمس سنوات، عندما كنّا معتقلين بأيدي الشرطة التركيّة، وسالكين الطريق نفسها التي نسلكها اليوم، لكن في الاتجاه المعاكس، فاحتلّ الجنود الفرنسيّون محلّ الجنود الأتراك. بعد مرور أربع سنوات من الحرب، لم تكن تلك المحن المختلفة التي مررنا بها من دون جدوى، والنصر لم يكن سهلاً.
وقعت مجازر مخيفة بحقّ سكان سوريا الأصليين، وعذابات لا إسم لها. أمّا الآن، هناك شعب جديد بدأ بالنهوض لحياة جديدة، وتأتي فرنسا اليوم، وهي الأم الساهرة والكريمة، لتقوم بالدور نفسه الذي تمليه عليها التقاليد والأفعال التي قامت بها في القرن الماضي. ولهذا الدور ما دونه عقبات. فبالكاد لقيت صورة فرنسا السياسيّة بعض التسامح، طوال الطريق الممتدة من حمص إلى حماه إلى حلب حيث كان الشريفيّون [أتباع الشريف الحسين بن علي الهاشمي] يُقيمون شبه حكومة، من دون وضع شرعي.
من حلب، ركبنا قطار بغداد الحديث الذي قادنا إلى المسلميّة، ثمّ جرابلس حتّى تلّ أبيض، وشاهدنا مراكز الجيش الفرنسي على طول الطريق. وكان المهندسون الألمان الذين أنشأوا هذا الخطّ قد عملوا على محطّات الوقوف بحيث يُمكن تحويلها إلى ملاجئ حصينة في حال تعرّضت إلى هجومات البدو الرحّل. فكان من الطبيعي على قوّات الاحتلال أن تستفيد من تلك المحطّات، وتحويلها إلى مواقع دفاعيّة.
في تلّ أبيض، كانت تُقيم فرقة من السينيغاليين، التقينا فيها اثنين من تلامذتنا في ماردين. كان الأوّل رئيس المحطّة، والثاني عامل تلغراف. وكان من بينهما أحد أبناء معلّم اللغة العربيّة الممتاز الذي خدم في الإرسالية لأكثر من ثلاثين عامًا، والذي تمّ قتله في القافلة التي قُتل فيها الأب ليونار. أمام هذا الواقع، مرّ الليل بسرعة، قضيناه نتبادل الحديث، إذ كانت لدينا أسئلة كثيرة، وهم لديهم الكثير يقولونه لنا.
بعد قسطٍ من النوم، غادرنا عند الصباح راكبين شاحنة عسكريّة، ومستكملين المرحلة الأخيرة من رحلتنا التي ستقودنا إلى أورفا، البعيدة حوالي ستين كيلومترًا، فوصلناها بعد بضع ساعات.
الفصل 2: أيّام حزن ونضال
لم تتغيّر أورفا، من الوهلة الأولى. فما زالت تجلس بجوار ذلك النهر الذي يجعل منها واحة خضراء، تحت أشعّة الشمس الدافئة، لابسة ثوبها الحجريّ الأبيض. ولا تزال المآذن النحيلة ترتفع هنا وهناك، وكأنها تقوم بالحراسة. لكنّ الحرب مرّت من هنا، وحوّلت الحيّ الأرمني إلى خراب.
لم يخضع أرمن أورفا البواسل لأوامر الترحيل، فتحصنوا في حيّهم، وشكّلوا خطًّا دفاعيًّا، مسلّحين مثل غيرهم من سكّان المدينة. حاولت قوّات الدرك اقتحام الحيّ، عدّة مرّات، وباءت محاولاتهم بالفشل. وفي مرّة أو مرّتين، تمكن الدرك من التوغل في الحيّ، نتيجة خيانة أحد الأرمن، لكنّ المحاولة صُدَّت بسرعة. وبما أنّ المقاومة استمرّت، والقوّات المحليّة بدت عاجزة عن تنفيذ أوامر الترحيل والقتل، تمّ استقدام قوّات إضافيّة مجهزة بالمدافع، قصفت الحيّ الأرمني بعد أن قامت بتطويقه، فمات من مات، وقُضي على الناجين والفارّين، ونُفذت أوامر القتل والتدمير.
ما أن تمّ التوقيع على الهدنة حتّى استأنفت إرساليتنا العمل الذي كانت تقوم به قبل الحرب، ولكن بطريقة مختلفة. أولاً، كان علينا التقاط الأطفال المسيحيين المنتشرين في قرى بلاد ما بين النهرين، وهم كلّ ما بقي من أعمال الترحيل والقتل، فالتزمنا المهمّة
صبيان وبنات الميتم في أورفا، في العام 1919،يحوطون الأب جْواشان دوليون وراهبات لونس لوسونييه
(Le Petit Messager, N° 269, février 1920, p. 38)
بالاتفاق مع قوّات الاحتلال، وقمنا بفتح دار أيتام للصبيان، والراهبات فتحن دارًا أخرى للبنات. وكنّا نستقبل كلّ يوم البعض من هؤلاء الأطفال المساكين الذين استولى عليهم الأتراك في المدينة، أو الأكراد والعرب في الصحاري، وقد تمكنوا من الفرار.
لم تتأخر المدارس في فتح أبوابها، وبعض العائلات المسيحيّة من العودة إلى بيوتها الباقية، واستئناف عملها، بعد أن عادت الثقة إليها. وكذلك الأمر في الكنيسة، حيث عادت الحياة الكاثوليكيّة إليها. ففي الآحاد، وأحيانًا في أيّام الأسبوع، كانت الكنيسة الصغيرة الصامدة تمتلئ بالأطفال والمؤمنين والعسكريين، مستعيدة غايتها المقدّسة، بعد أشهر طويلة قضتها في الصمت المطبق. وبعد أيّام من وصولنا، حلّ عيد الميلاد، فكان له رونق خاصّ على غير عادة، إذ كان يُشير إلى ميلاد إرساليتنا الجديدة، مع الأطفال الذين جمعناهم، هؤلاء اليتامى الأحبّاء الذين شكّلوا وعدًا بمستقبل وحياة أفضل.
عمل المرسلون في معمورة العزيز، كما في أورفا، وجمعوا الأطفال المتروكين والمشرّدين في المياتم، فيما كانت العائلات الناجية من الاضطرابات تلمّ شملها، وتجد لها مكانًا تسكن فيه في محيط الإرساليّة. وكانت خطط العمل جارية، بفضل الغيرة الرسوليّة، للقيام بالمشاريع ذاتها في المراكز الأخرى، بخاصّة في ديار بكر وماردين.
لكنّ عاصفة جديدة من الاضطرابات بدت في الأفق، مهدّدة بالقضاء على بذور الحياة تلك، في هذا التجدّد الربيعي، دفعة واحدة. ففي منتصف كانون الثاني عام 1920، قام الكولونيل نورمان بمهمّة أوصلته إلى ماردين، من دون أي عائق، لكنّه لم يتمكن من الوصول إلى ديار بكر كما كان يريد. بقي قائد الدرك التركي الذي كان يرافقه في أورفا، في حين غادر هو إلى أضنه. وفي أواخر شهر كانون الثاني، أخبرنا الكابتن بيرو، قائد وحدة المشاة 412، بأنّ الكولونيل تيبو غادر مع كتيبته نحو مرعش لمعاقبة القرى الآثمة. أمّا في أورفا، كانت الأمور تسير على ما يرام، وفجأة أصبح الوضع حرجًا. ففي يوم الأحد الواقع فيه 8 شباط، صرّح لنا الكومندان هوجيه بأنّ القبائل المتمرّدة أرسلت تحذيرًا يهدّد الحامية العسكريّة، وأنّ الحاكم، الكابتن ساجو، لا يزال يأمل بالتفاوض مع المتمرّدين، وهو مستعدّ لتقديم ملجأً محروسًا إلى الآباء والراهبات والأيتام، كإجراء احتياطي. لم يقبل الأب الرئيس الدعوة، كي لا يشكّل عدد اللاجئين الكبير عبئًا على القوّات، فأوكل أمره إلى العناية الإلهيّة، وأرسل إلى الحاكم أحد الآباء ليكون مرشدًا للعسكر، وثلاث راهبات ممرّضات، فتمّ استقبالهم بطيبة خاطر، وبدأوا فورًا عملهم.
ماذا سيحلّ بنا؟ ما كان علينا سوى الانتظار، والأمل بأن لا يحدث شيئًا مزعجًا. مرَّ الأحد بسلام، وصباح يوم الاثنين دخلت عصابات مسلّحة المدينة، من الجهة الجنوبيّة الشرقيّة حيث يقع حيّنا، في الجانب المقابل للثكنات الواقعة في الجهة الشماليّة الغربيّة، وبدأت تصيح بأعلى صوتها. اعتقدنا أنّه مجرّد استعراض عنتريّ عابر، وما أن مرّت ساعتين حتّى بدأ إطلاق النار، وتعرّضت خطوط الدفاع الأماميّة للهجوم، بالتزامن مع الهجوم على الثكنات في وسط المدينة، ومع الثلوج التي تساقطت، وهو أمر نادر الحصول في أورفا.
تملّك الذعر من نفوس المسيحيين، وخافوا من حصول مجازر جديدة، وفرّوا هاربين إلى الإرسالية، ظنًا منهم إنّها ملاذهم الآمن. عبثًا حاول الأب الرئيس طمأنتهم قائلاً بأنّ هجوم الثوار يستهدف الجنود الفرنسيين وليس السكّان من أهل البلاد. امتلأ المركز بالرجال والنساء والأطفال، طوال النهار، وما أن أدركوا أنّه اشتباك عابر وليس مجزرة بحدّ ذاتها حتّى بدأوا يعودون إلى بيوتهم، واحدًا تلو الآخر.
بعد مرور أسبوع، حصلت اشتباكات جديدة، في الليل كما في النهار، تخلّـلها فترات قصيرة من الراحة: هجوم على الثكنات، تراشق بين الطرفين، إطلاق أعيرة ناريّة من هنا وهناك. ما عدا ذلك، كانت الحياة في المدينة تسير في مسارها الطبيعي، باستثناء الأوقات التي يُكثف فيها الهجوم، مما يضطر القوّات لأن تحشد المزيد للتصدّي لهم. ومن وقتٍ لآخر، يصل متطوعون جدد، اقتيدوا بالقوّة، صغارًا وكبارًا، ينضمون إلى الثوار كيفما كان، مزوّدين بنادق حربيّة شبه جديدة.
كان الجنود الفرنسيون يدافعون بشكلٍ رائع، بالرغم من طول خطّ الدفاع الذي يشمل، ليس فقط الثكنات، بل قسمًا واسعًا من الحيّ الأرمني الجديد.
تستّر المتمرّدون على ما تكبّدوه من خسائر، وتعجبوا كيف أنّهم لم يصلوا إلى أيّ نتيجة. وكان قائد الدرك التركي نفسه الذي بقي في أورفا بعد مغادرة الكولونيل نورمان، هو مَن يقود الثوار تحت اسم حركي: إنّه هو الذي أعدّ للثورة، وها هو الآن يقودها.
بعد مرور بضعة أيام، تمكن الأتراك من احتلال موقع متقدم، ووقع سبعة أو ثمانية جنود أسرى بين أيديهم، لكنّ الوضع بقي على ما هو عليه.
وفي إحدى الأيّام، سمعنا دويّ مدافع، حيث نُصب في المدينة مدفعين إلمانيين جيء بهما من ديار بكر، ما أثار فينا المخاوف على الحامية العسكريّة، إذ بدا لنا أنّ تلك المدافع القصيرة المدى ستحوّل القوّات والثكنات إلى حطام. ومع ذلك، بقيَّ الحال على ما هو عليه لدى الجانبين.
وأخيرًا، بعد مرور شهر، يوم 8 آذار، سمعنا صوت محرّك يهدر في الأجواء. أحقًا؟ بلى، إنّها طائرة فرنسيّة قادمة من الجنوب، من تل أبيض. وما أن أصبحت فوق المدينة حتّى سمعنا رشقات من الأعيرة الناريّة تُطلق عليها من البنادق وحتّى المسدسات، من سطوح الأبنية وجميع المواقع في المدينة. كانت تحلّق عاليًا جدًا، ولدى وصولها فوق الثكنات انخفضت قليلا، ودارت حولها مرّتين أو ثلاث مرّات، ثمّ أسقطت رسالة وعادت نحو جرابلس.
بعد بضعة أيّام، قيل لنا بأنّ رتل من الشاحنات العسكريّة وصلت إلى تل أبيض، فاعتقدنا بأنّ الضربة القاضية أصبحت وشيكة. ولكن لم يجر أيّ تحرّك. وبعد مرور ثمانية أيّام من الترقب، ظهرت طائرة أخرى فوق الثكنات، وغادرت على الفور، ثمّ… لا شيء.
انتهى شهر آذار، وذاب الثلج، وعاد طائر اللقلق مع قدوم الربيع، غير آبه بالرشقات الناريّة. ويوم الجمعة العظيمة، قام الثوّار بهجوم شرس مهّدوا له بطلقات وفيرة من المدفعيّة. أرادوه هجومًا نهائيًّا قاضيًا، لكن لا شيء تغيّر، إلاّ أنّ الحلّ بدا لنا قريبًا. وفي 9 نيسان، أُخبرنا عن وجود ضباط فرنسيين في سراي المدينة، وانتشرت الشائعات حول استسلام الجنود الفرنسيين ومغادرتهم المدينة. تأكدنا من الأمر في مساء هذا اليوم، حين وصل إلى الإرساليّة الأب المرشد والراهبات الممرضات، سالمين ومعافين. الشائعة صحيحة، والقوّات الفرنسيّة ستغادر المدينة.
بعد حصارٍ ومعارك دامت قرابة الشهرين، كان الرجال ما يزالون بحالة جيّدة، ومعنويات مرتفعة، على الرغم من التعب والحرمان، إلاّ أنّ المؤونة أشرفت على الانتهاء، إذ كان يجب إطعام عدد كبير من السكان، بالإضافة إلى الجنود. لم يُجد تقنين الطعام نفعًا، فتمّ ذبح البغال، واستبدال خبز القمح بخبز الأرز، وحتّى الماء لم يكن متوفرًا. لم يُعلم القادة العسكريين المتمردين بهذا الوضع، يبدو أنّهم استجابوا للدعوات المتكرّرة التي دعتهم لإخلاء المكان للكفّ عن إراقة دماء لا جدوى لها. تمّ قبول شروط المتمردين من دون صعوبة وهي: تتعهّد القوّات الفرنسيّة مغادرة المدينة، مع الأمتعة والسلاح، إلى المركز العسكري الفرنسي الأقرب في عرب بونار [عين العرب - كوباني]، ويتعهّد الثوّار عدمّ المسّ بالسكان، وتأمين خمسين جملاً يستعملها الجنود للنقل. بقي طلب واحد لم يتمّ الموافقة عليه من قبل الثوّار، وهو اصطحاب عشرة من أعيان المدينة، وإعادتهم إليها حال وصول العسكر إلى عين العرب، لكنّ الفرنسيّون لم يصرّوا عليه. ومن ثمّ تمّ توقيع هذه الاتفاقيّة من كلا الجانبين، وسُلّمت نسخة منها إلى المسؤولين في الإرساليّة الأميركيّة.
ومساء اليوم السبت 10 نيسان، جاء بعض المسيحيين سرًا ينقلون لنا خبرًا عن إعداد الأتراك لهجوم على الفرنسيين المغادرين، وقد لاحظوا بعض التحرّكات عندهم. لم نُرد أن نصدّق الخبر، ومن جهةٍ أخرى، من المستحيل التواصل مع القوّات التي غادرت بالفعل.
غادر الجنود الفرنسيّون المدينة متوجهين إلى عين العرب، ليل الأحد 11 نيسان. ومع بزوغ الفجر، وصلوا إلى ممرّ طويل على بعد عشرين كيلومترًا من أورفا. بدأوا يسلكون الممرّ، وما أن وصلوا إلى منتصف الطريق حتّى لاحظ حرّاس الأجنحة وجود أفراد مشتبه فيهم. لم يلفتوا انتباههم في أوّل الأمر، لكن سرعان ما بدأت مجموعات بالظهور يتكاثر عددها لحظة بعد لحظة. شرع حرّاس الأجنحة في دقّ ناقوس الخطر، وبدأوا بالتراجع، وفجأة انطلقت الأعيرة الناريّة، وبلمحة بصر غطّت عصابات قطّاع الطرق القمم المحيطة.
كان الجنود الفرنسيّون قد تشكّلوا على شكل مربّع ضيّق، وقاوموا الهجوم لمدّة خمس ساعات متواصلة. وكانت أعداد اللصوص أكبر من الجنود الفرنسيين بحوالي عشرين أو ثلاثين مرّة، ووضع الجنود في الممرّ غير مؤات لهم، ورغم ذلك، تميّز دفاعهم بالشراسة والتنظيم والبطولة.
جيء بالمدافع والرجال من المدينة، وانضمّ إليهم الرجال من القرى المجاورة، مشاة وخيّالة. تزايد عدد القتلى الفرنسيين الذين خسروا مئة جندي من بين الأربعمائة، وشعر القائد أنّ مقاومة رجاله لا فائدة منها، فقرّر الاستسلام، مراعاة لحياة الباقين، ورفع الراية البيضاء، وبدأت المفاوضات مع المعتدين. فُرض على الضباط والجنود إلقاء السلاح، ولم يكن الأمر كافيًا لقطّاع الطرق، فطالبوا أيضًا بكامل ملابسهم وأحذيتهم، وبدأوا يتهافتون لانتزاعها من الجنود. استاء القائد من هذه الطريقة في المعاملة، وأراد الاعتراض عليها، لكنّ زعيم العصابة ضربه ضربة مميتة، أرفقها بصيحة همجيّة كانت علامة البدء بالمجزرة. بما أنّ الجنود تخلّوا عن كلّ شيء، ولم يعد بحوزتهم شيء يُذكر، لا لزوم للإبقاء عليهم، وصار جنود الفرقة الصغيرة يفرّون كيفما كان، من دون سلاح ولا ثياب، واللصوص يستمتعون بملاحقتهم. ولم يبق منهم على قيد الحياة إلاّ نفر قليل. في المدينة، لم نشعر بشيء من هذه الأحداث المأساويّة. ساد المدينة صمت مطبق، اعتقدناه ناتجًا عن رحيل الحامية العسكريّة. لكنّ المدينة استعادت حركتها بعد الظهر، فجأة، مع عودة الرجال محمّلين بالغنائم، تهتف لهم النساء الواقفات على السطوح بأصواتهم الصارّة والزغاريد. تساءلنا ما هذا؟ قيل لنا بأنّ الجنود الفرنسيين المغادرين المدينة وقعوا في الفخ، وهوجموا، وقُتلوا كلّهم. لم نكن نصدّق الأمر، كلاّ، هذا مستحيل. ويا للأسف، لقد تجرّأوا وأتوا يعرضون علينا، هؤلاء الحقيرين، شراء الدفاتر وآلات التصوير والمحفظات وغيرها من أغراض الجنود المنهوبة. حينها تأكّدنا من حصول الكارثة، وقمنا بطرد تجّار الشؤم هؤلاء. إنّ الضباط والجنود الذين كانوا البارحة أسيادًا هنا، قُتلوا بلحظة خيانة، في فخّ مرعب نُصب لهم، بعد أن قاوموا لأسابيع طويلة، ودافعوا عن مراكزهم ببطولة نادرة.
وفي اليوم التالي، علمنا أنّه أُلقي القبض على بعض الفارّين من الجنود التائهين في البراري، واقتيدوا إلى المدينة. وعلمنا أيضًا أنّهم وضعوا رأس القائد على رمح، وتجوّلوا بها في أرجاء المدينة. وبعد بضعة أيّام سمعنا صوت طائرة، فشعر السكان بالخوف الشديد، وهم عالمون بالجريمة المرتكبة، ولم يشكّ أحد بأنّ هذه الطائرة جاءت فقط لمعاقبة المدينة الماكرة بالقصف، لذا تمكن الذعر والخوف منهم، إلاّ إنّها حلّـقت فوق المنطقة والجبال عدّة مرات، ثمّ غادرت على مضض، وكأنّها تتحسَّر.
ومرّت الأيام، وفي يوم أحد، حضر عشرة سجناء تحت حراسة مشدّدة للمشاركة بالقدّاس، يتكوّنون من ملازم ومساعد وعدد من الرقباء والجنود، يرتدون ملابس مدنيّة مختلفة منحتهم أيّاها الإرساليّة الأميركيّة، بعد أن طلبوا الحضور إلى الكنيسة، واستُجيب طلبهم. وقد سمح لهم الحرّاس التحدّث إلينا قليلاً، فأخبرونا عمّا حدث، وكيف تعّرضوا للهجوم، وأُبيد الرتل، وكيف نجوا من المجزرة، وهربوا عراة تحت وابل من الرصاص، فيما كان الباقون يُلقى القبض عليهم أو يُقتلون. كانوا يمشون في الليل، ويختبئون في النهار، لمدّة ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ، من دون طعام أو مأوى، يحاولون الوصول إلى عين العرب. وفي اليوم الرابع، خارت قوى أحدهم كان مُصابًا بطلق ناريّ في رجله. ما العمل؟ التخلّي عن الرفيق ومواصلة الطريق أو حمله إلى القرويين ليقوموا بمعالجته؟ لم يتردّدوا في الذهاب إلى أقرب قرية، فكانت سروج، وهم لا يعلمون. دخلوا أحد المنازل وقالوا: «خذونا إلى أقرب مركز فرنسي، ونحن نعدكم بإعطائكم المبلغ الذي تطلبونه». عُرض عليهم الجلوس، وألبسوهم قمصانًا ذات أكمام طويلة، وقدّموا لهم الطعام، فيما كانوا يُعلمون الدرك الأتراك بوجودهم. وبدل أن يقودوهم إلى المركز الفرنسي، أُلقي القبض عليهم وجيء بهم إلى أورفا، سيرًا على الأقدام.
في الطريق، لم يستطع الجندي المصاب مواصلة السير، ولم يكن باستطاعة رفاقه مساعدته، ولا ضربات الكرباج إيقافه على رجليه، فبقي مكانه برفقة أحد الحرّاس فيما أكمل الباقون طريقهم، وما هي إلاّ لحظات حتّى عاجله الدركي بطلقة ناريّة أودت بحياته.
أتى السجناء إلى الإرساليّة للمشاركة في قدّاس يوم الأحد مرّتين أو ثلاث مرّات، وبعد فترةٍ وجيزة، تمّ اقتيادهم إلى ديار بكر، ثمّ إلى معمورة العزيز. 5
الفصل 3: الترحيل
مرّت الأيّام وكانت الحياة في الإرساليّة كما كانت عليها أثناء الحصار. يبدو أنّ الكماليين [أتباع كمال أتاتورك] لم يعيرونا أيّ اهتمام، في ظلّ مصير الثورة غير المعروف بعد. ومن جهتنا، حاولنا ألاّ نكون محطّ أنظار أحد، فحياتنا كانت دائرة حول رعاية الأيتام، والعمل بالمدرسة التي استأنفت نشاطها بعد الأحداث الأخيرة، والخدمة الكنسيّة، كما كنّا من قبل.
كنا نترقّب، نحن والسكّان، تدخّل حاسم ينهي هذه الاضطرابات. وفي أيار، قدم رتل عسكري بقيادة الكولونيل دوبيوفر إلى عين العرب، فاحتلّ سروج، وسار نحو أورفا.
في المدينة، رأينا استعدادات غير عاديّة، فكلّ الرجال الأصحاء توجهوا إلى المعركة، وتمركزوا قبال الرتل، وبدأنا نسمع دويّ المدافع الفرنسيّة. أحان وقت الانتقام والتعويض العادل عن المجازر؟
بعد اجتيازهم مكان المجزرة التي تعرّضت لها الحامية العسكريّة من قبل، تواجه الرتل مع أتراك أورفا الذين هرعوا لقطع الطريق عليه. تسارعت أحداث المعركة، ولم يكن الأتراك، هذه المرّة، أمام رجال عُزّل، لذلك ذاقوا هزيمة دمويّة وضعتهم تحت رحمة الجنود الفرنسيين. سارع متصرّف المدينة يقدّم فعل الاستسلام إلى الفرنسيين بدون أيّ شرط سوى إعفاء المدينة من القصف، وأصبح الفرَج قريبًا. ويا للأسف! علمنا في اليوم التالي أنّ الرتل انسحب من المكان بالسرعة نفسها التي أتى إليه، وذلك قبل وصول المتصرّف، بسبب الأحداث الجارية في عينتاب، إذ تلقّى الأوامر للذهاب إلى هناك، فأوقف التقدّم أكثر نحو المدينة. ومرّة جديدة، سُدَّت أمامنا الآفاق، وساد جوّ كئيب مزعج لنا، استمرّ طوال أيّام الصيف والخريف الطويلة.
في تلك الأثناء، غدت أورفا مكانًا رئيسًا لتجميع أسلحة الكماليين. وغالبًا ما كانت تمرّ فيها القوّات، أو تجعل منها مكانًا للتدريب. وفي بعض الأيّام كنّا نشاهد، من خلال النوافذ، مناورات كبيرة يقوم بها مجندون التحقوا حديثًا. كان القتال لا يزال دائرًا على جبهة قيليقية، في شمال سوريا. متى تنتهي حالة الحرب والإرهاب تلك؟
في أحد الأيّام، خلال شهر كانون الثاني عام 1921، صعد المؤذنون فجأة إلى المآذن، وبدأوا يتلون المراثي الحزينة طوال ساعات، تخلّلها أدعية غاضبة، وابتهالات شاكية إلى الله، تنتقل من مأذنة إلى أخرى، مثل موج البحر، فتعلو وترتطم بعضها بعضًا محدثة فرقعة صاخبة، وتنخفض وتتمتم، وما تلبث أن تعود جهوريّة قويّة مرةً أخرى.
ارتفعت مئات الأصوات باسم الشعب كلّه، تسأل الله النصر للمؤمنين، والدمار للكفّار. وقد علمنا السبب بعد لحظات، حيث أنّه، في ساعات إقامتهم للصلاة، كان الكماليّون يشنّون هجومًا عامًّا على الفرنسيين، في عينتاب، والنتيجة ميؤوسة منها.
أمّا نحن، فقد استمرّت حياتنا هادئة ومعزولة. وبحلول يوم الأحد الموافق 23 كانون الثاني، أقمنا القدّاس كالمعتاد، وشاركت فيه رعيّتنا الصغيرة المعهودة. وبعد العشاء، فيما كنّا نمشي على السطح بهدوء، ظهر أمامنا دركيّ فجأة، ثمّ اثنين ثمّ ثلاثة وآخرون يطلّون من على سطوح المنازل المجاورة، وقائد الدرك واقفًا في باحة الدير يطلب مقابلة الأب الرئيس. ماذا يحدث هنا؟ سرعان ما علمنا بالأمر: أصبحنا معتقلين، وعليهم ترحيلنا خلال أربعة وعشرون ساعة إلى جهة غير معلومة. وفي نفس الوقت، كان أفراد الشرطة يتمركزون عند الأبواب الداخليّة والخارجيّة، مما لا يدع مجالاً للشكّ، نحن معتقلين بالفعل. وكان عندنا نساءٌ وأطفالٌ جاؤوا لزيارة القربان الأقدس، فتمّ توقيفهم، ولم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم إلاّ عند المساء، بعد مساع عديدة. وعند الراهبات، تكرّر المشهد نفسه. وفي الليل، كانت عناصر الشرطة تدخل غرف المرسَلين، ساعة بعد ساعة، للتأكّد من أنّنا لا زلنا في أماكننا، ولتعدادنا.
وفي اليوم التالي، اصطحبوا الأب الرئيس إلى السرايا، تحت الحراسة، وطلبوا منه التوقيع على جردة مزعومة لمحتويات مسكن الآباء ومسكن الراهبات، ولكنّه رفض التوقيع رفضًا قاطعًا. حينها جاء أمر الترحيل فورًا، وبشكل عنيف، فطلب مهلة معقولة للاستعداد، والسماح لبعض الراهبات المسنّات المرضى البقاء، لأنهنّ لن يتمكنّ من القيام برحلة طويلة وشاقّة، فأحضروا طبيبًا لفحصهنّ، ووصف لهنّ أدوية حتى يتمكنّ من تحمّل السفر. وكنّا في ساعة متأخرة، فلم يجرِ الترحيل يومها، وأبقونا إلى اليوم التالي، حيث سمحوا لنا الاحتفال بقدّاس أخير، قبل بزوغ الفجر، واستهلاك القربان المقدّس الباقي عندنا، والدموع تملأ عيون أحدنا. حضرت الشرطة والدرك مع شروق الشمس، وسمحوا لكل فردٍ منّا بحمل قليلاً من البياضات الداخليّة، ورغم ذلك، تمّ تفتيش كلّ واحد منّا على انفراد، بطريقة لا تخلو من قلّة الاحترام، قبل ركوبنا العربة.
وبعد قليل، انطلقنا بحراسة الدرك متّجهين إلى الشمال الشرقي، وسط صيحات الاستهجان التي كان يُطلقها عامّة الناس. وداعًا يا إرساليّة أورفا الغالية! ماذا سيحلّ بكِ؟ وماذا سيحلّ بالأيتام واليتيمات الذين وجدوا الملاذ بكِ؟ رفض الدرك بعناد البوح عن مصيرهم، إلاّ أنّنا علمنا إنّهم قد سَلموهم إلى الإرسالية الأميركيّة.
وفي المحطّة الأولى، وكنّا لا نزال نجهل وجهتنا، اعتقدنا بأنّ ساعتنا الأخيرة قد حانت، وتساءلنا لماذا التوقف هنا، في هذه المزرعة المعزولة والبعيدة عن المحطة المعهودة، حيث يوجد مستودع من البنادق المكدسة أمام أعيننا. لكنّ الليلة مرّت بهدوء، وأكملنا الطريق في صباح اليوم التالي. قضينا ليلتنا الثانية في قرية “كارادجيرون”. وفي “سيفيريك”، غداة اليوم التالي، كان الأمر فظيعًا. ما أن دخلنا تلك البلدة الصغيرة حتّى وجدنا أنفسنا بين السكان، يبادلونا الصيحات والتشبيح، وبصعوبة كبيرة فصلتنا الشرطة عنهم، واقتادونا نحو باحة خان قديم، ووقف الرجال والنساء والأطفال على السطوح، يواصلون ما بدأوه قبلاً، إلى حدّ رمينا بالحجارة والتراب والبصق علينا. وأخيرًا، قام الدرك بإبعاد هؤلاء الناس، من دون استعجال منهم.
بقيت لنا محطّة واحدة قبل الوصول إلى ديار بكر، المكان المحدّد من سلطات الحكومة في أورفا التي تكفلت بمصاريف السفر، حتّى الآن. ولكنّ الأوامر الصادرة كانت بأن نذهب إلى أبعد من هنا.
احتجزتنا سلطات ديار بكر في خان، تحت حراسة الدرك، وأعلمتنا بأنّه يتوجّب علينا الذهاب إلى نِيغْدة [مدينة وسط الأناضول]، وهذه المرّة، علينا نحن تحمّل نفقات السفر. ولكن، أين تقع هذه المدينة؟ وحتّى عشيّة الذهاب، كان اسم هذه المدينة مجهول لدينا، فقيل لنا بأنّه يجبّ المرور أولّاً بمعمورة العزيز، ولكن كيف الذهاب إلى هناك؟
قام الأب الرئيس الجليل بمساع طويلة وشاقّة لدى السلطات التي أعطت الإذن لرئيسة الإرساليّة الأميركيّة للوقوف على وضعنا، فأتت لزيارتنا وزودتنا بكلّ طيبة خاطر بما يلزم للذهاب نحو معمورة العزيز، وبالاتكال على آباء الإرساليّة هناك، سوف نسدّد تكاليف الرحلة.
وصلنا إلى معمورة العزيز، ووضعنا الدرك المرافق في باحة الخان، وذهب واحد منهم إلى مقرّ الشرطة في المدينة لاستلام الأوامر. اقترب اليوم من نهايته، والمناخ هنا مختلف عن مناخ أورفا: هناك الشمس والجوّ الدافئ، وهنا النسيم البارد، واضطُررنا الانتظار ساعات طوال في هذه الباحة الباردة جدًّا. أخيرًا، عاد الدركي، ووُضعنا كلّنا في غرفة واحدة، وكانت إحدى الراهبات تتذمّر من حالة الصقيع، وبدأت عليها عوارض البرودة.
كانت ليلة مؤلمة جدًا. لم يكن بمقدورنا معرفة أيّ شيء عن آبائنا في المدينة، وتركنا الأمل يصطحبنا للغد. ومع طلوع الفجر، سمعنا فجأة ضربات قويّة وغليظة على بابنا أحدثت هزّة كبيرة في الغرفة: فتحنا الباب، وكانت الشرطة أمامنا تأمرنا بالمغادرة فورًا إلى ملاطية. اعترضنا قائلين لهم بأنّ معنا أخت مريضة، فكان ردّهم: خذوا العربات. أخبرناهم بأنّنا لا نملك أي نقود، فقالوا: اذهبو إذًا سيرًا على الأقدام!
عبثًا حاول الأب الرئيس مقابلة السلطات، لكنّ الدرك غضبوا وهدّدوا بتنفيذ الأوامر بقوّة السوط. وبدأت الراهبات في البكاء، كيف لهنّ السير على أقدامهنّ طوال تلك الرحلة، وأغلبهنّ مرضى، وقد يتعرضنّ للموت، وجلسنّ على ركبهنّ في زاوية من الغرفة يصلّين للربّ. في نهاية المطاف، انصاع أحد أفراد الدرك لطلب الأب الرئيس، وقاده إلى القائد، فيما كانت الرهبات تصلّي باستمرار. عاد الأب الرئيس بعد أن تمكّن من الحصول على مهلة إضافيّة أفرجتنا، على قصرها، وأملنا الحصول على مهلة أطول.
علم سكان المدينة بوصولنا، فحاول المسيحيّون القليلون الباقون فيها الوصول إلينا. وهكذا، استطاعت إحدى المسيحيّات الأتقياء من الإرساليّة، وكانت خادمة متواضعة، من الوصول إلينا وإعطائنا بسرعة المعلومات التي كنّا نودّ معرفتها: لم يعد أبائنا في معمورة العزيز، فقد أُخرجوا من المعهد كي يضعوا فيه المساجين الفرنسيين الذين نجوا من مجزرة أورفا، وهم الآن في خربوط، في غرفة استأجروها، يساعدهم الأميركيّون على معيشتهم مع اليتامى الذين معهم. لم تتمكن المرأة المكوث طويلاً، فحمّلناها رسالة إلى الأميركيين، وبقينا نصلّي منتظرين العون من الربّ.
عادت السيّدة في وقتٍ لاحق حاملة المؤن والحلويات المرسلة من الأميركيين، فليباركهم الربّ، وأعلمتنا بأنّ رئيس الإرساليّة الأميركيّة سيأتي إلينا بنفسه. مرّت ساعاتٍ طويلة ونحن ننتظر قدومه، ولم نكن نريد رؤية هذا الانتظار الطويل سوى علامة فأل لنا.
أخيرًا، وصل المدير بالفعل. قال إنّه لم يتمكّن من المجيء أبكر من ذلك، لأنّ الحصول على الإذن كان صعبًا. بعد أن أعلمناه عن وضعنا، لم يبق طويلاً معنا، وغادر مسرعًا للقيام بما يلزم على الفور. حصل أوّلاً على ما هو أكثر إلحاحًا: وهو تمديد موعد الرحيل بضع ساعاتٍ أخرى، بل أكثر من ذلك، حصوله على الإذن لزيارة لنا، يقوم بها الأب روفائيل، رئيس الآباء المبعدين إلى خربوط، الذي وصل بعد الظهر، فقضينا معًا أوقاتًا سعيدة، ولو كانت قصيرة جدًا.
في اليوم التالي، وبفضل العناية الصحيّة التي قدّمها الأميركيّون لنا، إضافة إلى عطاياهم الكريمة، أصبح لدينا العربات والمؤونة، واستأنفنا في الصباح طريقنا إلى ملاطية. كان المناخ لا يزال معتدلاً، لكنّ الرحلة بقيت متعبة بالنسبة إلى الأخت الراهبة المريضة، وغيرها أيضًا. وفي اليوم التالي، مررنا فوق جسر على نهر الفرات كان في حالة جيّدة نوعًا ما. عند مدخل ملاطية، أوقفنا رجال الدرك مدّة طويلة. وكان قائد درك معمورة العزيز، وقد بدأ يبدي تجاهنا شعورًا طيّبًا، قال لنا بأنّه قد أوصى أخاه، قائد درك ملاطية، بحسن معاملتنا، وقريبًا سنتأكّد من ذلك. وبالفعل، أعطى أوامره إلى الدرك الذين أتوا واصطحبونا إلى الأب بنوا، المرسل من أهل البلد، الذي قدم بعد الهدنة لاستعادة هذا المركز، لكنّه لم يتمكن من السكن في المركز الذي طاله الخراب، وهو يقيم الآن في مركز مطرانيّة الأرمن الكاثوليك، وتفاجأ برؤيتنا هنا.
لم تذهب توصيات قائد درك المعمورة سدى، وأمّنت لنا كلمته النافذة يومين من الراحة: راحة النفس، بواسطة القدّاس الإلهي، وراحة الجسد، بواسطة عناية الأب الطيّب والمسيحيين القليلين في رعيّته.
ولكن، لابدّ لنا من استكمال رحلتنا. استقلّينا العربات إلى سيواس، إذ لم تكن ملاطية سوى محطّة في رحلتنا الطويلة. وما أن خرجنا من ملاطية، وتوقفنا في المحطّة الأولى، حتّى بدأ الثلج في النزول. ولحسن حظنا، لم يطُل الأمر، وسرعان ما تحسّن الجو. ثمّ مررنا بقرية تُدعى “الحكيم خان”، مكوّنة من بيوت صغيرة تجاور بعضها البعض، شبيهة بعشش النسور المحفورة في الصخور، والواقع لم يكن أفضل من المنظر الخارجي. ففي الخان الذي توقفنا فيه لنبيت ليلتنا، كان متطوعون كماليّون في طريقهم إلى مرعش، عبسوا في وجهنا، فتملّك الراهبات الخوف، وكان من الصعب علينا تهدئتهنّ.
قضينا الليل كلّه نسمعهم يقهقهون ويتشاجرون محدثين ضوضاء غليظة. وفي الصباح، فيما كنّا نتهيء للرحيل، نحن وهم، كلّ منّا في اتجاه معاكس، أُغلق باب الخان فجأة: لقد تعرّض صاحب الخان للسرقة، واختفت أغراض وأواني تخصّه. وصلت قوّات الدرك، وتمّ تفتيش أمتعة الجميع، حتّى رزمة ملابسنا الداخليّة البسيطة، إضافة إلى صناديق الآخرين. اكتُشف أمر الجنود اللصوص بسهولة، ولكنّهم لم يخضعوا بالسهولة نفسها، إذ أصبح الخان ساحة معارك ولكمات من الأيدي والأرجل وحتّى إطلاق أعيرة ناريّة. أخيرًا، تمكن القادة من تهدئة رجالهم، وعاد كل شيء لوضعه الطبيعي.
وتتالت المحطّات، وبدت رحلتنا كمن يقوم بنزهة ممتعة، لو لم نكن بحالة أشخاص مرميين على الطريق، وغير متأكدين من مصيرهم. فالمواقع كانت جميلة، والطقس جيّد، لكنّنا كنّا نسير صوب طقس بارد، إذ وصلنا إلى خان «زغل» المتهدّم والمعزول في الريف، حيث درجة الحرارة المنخفضة جدًا. غطّت السُحب السماء، ولم تتوقف الثلوج عن السقوط طوال الليل. وفي الصباح، كان لا بدّ لنا من المغادرة، والثلوج ما تزال تتساقط. لم تعرف الراهبات القادرات كيف تغطين الراهبة المريضة، وسدّ الشقوق في عربتها، كي تصبح بمنئ من البرد. وسرعان ما احتدّت العاصفة، وغطّت الثلوج الأرض والجوّ، بحيث صار من الصعب رؤية الطريق أمامنا، فصار سائقو العربات، المعتادون على سلوك هذا الطريق، يسيرون ببطء، بطريقة عشوائيّة، من دون رؤية أثر يتبعونه. ولو مرّوا بلحظة سهو أو نسيان، لكنّا تعرّضنا لأبشع الحوادث. وبالفعل، أهمل أحد السائقين بقاءه على قرب من العربات الأخرى، فرأى نفسه فجأة، مع الخيول والعربة والركاب، كنّ أربع راهبات، في أسفل منحدر حادّ على الطريق، مكدسات الواحدة فوق الأخرى.
ولحُسن حظهنّ أنّ الثلوج كانت كثيفة، وقلّلت من حدّة الانقلاب أرضًا، وخرج الجميع من هذه الحادثة سالمين، والعربة وحدها هي التي تأذت بفعل السقوط.
وأخيرًا، ظهرت سِيواس. سلكنا الطريق الواسع المؤدّي إلى وسط المدينة، وتوقفنا في الساحة الكبيرة أمام السراي.
الفصل 4: الاحتضار
أخذت السلطات على عاتقها أمر الاهتمام بنا، فيما كنّا ننتظر مصيرنا، وسط مجموعة من الفضوليين تحلّقوا حولنا، وكنّا نصلّي سرًّا طالبين من الربّ أن يهوّن علينا المحنة التي نمرّ بها، وكانت تزداد يومًا بعد يوم.
ولحسن حظنا، كان قائد الدرك والوالي من الرجال الذين حظوا بتربية حسنة، ولديهم استعداد جيّد للحوار. واتفقوا فيما بينهما أن يطلبا من الأميريكيين أن نبقى في ضيافتهم لبضعة أيّام.
وبناءً على موافقة رئيسة الإرساليّة الأميركيّة، توجّهنا إليهم. اتّصفت السيّدة المديرة غرافام بأنّها امرأة عاملة خير، ذات روح ثابتة ومثقفة، وقلب قويّ وسخيّ، سيّدة منظمة وذات حِسٍ جيّد، نشيطة ودؤوبة في عملها، وحين عرفناها عن قرب قدَّرنا فيها ذلك. ليكافئها الربّ على الخير الذي قامت به معنا، وليعطها أضعافًا مضاعفة. رحّبت بنا بأذرعٍ مفتوحة، وطلبت منّا أن نكون عندها كما نحن في بيتنا. أدخلتنا إلى غرفة استقبال كبيرة، مؤثثة على نحوٍ جيّد، ودافئة، فشعرنا على الفور بمودّة حيّة لا غشّ فيها، في جوّ يملؤه الدفء والحنان.
كان الدركيّون يحرسون الباب باستمرار، لكنّ المديرة، بما لها من كلمة نافذة تجاه السلطات، طلبت منهم الانسحاب، آخذة على عاتقها ضمانة وجودنا. أصرّت على تقديم وجبات الغداء لنا بنفسها، بالرغم من رفضنا، وكانت تحضرها بكلّ عناية وذوق. وبحلول المساء، تحوّلت الغرف الرحبة إلى مَخَادِع للنوم في غمضة عين، منتظرة حضورنا للراحة فيها.
جاء الآباء اليسوعيين إلى زيارتنا بناءً على إخطار من المديرة. كان عندهم معهد كبير يضمّ ثلاثمائة تلميذ قبل الحرب، تمّت مصادرته وتحويله إلى دار أيتام تركيّة، وتُرك لهم طابق واحد للإقامة فيه مع الكنيسة التي توجهنا إليها، في اليوم التالي، لإقامة الذبيحة الإلهيّة، بعد حصولنا على الإذن من الدرك.
وأمام هذا العزاء الذي لم نتوقعه بعد مرور أكثر من شهر على الطرقات الطويلة، لم نعرف كيف يتسنّى لنا شكر العناية الإلهيّة. إنّ حالة الحَيرة التي حملناها طوال الطريق، لم تنسينا إيّاها هذه الراحة التي لاقيناها، فلا يزال أمامنا طريقٌ طويل علينا مواصلته حتى نصل إلى نيغدة، وفي ظروفٍ أقسى مما واجهناها بكثير، بحسب ما قاله لنا أناس لديهم معلومات. كيف سنواصل هذه الرحلة مع الراهبات المريضات، على هذه الطرق المغطاة بالثلوج؟
وبناءً على طلب من السيدة غرافام، تقدّمت السلطات المحليّة بطلب إلى أنقرة للحصول على استراحة إضافيّة لمدّة أسبوعين، أضاف إليه الوالي بلطفه: حتّى تُصبح الطرقات سالكة. لكنّ الأميركيّة الكريمة لم تكتفي بهذا الأمر، بل أرادت الاحتفاظ بنا عندها، وبذلت كلّ الجهود للوصول إلى هذه الغاية. وبأمر منها، أرسل محاميها برقيّة إلى وزير الداخليّة، مرفقة بتقرير مصدّق من الأطباء، وإفادات من السلطات المحليّة، تثبت استحالة قوانا الجسديّة على إكمال الرحلة، وطلبت من الوزير إظهار حسّه الإنساني، وجعل سيواس مكانًا لترحيلنا بدل نيغدة.
انتظرنا أيّامًا طويلة للحصول على الجواب، في حين كان المحامي والسلطات المحليّة يجدّدون الطلب عدّة مرّات حتّى أتى الجواب، أخيرًا: تمّت الموافقة على الطلب، سنبقى في سِيواس، لقد خلَّصنا.
أظهرت السيّدة غرافام منتهى المحبّة لمّا قامت باستئجار بيت لنا، وَضعت فيه كلّ ما يلزم من أثاث وأواني، ووعدت بتأمين مؤونتنا اليوميّة. رفضت أن تأخذ أي مبلغ منّا تسديدًا للمصاريف التي تكبدتها لغاية الآن، لكنّها قبلت بأن تصبح المصاريف الجديدة على عاتقنا، نسدّدها عندما يتمّ تحريرنا. ومرّة أخرى نقول: ليكافئها الربّ على الخير الذي قامت به معنا، وليعطها أضعافًا مضاعفة.
وها نحن نقضي أيّامنا برتابتها المعتادة، ونذهب كلّ صباح لزيارة الآباء اليسوعيين، تحت مراقبة الدرك غير المُشددة والبعيدة إلى حدٍ ما. وفي كثيرٍ من الأحيان، يأتوا هم لزيارتنا. وما تبقى من وقتٍ لدنيا ننفقه في الصلاة أو القراءة أو الدراسة، في الكتب التي يعيرنا إياها الآباء اليسوعيين، وفي الأعمال المنزليّة. تبادلنا تعليم اللغات مع الأميركان؛ فهم يعلّموننا الإنجليزيّة، ونحن نعلّمهم الفرنسيّة، والودّ سائد فيما بيننا.
استمرّ الثلج يتساقط لعدّة أسابيع، وتكوّن الجليد في المدينة. أمّا الراهبة المريضة، فقد لازمت الفراش منذ وصولنا إلى سيواس، ولم تغادره أبدًا، والوجع مستمرّ، بالرغم من رعاية الراهبات لها، ومعاينات الطبيب المعتمد لدى الأميركيين، فكانت حالتها تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ولم تعد حياتها سوى آلام مستمرّة، وصلوات متواصلة. تمّ تجهيز الغرفة الملاصقة لغرفتها لتكون بمثابة كنيسة صغيرة، تسمح لها بحضور القدّاس اليوميّ الذي يؤمّن لها بعض التعزية، والتناول في معظم الأحيان، بحسب وضعها الصحّي. ومع حلول فصل الربيع، لفظت آخر أنفاسها بهدوء، وسلّمت نفسها الطاهرة إلى الربّ. ماتت ولم تتخلّى عن إخلاصها للربّ يسوع، وظلّت مرسَلة شجاعة حتّى الرمق الأخير.
غداة يوم وفاتها، عند شروق الشمس، مشينا وراء جثمانها الموضوع في عربة نقل كان الأميركيّون أقرضونا إيّاها، فحولناها للمناسبة إلى عربة دفن الموتى. لم يشارك أحد غيرنا في هذا الدفن الصباحي، إذ حرصنا دائمًا على ألاّ نظهر أمام الناس. وكانت المقبرة الكاثوليكيّة تقع في حقل مفتوح أمام الجميع، إلى جانب الطريق، يستعملها المكاريّون كمحطة لهم، وسكان القرى للاستراحة قبل دخول المدينة.
وبالواقع، شعرنا كلّنا بالغمّ والحزن الذي خيّم على هذا الدفن بعيدًا عن فرنسا، مع أنّ الشمس الطالعة، والطبيعة التي استفاقت، والحقول الخضراء المنشرة فيها الزهور كانت تذكرنا بالحياة الأبديّة، والتجدّد المأمول في إرسالياتنا المهدمة. كنّا نصلّي صلوات الكنيسة الموضوعة للمناسبة، ونقول: “إنّ موت قدّيسي الربّ يشكّل استحقاقًا كبيرًا عنده”.
مرّت أشهر الشتاء، ومرّت شهور الربيع سريعًا، وحلّ الصيف. لم نعد هؤلاء الغرباء، وصارت عندنا حريّة أكبر في التنقل، فاستطعنا التنزه في سيواس والتعرّف عليها وعلى ضواحيها. قديمًا، كانت تُدعى “سبسطية”، وما زالت فيها القنوات الحجريّة التي صنعها الرومانيون، ولا تزال تُستخدم حتى الآن لاستقدام الماء إلى المدينة من أفضل ينابيع الجوار، وأُعجبنا بها. استطعنا أيضًا تكريم بحيرة الأربعين شهيدًا الذي لم يبقَ منها سوى مستنقع ونبع من الأرجح أنّه كان، في زمن الرومان، يغذّي الحمّامات الوارد ذكرها في قصّة هؤلاء الشهداء، إلى جانب البحيرة المتجمدة من الصقيع.
وليس بعيدًا من هنا، هناك كوخًا يكرّمه المسلمون على أنّه يحتوي القبر الفارغ للقدّيس بلاسيوس [أسقف سيواس، شهيد، القرن الرابع]. وعلى الجانب الآخر من المدينة، في الحيّ الذي تمّ تدميره بالكامل، هناك المنزل الوالدي للقدّيس مخيتار، من القرن الثامن عشر، مؤسّس الرهبان المخيتاريين الأرمن. ولم يبقَ من المدينة التركيّة القديمة سوى أضرحة بعض السلاطين السلجوقيين في المسجد الكبير.
قضينا أسابيعنا الأولى في سيواس في حدادٍ وحزنٍ أليمٍ على أختنا المتوفية. وحلّ علينا الصيف بألمٍ آخر، مع موت السيّدة غرافام، المحسنة الكبيرة إلينا، التي سلّمت روحها للربّ. كانت تعاني من سرطان الثدي، وتؤجّل الرحلة الضروريّة إلى أميركا، سنة بعد سنة، حيث كان بالإمكان إجراء عمليّة جراحيّة لها. وما أن أصبحت حالتها طارئة، حتّى خضعت للجراحة على يد الطبيب الأرمني في المستشفى التابع لها، وكان طبيبًا ماهرًا تثق به. تمّت العمليّة على ما يرام، لكنّها تدهورت صحتها، وبقيت ثمانية أيّام بين الموت والحياة إلى أن استسلم قلبها، وماتت متمّمة واجباتها الدينيّة بحسب ضميرها، محاطة بصلواتنا وتعازينا. كان لجنازتها وقع كبير، وشارك فيها جميع وجهاء المدينة تقديرًا منهم لهذه السيّدة العظيمة عاملة الخير التي غادرتهم.
أرسلت لجنة إغاثة الشرق الأدنى خلفًا للسيّدة غرافام، جاء من أميركا إلى سيواس، وعاملنا بنفس الإحسان الذي كانت تعاملنا به. وكانت تصلنا، في بعض الأحيان، أخبار قصيرة نثق بها، بعكس الأخبار الواردة في الجريدة المحليّة التي لا نصدقها. وفي إحدى الأيّام، شهدنا احتفالات الابتهاج، وسط أجواء صاخبة، بمناسبة انتصار الأتراك على اليونان، في معركة سقاريا [شمال تركيا]. وكنّا نرى، في مناسبات عديدة، مرور قوافل السجناء اليونان المسيحيين المساكين، الآتين من البنطس، والمرحَّلين إلى الداخل التركي.
وفي أواخر شهر أيلول، وصلتنا أخبار عن وصول فرانكلين بويون [سياسي فرنسي] إلى أنقرة. قيل لنا بأنّ اتفاقًا أُبرم بين الفرنسيين والكماليين، وبدأ الإفراج عن المعتقلين العسكريين في بوزانتي [مدينة في إقليم أضنه شهدت معارك بين الفرنسيين والأتراك] المحتجزين في قيصريّة. وهل سيتذكروننا نحن المرحَّلين المدنيين؟
منتصف تشرين الأول، وفي أعقاب المساعي الملحّة، تلقّينا برقيّة من أنقرة تمنحنا حريّة الرحيل. وكان علينا إجراء بعض المعاملات القانونيّة الرسميّة التي لم تخلو من العراقيل. وأخيرًا، ومع نهاية الشهر، صار بإمكاننا الرحيل، وتوجهنا إلى سمسون تحت حراسة أحد رجال الدرك، وعبرنا في أراض ما زالت تحت وطأة الحروب والثورات. في حين كانت حكومة أنقره تقاوم على الجبهات هجوم اليونانيين، كانت العصابات المدفوعة منها تشيع الفوضى في البلاد، والشرطة تقوم بترحيل اليونانيين العثمانيين، من سكان البنطس على ضفاف البحر الأسود، إلى الأراضي الداخليّة.
وكانت محكمة الاستقلال تنشر الرعب في كلّ مدينة، وأقدمت على شنق أربعة عشر من الوجهاء اليونانيين، عشية مرورنا بمدينة «توقات». وفي «أماصيا»، تمّ إعدام نحو مائة شخص، في الأسابيع الماضية. فيما نحن سائرون، كنّا نصادف قوافل المرحَّلين، ولأكثر من مرّة، بعضها مؤلّف من الرجال والشباب، وبعضها الآخر من النساء والفتيات والشيوخ والأطفال، ويا لهذا المشهد المؤسف الذي لا يُنسى. كم من هؤلاء المساكين لقوا حتفهم على الطريق منسيين! في قرية “قفزا” القريبة من سمسون، تمّ إعدام قوافل بأكملها.
وكنّا نصادف قوافل من نوع آخر: صفوف طويلة من العربات تجرّها الثيران، محملة بالذخيرة، آتية من روسيا ومتوجهة إلى الجبهة؛ وفي بعض الأحيان، عربات كثيرة تحمل القمح إلى روسيا. وعند وصولنا إلى المحطّة الأخيرة في “شقالي”، صادفنا مجموعة من البولشفيين، رجالاً ونساءً، مدنيين وعسكريين، في الخان الذي بتنا فيه ليلتنا، وكانوا ذاهبون إلى أنقره.
وفي سمسون، ساعدنا أحد آبائنا المقيم في المدينة، فيسَّر لنا الخطوات الأخيرة لرحيلنا، وسعى جاهدًا لتكون الساعات الأخيرة لنا في تركيا ممتعة قدر الإمكان. بقي علينا الخضوع لتفتيش أخير من الدرك الواقف في المرفأ، وها نحن نركب سفينة تابعة لشركة “باكيه” سوف تقلّنا إلى القسطنطينيّة، ومنها إلى فرنسا للبعض منّا، أو إلى سوريا للبعض الآخر.
ها إنّ معاناتنا قد انتهت، بعد طول ترحيل من بلد إلى آخر، وفي الوقت نفسه، إنّه النزاع الأخير: نهاية إرساليتنا في أرمينيا وبلاد ما بين النهرين.
الخــاتمة
في العام 1921، كان لا يزال هناك مركزين للإرساليّة في ملاطية ومعمورة العزيز، لم يبقَ منهما إلى اليوم سوى الأخير، ويبدو أنّ أجله قريب. إنّ الأب الذي كان في ملاطية طُرد من مركزه في أيار 1926، وتمكن من الوصول إلى سوريا، رغم ما واجهه من صعوبات. ولم يبقَ للمرسلين الأربع الصامدين في معمورة العزيز، والمكبلين اليدين في أعمالهم الخيريّة والمدرسيّة، سوى بضعة مسيحيين يتناقص عددهم يومًا بعد يوم.
هل ستُعيد العناية الإلهيّة الإرساليّات والمسيحيين إلى تلك الأراضي الواسعة والجميلة؟ وحده الآب السماويّ يعرف الأزمنة والأوقات التي تحدّدها إرادته القديرة. وما علينا سوى التعجيل في هذا الأمر، بواسطة صلواتنا وإماتاتنا. وعندما يحين الوقت، ليتفضّل ويدعو العمال الشجعان إلى كرمه، وبأعداد غفيرة.
ليكن ذلك بحسب مشيئته!
1 الأخ لورنتان، ذكريات، أرشيف الرهبنة الكبّوشيّة في المْطَيلب، لبنان.
2 الألبوم المئوي لكاتدرائية القدّيس لويس 1868-1968 . صفحة 62.
3 إنّ إبن شقيق هذا الحبر اللامع القدّيس تخلّى عن كلّ المجد الذي يستحقّه، بفضل علمه أو رباطه الدموي في صفوف الإكليروس العلماني، وأراد أن يكون راهبًا كبّوشيًّا بسيطًا. كان رجل تقوى، على مثال عمّه، ومفعم بالنشاط، والودّ والبساطة، ولم يكن يطمح سوى العمل لخير النفوس بكلّ ما أوتي من قوّة. [ هو الأخ روفائيل سمحيري الذي كان في دير أورفا وتمّ اقتياده للمحاكمة في أضنه مع الأب توما والأب بونافنتورا والأب بنوا، رئيس الدير ]
4 البكتاشيّون هم طائفة إسلامية ألبانية ذات طابع أساسي يكمن في القومية المعادية للأجانب ( أنظر لامينس، الإسلام، صفحة 151)
5 في القرن الثاني عشر، وفي عهد المملكة اللاتينية في الشرق، أُلقي القبض على بعض الفرسان في إديسّا، وسُجنوا في قلعة خربوط. قام أحد الفرسان بحيلة ذكيّة، فتنكر بزيّ متسوّل، واقترب من السجن، وفتح لهم الباب في الليل، وتمكنوا جميعهم من العودة إلى إديسّا.