ابراهيم كسبو (مجلّة دراسات شرقيّة مسيحيّة، مجموعة 29-30، ص. 58
وُلد ابراهيم كسبو في ماردين في العام 1899 من عائلة أرمنيّة كاثوليكيّة. لَمّا بلغ السادسة عشرة، شهد على بداية المجازر في ماردين، حين أُوقف أبوه وأخواه الأكبر سنًّا وهما: الياس (26 عامًا) ومنصور (24 عامًا)، واقتيدوا مع قافلة الأب ليونار، وقُتلا معه في 11 حزيران 1915.
نجا إبراهيم بسبب صغر سنّه، وتمّ إبعاده إلى حلب، مع أمّه وأخوه عبد الكريم وأخواته مريم وزكيّة، حيث أَمضى فيها باقي أيّام حياته.
كان خيّاطًا ماهرًا، وأَسَّس مع رفاقه المنفيين «جمعيّة القدّيس غريغوريوس المنوّر» لمساعدة الماردينيين المبعَدين. تزوّج من مريم نَزار، أرمنيّة كاثوليكيّة، ورُزق منها أربعة صبيان وبنتين.
كتب ذكرياته باللغة العربيّة، وقسمها إلى قسمين: عنوان الأوّل «بعض ما لا تعرفه عن حلب: السفر برلك» يتكلّم فيه عن الأوبئة والمجاعة والرعب والموت في حلب والشرق الأدنى أثناء الحرب العالميّة الأولى؛ والثاني عنوانه «ماردين كما أعرفها» يتكلّم فيه عن تاريخ المدينة ومعالمها والمجازر التي حصلت فيها، خاتمًا روايته بفصول تهجيره إلى حلب مع العائلة في تموز – آب 1915.
ننقل فيما يلي القسم الثاني من ذكرياته بالكامل، نظرًا لاحتوائه على تفاصيل فريدة تلقي الضوء على ما جرى مع الأب ليونار ورفاقه. 1
مـــاردين كمـــا أعرفهـــــا
1- ماردين مدينة قديمة القدم، تقع في شمال الجزيرة، 2 وهي على رأس جبل عال، بيوتها كالدرج، الواحد فوق الآخر، وعلى قمّة الجبل قلعة طبيعيّة حصينة، صَعُبَ على تيمورلنك فتحها بأيّامه. هواها نقيّ، صيفها معتدل، شتاؤها بارد. وإذا أَلقيتَ نظرة إلى جنوب المدينة فإنّك تشاهد تلّ كوكب بكلّ وضوح، وترى أمامك بحرًا من الخضار لا نهاية له في فصل الربيع. وإن أَلقيتَ نظرة إلى شمالها، ترَ أوقيانُس من البساتين العامرة، بما فيها من الثمار اللذيذة الشهيّة والتي تزيد عن حاجات السكّان بالنسبة إلى كثرتها، وهي رخيصة. وفيها الخوخ والكمثري والكرز والرمّان والمحلب والبطن ذو اللذّة، عدا عن الكروم الكثيرة والخضار. ويُزرع في بعض مناطقها التبغ، وهو مشهور بجودته.
2- حُكمت ماردين من قِبَل الفرس والروم والأكراد والأرمن والعرب، إلى أن أصبحَت جزءًا من الأمبراطوريّة العثمانيّة. وأهلها يعدّون بحوالي خمسون ألف نسمة قبل الحرب العالميّة الأولى، نصفهم تقريبًا من المسيحيين، يتكلّمون العربيّة، وبعض كلماتها الفصحى، لكنّها بالأصحّ هي لغة خليط من العربيّة والكرديّة والسريانيّة والأرمنيّة والتركيّة.
3- كانت مقرًّا لبطاركة السريان الأرثوذكس والكاثوليك، وفيها عدّة كنائس قديمة وحديثة، منها كنيسة القدّيس جرجس للأرمن الكاثوليك، وكنيسة القدّيسة شمونه في شرق البلد، المعروف بمحلّة الشمسيّة،3 وفيها دير مار ميخائيل، ودير الزعفران، الأوّل في جنوب المدينة والثاني في شرقها، وهما قديما العهد، والأخير كان مقرّ الكرسي البطريركي للسريان.
4- فيها دير مار افرام، وبضواحيها عدّة كنائس، مثل كنيسة مار يوحنا، وكنيسة القدّيسة بربارة. وفيها أيضًا كنيسة الكبّوشيّة، ومعبد للبروتستانت، وكنيسة قديمة جدًّا للكلدان. ومن أشهر جوامعها، الجامع الكبير، المشهور بمئذنته العالية، وجامع اللطيف، وجامع الشهيد، الذي كان كنيسة للسريان، وبُني فيه مئذنة. بأيّام الحروب كانت هذه المأذنة وسيلة لخلاص بنّائيها وحجّاريها وعمّالها من المذابح، حيث اعترفوا بتغيير مذهبهم.
5- أهلها يشتغلون بالتجارة والصناعة. وكان لأكثر العائلات الغنيّة واحد من أفرادها في حلب ليصدّروا له السمن والصوف والجلود واللوز والعفص وغير ذلك، ويرسل لهم ما يحتاجون من بضاعة.
6- لكنّ الحرب الكونيّة الأولى كانت وبالاً على ماردين، حيث أُجلي وتشتّت الكثيرون من العائلات المعروفة. وبعد تلك الحرب، جلا الكثيرون عنها، واتخذوا لهم مواطن جديدة بالجزيرة القاحلة آنذاك، وبنوا فيها المدن، وأقاموا المزارع، وحوّلوا تلك الصحراء القاحلة إلى عمران. وكثير منهم مَن سكن حلب وغيرها من المدن السوريّة. ويمارسون جميع المهن، من محاماة وطبّ وهندسة ومهن يدويّة وتجاريّة. وبرع الكثير منهم، وهم قوم أذكياء متديّنون. وقد تكاثروا وتزايدوا واختلطوا بالشعب السوري. والكثير منهم من لا يعرف ماردين، ولا يعرف شيئًا عنها. وقد طغت بعض طبخات ماردين مثل… كبيبات وبرغل ماردلّي، أصبحوا معروفين في حلب.
الأرمن… وتهجير ماردين
7- الإمبراطوريّة العثمانيّة نسبة لسعتها كانت مقسّمة إلى عدّة مقاطعات بالنسبة لأصل السكان، حسب جنسيّاتهم ومعتقداتهم الخ. وكانت الولايات الستّ التركيّة وهي أنذاك ولاية أرضروم، وان، بتليس، دياربكر، خربوت، سيواس، مأهولة بسكّان يقدّر أنّ أكثر من نصفهم أرمن والباقي من الأكراد. وكان الأكراد على دين الدولة التي ينتمون إليها، ويعتبرون أنفسهم أصحاب وسادة تلك المناطق بمجرّد هذا الانتماء. وكان على الأرمن أن يكونوا خاضعين لزعمائهم، ويؤدّوا لهم الطاعة العمياء، مع دفع مبالغ نقديّة وعينيّة بأسماء ووسائل شتّى، عدا الضرائب المفروضة من قبل الحكومة الشرعيّة على هذا الشعب المسكين. وكانوا يجبرون ويغرّرون البعض لترك معتقده للتخلّص من هذه الحياة التعسة. فكان الرؤساء الروحيّون يحتجّون إلى السلطان على المعاملة الجائرة التي يلقاها أبناء رعيّتهم، ولم يحصلوا سوى على الوعود التي لم يُنفَّذ واحد منها.
8- إنّ الكثير من شباب الأرمن هاجر البلاد تخلّصًا من هذا الجور والتعسّف، وهربوا إلى بعض البلدان الأوروبيّة، وصاروا من هناك يطالبون بالإنصاف والعدالة لهذا الشعب المغدور، الذي كان يشكّل عنصرًا طيّبًا منتجًا بالإمبراطوريّة العثمانيّة، وهم أهل حذاقة بالصنائع والمهن والعلوم والفنون، خلاف مواطنيهم الأكراد الذين كانوا أمّييّن، يعيشون على النهب والسلب.
9- كان كلّما طالب رؤساء الأرمن بالإصلاحات، كانت تنعكس عليهم الضربات، من ذبحهم وإحراق قراهم والاستيلاء على ممتلكاتهم. وقد اعترفت الحكومة بهذه الأمور، وأرسلت النجدات العسكريّة للتهدئة بالظاهر، والتحريض بالخفاء. وكان استبداد السلطان عبد الحميد، المعروف بالسلطان الأحمر، يزيد من تعاستهم، رغم علمه بإخلاصهم لوطنهم وسلطانهم. وكان الكثير من الأرمن مكلّفين بإدارة أمواله الخاصّة به، عدا اشتراكهم بأمور السلطنة العامّة، باعتبارهم عنصرًا مثقفًا قديرًا.
10- إنّ القلم ليعجز عن بيان الاضطهادات والمذابح وتشريد هذا الشعب إلى أن كانت معاهدة برلين، وقد وُضع فيها بند خاصّ لاحترام حقوق هذا الشعب، ومعاملته بحسب العدالة والانسانيّة. وأخيرًا، كان إعلان الدستور العثماني. واستقبلوا هذا الحدث بفرح وأمل سعيد، وانتخاب نوّاب الأمّة، وكان منهم بعض الأرمن كان لهم مواقف وطنيّة مخلصة نحو سلطانهم ووطنهم، من أمثال مانوك أفندي، مبعوث حلب، ومواقفه الوطنيّة بمجلس المبعوثين، وكثيرين غيره، الذين كانت بياناتهم تُقابَل بالتصفيق الحارّ، حسب قول المؤرّخين الأتراك.
11- كانت وعود تنفيذ العدالة والإصلاحات تتأجّل من يوم إلى آخر، حتّى نشبت الحرب العالميّة وحلّ البلاء، ودخل الكثير من شباب الأرمن بالخدمة العسكريّة. ولَمّا أُعلنت الحرب على روسيا، وتقهقر الجيش العثماني بمئات الكيلومترات داخل أراضيه، رأت الحكومة العثمانيّة أن تنتقم لهذا الانكسار من الأرمن القاطنين بتلك المناطق، بحجّة تعاون الأرمن مع العدو هناك.
12- هذا ما كان لسكّان البلاد الشرقيّة. أمّا البلاد البعيدة عن الحدود، فما كان ذنبها؟ وكانت الغاية الحقيقيّة إبادة هذا الشعب والاستيلاء على جميع ممتلكاته، حيث لم يبقَ أيّ قيمة للوعود والمعاهدات. وبدأت فعلاً بتنفيذ هذه الفكرة الجهنميّة في كافة أنحاء الأمبراطوريّة، في طولها وعرضها، بتعذيبهم بأبشع الوسائل، وبعد ذلك ذبحهم، ولم يسلم من ذلك إلاّ الذي نكر دينه. ونُكرت المودّة والصداقة القائمة بين بعض الأرمن وبعض الأتراك، الذين كان أكثرهم مديونًا للأرمن، وإنّ التخلّص من الديون هو فوق الصداقة والخبز والملح، كما يقال.
13- إنّ الوصف لتلك الأعمال الوحشيّة يحتاج إلى كتب ومجلّدات، ولم يُهمل أيّ نوع من التعذيب إلاّ ونُفّذ بأبشع أسلوب بهذا الشعب، الذي ما طالب يومًا بالانتساب إلى دولة أخرى، بل كان يؤيّد السلطان والحكومة، كما ذكرت، بل يطالب بالعدالة والتخلّص من الاستبداد الحميدي، كما يطالب به الأتراك الأحرار.
14- لَمّا كنتُ واحدًا ممن أصابهم حصّة كبيرة من التعذيب والتشريد وذبح الكثير من الأهل والأقارب، عدا الوالد والإخوة والأعمام وغيرهم، لكوننا ننتسب إلى طائفة الأرمن الكاثوليك في ماردين، رأيتُ أن أسجّل بعضًا مما لاقيته، وما جرى في مدينة ماردين، هذه المدينة الآمنة، فأقول:
15- في ماردين، عندما أعلنت الحكومة العثمانيّة «السفربرلك» بموجب اتفاقها مع حليفتيها ألمانيا والنمسا، استجابت عموم الطوائف المسيحيّة مع مواطنيهم الأتراك، بدفع ما كان يُسمّى التكاليف الحربيّة والمساعدات للجهات العسكريّة. وكانت هذه التكاليف تُوزّع بين الطوائف حسب عددها، تُجبى بواسطة المختارين وغير لجان تشكّلت لهذا الغرض. والذين كانوا مكلّفين بالخدمة العسكريّة التحقوا بقطعاتهم. ومنهم من دفع البدل النقدي. وكان الكلّ شركاء في خدمة الوطن بكافّة الواجبات.
16- بعد مضيّ بضعة أشهر على إعلان «السفربرلك»، صرنا نسمع أنّ الأرمن يقتلون الأتراك ويلتحقون بالروس. وكنّا حاسبين ألف حساب لما وراء هذه الروايات المختلقة. ودخلت هذه التخوفات بالفعل عندما طالبت الحكومة بجمع السلاح من يد المسيحيين، وتحويل الجنود المسيحيين إلى أعمال غير مسلّحة، كالنقليّات وغيرها. وكلّ يوم نسمع أخبارًا تلفقها جمعيّة الاتحاديين وعمّالها، كطلعت وأنور. وكانت أيّامًا سوداء حالكة، قضاها أرمن ماردين. وكانت النتيجة تهجير وإبعاد وإفناء الأرمن، إلى أن حان تنفيذ خططهم بأرمن ماردين.
17- بعد أن سلّم المسيحيّون ما لديهم من أسلحة، وكانت عبارة عن بواريد صيد، وبعض الطبنجات القديمة العهد، بدأوا بتفتيش الكنائس والدور تفتيشًا متواصلاً ودقيقًا. وعبثًا حاولوا الحصول على سلاح لم يروا لزوم اقتنائه. وبدأوا بحفريات داخل الكنائس ونبش القبور. وكانوا يتّهمون بأنّ داخل كنيسة «سورب كيورك» 4 مدافع وأسلحة منوّعة. وإذا دخلوا دارًا، يبدأون بضرب النسوة والأطفال، مهدّدينهم بالقتل إن لم يسلّموهم السلاح. وبعد أن يئسوا من ذلك، ولم يجدوا شيئًا، بادروا للمجزرة الحقيقيّة الهائلة. وإليك فاتحة تلك الأعمال التي تقشعرّ لها الأبدان .
18- كان يوم 3 حزيران سنة 1915 يومًا مشؤومًا عند أهل ماردين المسيحيين، الذي كان مصادفًا خميس العهد. 5 فاحتُفل صباحًا بهذا العيد بهدوء وسكينة، وقلوبهم منكسرة من هذه المضايقات. وكان وصل لسماعهم عن جمع أرمن ديار بكر وإرسالهم إلى الموصل ، عن طريق نهر الدجلة، بحماية وحراسة قويّة. والأصحّ أنّهم أُفنوا وقُتلوا عن بكرة أبيهم.
19- مضى الجزء الأوّل من ذلك اليوم والمدينة بهدوء وسكون، وعلى الوجوه شارات الحزن والأسى. وكلّ يفتكر بمصير عياله إذا بقيت الحرب قائمة. وما إن حانت الساعة 8 المشؤومة، وملك الموت المستتر بجسد ممدوح بك، سربوليس 6 الولاية، قدم إلى ماردين.
20- وكان عندنا بالبيت بذلك النهار، دعوة للغداء بعض كبار رجال الحكومة المحليّة. وبينما هم على المائدة، تكلّم أحدهم، المدعو نجيب أفندي أمين الدين أفندي زاده، وهو إنسان بقلب إبليس، على ما يشهد كلّ من يلقي إلى وجهه النظرة الأولى، وقال إنّ ممدوح بك رأيته قادمًا من ديار بكر ونزل توًّا بدار الحكومة. ما عسى ذلك؟ فأقول، إن لم تكن تلك غلطة ارتكبها وفاه بها سهوًا، فإنّ المذكور كان عالمًا عن قدوم ممدوح بك قبل طلوعه من ديار بكر، وسيكون له شريكًا بالأعمال التي سينفّذها بمن يأكل على مائدتهم.
21- بعد ما أكلوا وشبعوا وانصرفوا، وكان قد اعتادوا أن يلاقوا منّا مثل هذه الضيافات عدّة مرّات، كما كنّا نلاقيها منهم، إلاّ إنّ ضيافتنا لهم كانت بآخر يوم من وجود عائلتنا على مائدة واحدة. وعند انصرافهم، طلع أخي الكبير الياس ليودّعهم إلى رأس الشارع، وإذ قد عاد وعلى وجهه علامات الحزن لما لاقاه بالطريق، وهو أنّ السيّد اغناطيوس مالويان، رئيس أساقفة الأرمن الكاثوليك بماردين، محاط بعدد غير قليل من الجند والشرطة. والمعروف أنّ الأسقف يذهب للسراي راكبًا حصانًا، فَلِمَ الذهاب على هذا الشكل؟ وقد اهتزّت المدينة بهذا الحادث الفجائي. وكيفيّة ذلك هو: ذهب أحد رجال الشرطة لدار الأسقفيّة، وبلّغ الأسقف الموقّر أنّ المتصرّف يطلبه. فقال للشرطي: سأحضر. لكنّ الشرطي رفض إلاّ أن يأخذه معه. فطلب أن يحضر له حصانه الذي كان يركبه عند ذهابه لمكان ما، فمنعه الشرطي: يجب أن ترافقني على الأقدام.
22- قام ذاك الشهيد البطل وأمله أن يرجع ولكن… إنّي أرى قلمي يقاومني على تسطير هذه الكلمات. وما الفائدة، فإنّ ذلك المطلوب لم يكن مطلوبًا ليرجع، بل ليقترب من أجَله، ومشاهدة خالقه بانتهاء حياته، مقدّمًا دمه فداءً عن الدين المسيحي، الذي به وُلد، وبه يمكن الوصول إلى الحياة الأبديّة.
23- إبتدأ بخطوات ولم يعلم سبب الدعوة بهذا الشكل، الذي لم يسبق له مثيل بيوم عيد هكذا. وكلّما شاهده أحد المسيحيين بهذه المرافقة يستغربها، ولا يعلم أنّ ذلك المستغرب سيُقاد غدًا، وسيكون رفيقًا لهذا الراعي الصالح، إلى أن وصل دار الحكومة. أُدخل إحدى غرف السجن، ومُنع من مقابلة أي شخص.
24- انتشر بالمدينة الشرطة وجنود المليس 7 الذين ألبسوهم لتنفيذ هذه المجزرة الرهيبة. وكانوا يلقون القبض على وجهاء طائفة الأرمن الكاثوليك فقط، فيدخلون البيوت بكلّ جرأة، ويلقون القبض على تلك الأفراد، إلى أن جمعوا بذلك اليوم زهاء خمسين شخصًا. وبالمساء، بلّغوا أقاربهم أن يجلبوا لهم الفرش والطعام، لأنّهم ضيوف السجن.
يوم الجمعة 4 حزيران سنة 1915
25- بات المسيحيّون بهدس وهذيان، ولا أحد يعرف مصير الذين جُمعوا، وهم بتشاؤم تامّ، عدا القليل من ذوي النوايا الطيّبة، والمتّكلين على العدالة والصداقة. وخصوصًا لم يُعرف لأحد أنّه قاوم وأضرّ بالسلطة، بل كان الجميع مواطنين مخلصين، لا يهتمّون إلاّ بواجبات أعمالهم، والإخلاص لوطنهم. وكان ممدوح وأعوانه يخطّطون لعمل اليوم الثاني.
26- أُعطيت الأوامر لجمع كلّ مَن وجدوه بالطريق. وكان من جملة من قُبض عليهم بذلك النهار أخواي الياس ومنصور. أمّا والدي فالتزم البيت، حيث اليوم عطلة الحكومة الرسمي. وكان السبت، ووالدي مضطرّ للذهاب إلى دار الحكومة للاهتمام بدعاويه، وخصوصًا دعاوي الخزينة الجليلة التي كان وكيلها. وبعد استشارة أحد أصدقائه الترك، قرّر الذهاب ليعمل واجباته. وعند نهاية رؤية دعاويه، أخذته الشرطة للسجن، وضُمّ إلى ولديه وأنسبائه وأبناء طائفته. وبالمساء، كنّا عائلة أرملة وأحداث. وكانوا بكلّ يوم يجمعون الشبّان والرجال والكهنة، ويضيفونهم إلى مَن سبقهم، وهم يلاقون الضرب واللكم ونتف اللحى والسبّ والشتم وكلّ أنواع التعذيب. وكانوا يعرضون على البعض إنكار معتقده كي يخلص ولم يفعل ذلك ولا واحد منهم.
27- صار مجموع مَن قُبض عليهم مقدار خمسماية شخص موقوف، القسم الأكبر منهم بالقشلة 8 التي لم تكن مساحتها تكفي لاحتواء هذا العدد الضخم. وكان قد أُلقي القبض على بعض أفراد طائفة السريان اليعاقبة، وبالأخير أُطلق سراحهم جميعًا. وقد تعاون بعض أفراد هذه الطائفة مع الجلاّدين.
28- أشار بعض الأصدقاء علينا أن نقدّم طلبًا للسلطة لتخلية والدي وإخوتي، بناء على صداقتنا وطاعتنا وخدمتهم والإخلاص للسلطة. فذهبتُ لأحد أولئك الأصدقاء، فكتب لي طلبًا قدّمته بيدي للسلطات. ووعدوني بتوصياتهم الشخصيّة للنظر بعين العدل لهذا الطلب، ولكن هيهات أن يفعلوا ذلك، طالما هم مديونون لنا بقروض نقديّة لا بأس بها بذلك الوقت، وقد حان وقت التخلّص من هذه الديون. وأخيرًا كان الجواب: محاولات لا جدوى منها، إلى أن أُعلن عن عزم السلطة إرسال هؤلاء الموقوفين إلى ديار بكر. وما إن شاع خبر هذا القرار حتّى بادرت النساء والأطفال إلى مكان اعتقالهم، عسى أن يقابلوهم لآخر مرّة بالحياة. 9 فأين ذلك القلم كي يشاهد، ويسطّر ذلك المنظر المؤلم: النسوة بالشوارع، ورجال الأمن ينهالون عليهنّ والقتل والشتم. فمن أين لي ذلك القلم، ولستُ قادرًا على تسطيره بهذا الموجز. فعادت النسوة والأولاد إلى بيوتهم وساد الهدوء والظلام.
29- وما كاد يحلّ الفجر حتّى أُخرج هؤلاء المسجونون، ورُبطوا بالحبال، وسيقوا على أقدامهم بالجادّة العامّة. فالويل لمن يرفع صوته. ولم أكن أنا الواقف المتفرّج على هؤلاء الشهداء عساي أعرف أحدهم، من أبي وأخي وغيرهم. ومرّوا أمامنا كقطيع الغنم. فهنيئًا لمن يحسن التعبير والتسطير إلاّ بهذه الكلمات القصيرة.
30- خرجوا من المدينة ولكن إلى أين؟ البيان هو إلى ديار بكر. وديار بكر هذه هي مركز الولاية التي كانت ماردين أحد سناجقها، وهي تبعد يومين كاملين. ولكن هل أُوصل هذا القطيع إلى ديار بكر؟ كلاّ، بل بعد أن قطعوا مسافة ثلاث ساعات عن ماردين، أدخلوهم إحدى المغر الكثيرة بتلك الأطراف وصاروا يخرجون منهم عشرة تلو عشرة ويسلّمونهم إلى الأكراد سكّان تلك المناطق، وكانوا حضّروهم وأفهموهم كيف يجب تعذيبهم وقتلهم وإفناؤهم، وقد قاموا بالواجب على خير سبيل. ولم ينج منهم فرد فرد واحد. وإنّ بعض هؤلاء الأكراد نقلوا ما جرى هذا لبعض المسيحيين، بعد مرور شهور على الحادث. وكانوا يقابلون الموت والاستشهاد في سبيل الدين المسيحي.
31- عاد السفّاحون وهم يدّعون أنّهم أوصلوهم إلى ديار بكر، كما انتشروا بين عيال أولئك الشهداء، وكلّ واحد يدّعي أنّه قرض ودفع لزوجها مبلغًا كذا. وكان من جملة أولئك الأبالسة أحدهم المدعو بشير روضه، مدّعيًا أنّه قد أعطيت نعوم أفندي – والدي – خمس ليرات، وهذا مفتاح صندوقه. كان المفتاح هو هو. مَن يعلم بأيّ وسيلة حصل عليه، وربّما كانت يداه اللتان عذّبتا وذبحتا وأخذتا ما كان معه ومع إخوتي من دراهم وخواتم وساعات وغير ذلك. آه. وكان جوابنا: ليس لدينا دراهم لندفعها. فقال: سأشتكي عليه إلى ديار بكر. وبمثل هذه الأحداث قابلوا الكثيرين. فمنهم مَن دفع، ومنهم مَن رفض.
32- انقضى يوم أو يومان بهدوء، شيّعوا بها أنّ السلطان محمّد رشاد الخامس كان مريضًا وقد نال الشفاء، وقد غضّ عن كلّ الأرمن، وادعوا له بالنصر. فعلى الأرمن أن يفتحوا محلاّتهم، ويعودوا إلى أعمالهم. وقد صدّق البعض هذه الإشاعة، فذهب إلى أعماله ومحلّه، وما كادوا يستقرّون حتّى قُبض عليهم، وزُجّوا بالسجن. وكانوا بهذه المرّة يقبضون على كلّ أرمني، غنيًّا كان أم فقيرًا، وليس كالمرّة الأولى، فكان الجمع على الوجهاء فقط. 10 وهذه المرّة كانوا يعذّبون المحبوسين، بكيّهم بالأسياخ المحميّة، عدا الضرب بالفلقة، وسحب الأظافر، ونتف اللحى.
33- لَمّا صارت الكميّة بقدر خمسماية رجل، ساقوهم مثل الذين سبقوهم، موثوقين بالحبال والسلاسل الحديديّة. إلاّ أنّهم عوملوا بخلاف مَن سبقوهم. فبمنتصف الطريق، قسموهم إلى قسمين، فذبحوا الشطر الأوّل، وكانت غالبيّتهم من طائفة الأرمن ومن أهل ناحية تلّ أرمن. والشطر الثاني أبقوه بالمغارة لليوم الثاني. ولا تسل كيف بات أولئك الشهداء تلك الليلة. وعند الصباح، قدم عليهم أحد الضباط من ديار بكر، واستلم القسم الحيّ الباقي، وأوصلهم إلى ديار بكر. وبعد أن وضعوهم بأحد الخانات ثلاثة أيّام، عادوا بهم ثانية إلى ماردين. وبعد عودتهم بيومين، أخلوا السريان الكاثوليك والكلدان منهم، وأبقوا الأرمن فقط.
34- بهذا الحال لم يطلع أحد على الشارع من الأرمن، وصاروا يدخلون البيوت، ويقبضون على الرجال والشباب، بعد معاملة وحشيّة للنساء والفتيات العذارى، بشكل لم يأت به أقسى البرابرة. وما من عرض سلم، وما من قطعة أثاث إلاّ ونُهبت. وعلى هذا المنوال، جمعوا ما يعادل خمسماية رجل آخر، وأخرجوهم عن طريق شرقي المدينة. ولم يعلم أحد بخروجهم، لأنّ المسيحيين قاطنون غربي البلدة، وأوصلوهم إلى قرية دارا. وكانت هناك إحدى الآبار الكبيرة مقبرتهم بعد تعذيبهم. وكان أحد الشبّان الأقوياء رمى حاله بالبئر قبل أن يُقتل. وبعد أن انتهت المعركة خرج من البئر، وتاه في البريّة، واسمه الياس نزار ، وعاش مدّة طويلة، ومات في بيروت.
35- كان واجب الجلاّدين أن يمحوا ما بقي من توالي الأرمن المسنّين والفقراء وحتّى الفتيان منهم. وقد التزمتُ البيت لمدّة أيّام خوفًا من ذلك، وانتظارًا لدوري الذي كان على غير أسلوب. وكان جمع مقدار ألفين شخص وهم بقايا هذه الطائفة السيئة الحظّ.
دور النساء والأطفال
36- هذا ما كان يحلّ ويجري بمدينة ماردين. أمّا القرى القريبة والبعيدة، فكانت العشائر الكرديّة والعربيّة تقوم بالواجب على خير قيام، فيقتلون الرجال، وينهبون البيوت، ويسبون النساء. وهذا ما يستأهله الكافر، وهو المسيحي، حسب معتقدهم. وكنّا نشاهد القرى وهي تحترق. ومن أقرب القرى إلى مدينة ماردين قرية المنصورية التي تبعد نحو نصف ساعة على الأقدام، ونقدر أن نقول أنّ سكّان هذه القرية من السريان اليعاقبة. فبعد أن قتلوا رجالها، وأحرقوا الدور، تجمّع بعض النسوة منهم متجهات نحو دار الحكومة، وهنّ يرقصن ويقلن: الله ينصر السلطان، الله ينصر السلطان. وما إن اقتربن من دار الحكومة حتّى قابلهنّ رجال المليس 11 بالعصي واللكم حتّى هربن جميعًا، وقلوبهنّ لا شكوى إلاّ لله. وهذا ما حلّ بالقرى.
37- أمّا ماردين، فبعد أن أنهوا واجباتهم بقتل الرجال، جاء دور النساء والأطفال. وكان ذلك بأواخر شهر حزيران. وفاتحة هذا العمل كان لبعض أوجه عائلات الأرمن، ومنهم جنانجي، كسبو، بوغوص، شلّمي، آدم، جرما، كندير، وعائلة المطران اغناطيوس مالويان، وسركي. وكان بينهم مقدار عشرة رجال تمكّنوا من الإفلات من المذابح الأولى، وبينهم شكري كاسبو، إبن عمّ والدي. والذي مكّنه هذا الإفلات المؤقّت ألوف الليرات الذهبيّة. كما كان معهم دير أوهانّيس سركي، النائب الأسقفي للأرمن بماردين، والذي كان عمره فوق الثمانين. مجموع هذه العائلات نحو سبعين فردًا. فأبلغوهم أن يستعدّوا صباح الغد للسفر إلى ملاقاة رجالهم، ووضعوا على أبوابهم حراسة، وأفهموهم بأن لا يأخذوا زوّادة لأكثر من ثلاثة أيّام.
38- في صباح اليوم الثاني، جاؤوا بعربات نقل وأركبوهم بها، وأخذوا معهم كلّ ما شاؤوا من حلي ودراهم ومتاع. وبعد أن أُعيدت قراءة أساميهم، ساروا بالمدينة نحو الشرق، محاطين بعساكر المليس، إلى أن وصلوا إلى قرية تُدعى عبد الإمام. أُوقفوا هناك، وطلب إليهم ممدوح بك أن يسلّموا كلّ ما لديهم من دراهم وحلي وأشياء ثمينة. وجمع هذه الأشياء، وأخذ الرجال وسلّمهم إلى زبانيته. «فما إن بعدوا قليلاً حتّى بتنا نسمع أصوات طلقات ناريّة كنّا نراها موجّهة لرجالنا. وبعد لحظات وجدنا حالنا محاطين بالبدو والأكراد وصار الضرب موجّهًا علينا. فأخذوا ما بقي معنا من ملبوسات، وأصبحنا عراة كما خُلقنا. وهجموا علينا كالوحوش الضاربة. ولا تسل عن ما جرى لهذه النسوة وعن عفافهنّ. فالتي قاومت اغتصابها وهي حيّة اغتصبوها ميتة.» 12
39- عزيزي، ربّما لا تصدّق أنّ هذه الأعمال يرتكبها إنسان. لا بل صدّق وأكثر. فإنّهم لم يرحموا ولم يعرفوا الأخلاق والوجدان. وهيهات أن يكون هناك ضمير وأخلاق. وقد اختطفوا بعض الفتيات والأطفال وأبقوهم لديهم، إلى أن تمكّن بعض ذويهم للحصول عليهم لقاء مبالغ مغرية. وهؤلاء نقلوا لنا ما جرى لهم ولذويهم بتلك المعركة. عاد ممدوح بك إلى ماردين، مدّعيًا أنّهم وصلوا لرأس العين، ومن هناك يذهبون لحلب لعند رجالهم. وإنّه صدق بقوله. أوصلهم لرجالهم المذبوحين حيث تلاقى المذبوح مع المذبوح.
40- بعد خمسة أيّام، أُعيدت الكرة وأُعطيت الأوامر للاستعداد للسفر لبعض العائلات، من الجملة عائلتنا. وكان بينها عائلتان من السريان الكاثوليك، وهما معمارباشي ودقماق. وأعطونا مهلة أربعًا وعشرين ساعة للاستعداد. وكنت أنا مع والدتي وأخي عبد الكريم. فجاء ممدوح بك وسجّلوا الأسماء، وأعطونا حميرًا لركوبنا وحمل ما لنا. فأخذنا بعض الأمتعة القليلة، وسرنا نحو غرب المدينة عن طريق العقبة. وبعد طلوعنا من المدينة، طلب ممدوح بك من الكلّ أن يسلّموه كلّ ما لديهم من نقود وحلي. وكان البعض أخفى بعض دراهمه، فأخذ غنيمته وسرنا بطريقنا. وقبل أن نخرج عن الدار أخذ الشرطي الموكّل بكتابة أسامينا كلّ ما راق له وأرضاه.
41- كنّا نسير بطريق العقبة، وشاهدنا أوّل بقايا من رجل محروق، إلاّ إنّ يديه كانتا كاملتين. وتصوّر مدى هذا المنظر على هؤلاء النسوة والأطفال. وباعتقادي إنّ ذلك كان بعد نصف تموز، ولم أتذكّر التاريخ بالتمام. وكانت الحمير التي أُعطيت لنا هزيلة، لا تقدر على الحمل. وكنّا نمشي الطريق ومعنا بعض الزوّادة. وعندما أصبحنا بالبريّة، ماذا كنّا نشاهد؟ نرى البعض لم يلفظ أنفاسه، والآخر لفظها من قليل. وهناك كومات من العظام، وبقايا أرجل وأيادي لم يصبها الحريق، وهي شاهدة للعدالة على الأعمال البربريّة التي افتعلوها.
42- كان الحرّ شديدًا، ونحن بشهر تموز، والأراضي صحراويّة، ولا أثر لأي زرع أو خضار. وكان المساء، وبتنا بالبريّة، وكانت ليلة قمراء. ونهضنا باكرًا، وسرنا بالطريق نحو راس العين. وما إن وضح النهار حتّى صرنا نشاهد الأجساد على الطريق، والروائح تزداد كلّما ازدادت الحرارة والتي مصدرها الآبار المليئة بجثث القتلى.
43- وإذ كنّا بمنتصف النهار رأينا خيّالة من بعيد قادمة إلينا، وكان قائد هذه القافلة شيخوس شهتنه 13 وهو برتبة يوزباشي. 14 وفهمنا من أحد الجنود الذين معنا أنّه أوصى بنا خيرًا. وعندما تقدّمت الخيّالة إلينا، صرنا نصلّي ونقول فعل الندامة واستعددنا للموت، واللحاق بالجثث الكثيرة التي حولنا. لكنّ القائد أمر بدقّ البوري، 15 وتجمّع الجنود حلقة حولنا. ونحن ماشين في هذه البراري الحارّة، وإذ نرى أنّ قوم الخيّالة يتركونا ولغير طريق. عندئذ عرفنا قد سلمنا. ولكنّ الجوع والعطش أنهكنا حتّى إنّ بعض الجنود أُغمي عليهم من شدّته. وسرنا هكذا إلى أن وصلنا إلى منطقة تُدعى الجرجب، حيث الماء. والجرجب هذا هو نهر يجري شتاءً، وينقطع صيفًا، إلاّ إنّه يبقى في بعض أماكنه العميقة بعض الماء في بعض المدّة، وبهذا الشكل يبقى ماءً كريهًا ذا لون أحمر ورائحة كريهة، وتطوف على وجهه بعض الأوساخ. فانكببنا نشرب هذا الماء بشهيّة ولذّة، وكأنّي لم أشرب ألذّ من هذا الماء مدّة حياتي.
44- كان الوقت قريب العصر. وبعد استراحة قصيرة، تابعنا سيرنا نحو راس العين. ولمّا أتى المساء، أمرنا وبتنا كذلك بالبريّة حتّى الفجر. عندئذ تابعنا السير نحو راس العين، فوصلناها والشمس علت. فماذا كان براس العين؟ ألوفًا مؤلفة من نساء وشيوخ وأطفال الأرمن بتلك البريّة الواسعة، بين البدو والجركس. ولم يكن يتوفّر لهم سوى ماء الخابور. وأذكر أنّ أحد الجنود جلب لإحدى الصبايا الأرمن صحن طبيخ من المطعم. وكانت تأكل بدون وعي، ولا تنظر إلى وجه أحد. وكنتُ فتى لا أعرف مدى هذا السخاء، ومنظر هذه الفتاة…
45- كانت والدتي خبأت بين بعض ثيابها بعض المال. فكنّا نأكل من زوّادتنا، ونشتري ما نجده بأغلى الأثمان. ولا تسل أين المنام وأين العيش. ونفيق صباحًا والروائح قتّالة والحرّ شديد. وكنّا نرى صبايا الأرمن المغتصبات من الشركس وهنّ حاملات جرارهنّ ليملأنها من الخابور ماء. وبقينا في راس العين نحو أسبوع. عندئذ نادى القائمقام بالبلدة أنّ الذي يرغب السفر لحلب يمكن ذلك. ولكن من أين المال، وأجرة الراكب ليرة عثمانيّة إلى حلب بالقطار! ولكن الذي كان خبأ بعض الشيء تمكّن من ذلك.
46- عند الصباح حملنا ما لدينا من بعض الأمتعة وقصدنا محطّة القطار. وباعتقادي أنّ ذلك بأوّل شهر آب سنة 1915. ووصلنا حلب وكان الظلام قد حلّ. وقد يَسّرَ لنا الله شخصًا يعرف ابن عمّ والدي سعيد كسبو. فحضر إلى المحطّة، أخذنا إلى داره. كافأه الله جزاء حيث نمنا بتلك الليلة نومًا هادئًا. وباليوم الثاني وجدنا أنّ باحات الكنائس والمدارس ملآنة بالأرمن القادمين من منطقة كيليكيا. وبعد أن مكثنا بضيافة العمّ مدّة، وجدنا لنا غرفة صغيرة نأوي إليها.
47- كان مرض التيفوس وغيره من الأمراض تحصد حصدًا. فمن أين المال لنسدّ رمق هؤلاء الجماهير التي تموت بالأزقّة والطرقات؟ والشرطة تلاحقهم وتجمعهم بمنطقة قارلّق، 16 تسوقهم إلى البراري والصحراء ويُقبَرون هناك. وكانت منطقة قارلّق سوقًا لبيع وشراء الأرمن. فالتي تبيع ولدها بأبخس الثمن، لا تعلم إذا كانت تسلّمه إلى إنسان ليبقى حيًّا أم لتأخذ هي حقّه لتعيش به بعض الأيّام ثمّ تموت.
48- أمّا شعب ماردين، فإنّ لغتنا العربيّة خلّصتنا من هذه الويلات، وصرنا نعمل هنا وهناك لنحصل على قوتنا. وكان والدي قد جمع ما لدينا من دراهم وحلي وأشياء ثمينة وأرسلها إلى المطران إسرائيل أودو، مطران الكلدان. وببعض الصعوبات، كنّا نحصل على دراهم يحوّلها لنا لحلب. وكانت لي أخت صغيرة عمرها ستّ سنوات، تركناها عند أختي الكبيرة والتي زوجها من السريان الكاثوليك، باقية في ماردين. فإنّها بلا شكّ كانت ستموت بالطريق. وأخيرًا جلبتها معها خالتي كريمة لأنّها سريانيّة وعاشت معنا.
49- كنّا نفتّش عن عمل لنقدر أن نعيش، والمال الذي لدينا يخلص. فمثلاً عملتُ عند أحد باعة الحلوى، وأعطاني بعض القطع بصينيّة لأبيعها، وأنا أنادي عليها. فكنت أستحي من هذه المناداة وأخجل، مفتكرًا أنّ رفاقي بالمكتب هم ورائي، ويسخرون من حالتي هذه التي لم أكن قد اعتدت عليها. ومع مرور الأيّام، اعتدنا على الفقر والتعاسة طوال تلك الأيّام.
50- لنرجع إلى ماردين، حيث تركناها قبل غيرنا، فصار الشرطة يدخلون البيوت ويُخرجون مَن كان فيها، هو وأطفاله وشيوخه على الأقدام، حيث لا شجر ولا دوابّ. هذا ما كان ينقله لنا بعض الذين وردوا لحلب. وساقوا الكثيرين إلى دير الزور، حيث ماتوا بالطريق، وبعض الأخر أركبوهم القطار، وساقوهم إلى أبعد المناطق السوريّة آنذاك. فكان البعض منهم يتمكّن من الهرب والنزول بحلب، والآخر بحمص وبعلبك. ورحل قسم منهم إلى الطفيلة. 17 وكان لنا كثير من الأقارب هناك، وعاشوا بخدمة البدو والعربان، بالذلّ والشقاء. والذين أُخرجوا إلى ضاحية حلب قارلّق، كانوا يسوقونهم إلى الباب، منبج ومسكنة والرقّة والشدّادة. وأخيرًا، جمعوهم بهذه المنطقة، وسلّطوا عليهم البدو والجركس، وقتلوهم دفعة واحدة. ويُقال أنّ الذين قُتلوا بهذه المجزرة الفظيعة مقدار خمسين ألفًا، جُمعت عظامهم وكانت تلاًّ كبيرًا.
51- هذا ما حفظته وشاهدته من تعاسة هذا الشعب. وبالطبع لم يكن من الممكن أن يُسطّر كلّ حادث بيومه، إلى أن حنّ الله علينا وانتهت الحرب، وصرنا قادرين أن نمشي بالشارع. والذي لم يكن يصدّق ما قيل الآن، وإذا كانت هذه بعض كلماتي التي أسجّلها، ولكن الحقيقة كي يُعطى الوصف حقّه. فإنّ كلّ أرمني رأى ما لم يره سواه، ولهذا نحتاج لمجلّدات ضخمة لتسجيل حقيقة ما حصل. ونطلب من الله أن يعطينا القوّة لاحتمال ما جرى، والصبر على ذلك، وهو السميع المجيب.
1 راجع ما كتبه الأب فيكتور مستريح، الراهب الفرنسيسكاني، وحقّقه في النصّ الأصلي، وأصدره في مجلّة دراسات شرقيّة مسيحيّة، مجموعة 29-30، أبحاث-وثائق، مؤلفات المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقيّة المسيحيّة، مطبعة الآباء الفرنسيسيين، القاهرة-القدس، 1998، ص. 17-35.
2 تشمل الجزيرة اليوم المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا حيث محافظات الرقة ودير الزور والحسكه.
3 الشمسيّة جماعة كانت تعبد الشمس، اعتنق أفرادها المسيحيّة على الطقس السرياني، لكنّهم بقوا مترابطين لبعضهم لوقت ما.
4 أي كنيسة مار جرجس للأرمن الكاثوليك.
5 أي خميس الجسد.
6 رئيس الشرطة.
7 أي الميليشيا.
8 كلمة تركيّة تعني ثكنة العسكر.
9 وهم على قيد الحياة.
10 المسيحيّون في ماردين هم أرمن وسريان. بما أنّ الأرمن هم الأكثر عددًا، كان يُطلق على كلّ مسيحي كاثوليكي تسمية أرمني. أمّا السريان فكان يُراد بهم السريان الأرثوذكس.
11 راجع الحاشية 6
12 استعار الكاتب هذا الوصف من أحد الناجين.
13 إسم غريب لا وجود له في المراجع الأخرى.
14 أي نقيب.
15 آلة نفخيّة ذات ثقوب تُصنع من القصب أو من المعدن.
16 من أحياء حلب.
17 منطقة في الأردن.